الزُهَرَةُ البَارِقَة
لِمَعرِفَةِ أَحوَالِ المَجَازِ وَالحَقِيقَة
تَألِيْفُ
الْعَلَّاْمَةِ المُحَقّقِ الْفَقِيْهِ الْأُصُوْلِيّ
الحَاْجّ السَّيِّد مُحَمَّد بَاْقِر المُوْسَوِيّ الشَّفْتِيّ قُدِّسَ سِرُّه
المَعْرُوْف بِحُجَّةِ الْإِسْلَاْمِ عَلَى الْإِطْلَاْق
(1180 - 1260 ق)
تَحْقِيْقُ
السَّيِّد مُحَمَّد الرِّضَا الشَّفْتِيّ
ص: 1
ص: 2
الباب الرابع
ص: 3
ص: 4
اعلم: أنّ الوضع ينقسم باعتبارات مختلفة إلى أقسام متعدّدة؛ لأنّه بالنسبة إلى الموضوع ينقسم إلى: الشخصيّ والنوعيّ، وقد تقدّم تحقيقهما في المقدّمة.
وباعتبار الوضع والموضوع له ينقسم بحسب الاحتمالات العقليّة إلى أقسام أربعة؛ لأنّ الوضع -أي المعنى المتصوّر حال الوضع(1)- والموضوع له كليهما إمّا خاصّ أو عامّ، أو الثاني الأوّل والأوّل الثاني، أو بالعكس، ويجيء تحقيقها في الخاتمة بإعانة الله سبحانه(2).
لا يقال: إنّ المعنى المتصوّر والموضوع له متّحد، فلا معنى لهذه القسمة، وأيضًا لمّا كان المعنى المتصوّر والموضوع له متّحدًا، فلا محالة إن كان المعنى خاصًّا كان الموضوع له كذلك، وإن كان عامًّا فكذلك، فلا يتصوّر الاختلاف.
لأنّا نقول: الاتّحاد ممنوع؛ لأنّ المعنى المتصوّر إنّما يطلق عليه لفظ الموضوع له إذا عيّن له اللفظ، وأمّا عند تصوّره مع عدم التعيين فإنّما يسمّى بالوضع، لا
ص: 5
الموضوع له، وهما قد يتّحدان بالذات، كما إذا كان الوضع عامًّا والموضوع له كذلك، أو كلاهما خاصًّا، لكنّهما مختلفان بالاعتبار على ما عرفت من أنّه باعتبار تعقّله حال الوضع يسمّى بالوضع، ومن حيث إنّه عيّن له اللفظ يسمّى بالموضوع له، وقد يفترقان ذاتًا أيضًا كما في غيرهما، وهو ظاهر.
وباعتبار الواضع ينقسم إلى: وضع شرعيّ، وعرفيّ خاصّ أو عامّ، ولغويّ(1)؛ لأنّ تعيين اللفظ بإزاء المعنى إمّا مستند إلى الشارع، أو العرف، أو أهل اللغة، ويسمّى التعيين في الأوّل بالوضع الشرعيّ، والثاني بالعرفيّ، والثالث باللغويّ، واللفظ بالحقيقة الشرعيّة والعرفيّة واللغويّة على التفصيل المذكور.
والكلام في هذا المقام في بيان هذه الأقسام وما يترتّب عليها من الأحوال والأحكام، فنقول: تحقيق الحال فيها يستدعي التكلّم في فصول:
ص: 6
وتحقيق الكلام فيها يقتضي التكلّم في بيان الشارع وماهيّتها وثبوتها والثمرة المترتّبة عليها، فهنا مباحث:
في تعيين الشارع
[المبحث] الأوّل: في تعيين الشارع(1)
اعلم: أنّ المستفاد من جملة من الآيات القرآنيّة أنّه هو الله سبحانه، منها: قوله تعالى في سورة الجاثية مخاطبًا إلى سيّد رسله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾(2)، وجه الدلالة ظاهر؛ إذ الشارع هو جاعل الشرع وقد دلّت الآية الشريفة أنّه هو الله تعالى، وهو المطلوب.
ومنها: قوله تعالى في سورة المائدة: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾(3).
الشرعة والشريعة بمعنى(4)، والشريعة على ما قال بعضهم:
ص: 7
الطريقة إلى الماء، استعيرت للطريقة المتحقّقة في الدين؛ لكونها موجبة للحياة الأبديّة(1).
قال ابن أثير في تفسير الآية الشريفة حاكيًا عن ابن عرفة:
الشرعة والشريعة سواء، وهو الظاهر المستقيم من المذاهب(2).
ومثله قال في القاموس(3).
وجه الدلالة على المدّعى ظاهر.
ومنها: قوله تعالى في سورة الشورى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾(4)، وجه الدلالة: هو أنّ الضمير في «شرع» عائد إلى الله سبحانه، فيكون الشارع هو الله تعالى.
وأيضًا أنّ «شرع» على ما في القاموس وغيره(5) بمعنى سَنَّ(6)، والظاهر المتبادر من قولك: «سَنَّ فلان الأمر» وضعه وقرّره، فيكون الشارع بمعنى واضع الشرع
ص: 8
والسنّة والطريقة ومقرّرها؛ ومعلوم أنّه الله سبحانه.
وهذه جملة من الآيات القرآنيّة يستفاد منها أنّ الشارع هو الله سبحانه، وهو المتبادر من لفظ «الشارع» أيضًا، إذ المفهوم منه جاعل الشرع، وهو الله تعالى.
لكن قال في مجمع البحرين: «إنّ الشارع هو النبيّ » (صلی الله علیه و آله) (1).
وهو الّذي يظهر من جماعة من الأعلام(2)، قال في كشف اللثام بعد أن حكم بأنّ قطع همزة «الله» في تكبيرة الإحرام أحوط:
لأنّه المعهود من الشارع ونوّابه(3).
بل نسبه بعض أماجد عصره وأواحد زمانه(4) إلى الأصوليّين، حيث قال: والظاهر من كلام القوم وغيرهم أنّ الشارع هو النبيّ (صلی الله علیه و آله) (5).
فحينئذٍ يكون الشارع بمعنى صاحب الشريعة، أي لم يكن تابعًا لشريعة غيره، ويكون اللفظ من المنقولات العرفيّة.
ص: 9
ويمكن أن يكون إطلاقه عليه (صلی الله علیه و آله) بالمعنى الأوّل أيضًا، بأن يكون الشارع بمعنى جاعل الشرع مشتركًا بينه تبارك وتعالى وبين نبيّه (صلی الله علیه و آله)؛ بناءً على ما يستفاد من النصوص المستفيضة من ثبوت التفويض إليه في جملة من الأحكام الشرعيّة، كالنصوص الدالّة على أنّه (صلی الله علیه و آله) زاد في عداد الصلاة اليوميّة، وجعل النافلة في الصلاة والصوم ضعف الفريضة، ونصب للجدّ السدس في الإرث، وحرّم المسكر عدا الخمر، وأثبت الدية للعين والنفس(1).
منها: الصحيح المرويّ في الكافي والفقيه، في باب «فرض الصلاة»، عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) أنّه قال في عداد ركعات الصلاة: «كان الّذي فرض الله (عزوجلّ) (2) على العباد عشر ركعات وفيهنّ القراءة وليس فيهنّ وَهْم -يعني(3) سهوًا- فزاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) سبعًا وفيهنّ السهو(4) وليس فيهنّ قراءة»(5)، الحديث(6).
ومنها: الصحيح المرويّ في الباب المذكور من الكافي، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «عشر ركعات، ركعتان من الظهر وركعتان من العصر وركعتا الصبح وركعتا المغرب
ص: 10
وركعتا العشاء الآخرة لا يجوز الوهم فيهنّ، ومَن وهم في شيء منهنّ استقبل الصلاة استقبالًا، وهي الصلاة الّتي فرضها الله (عزوجلّ) على المؤمنين في القرآن وفوّض إلى محمّد (صلی الله علیه و آله) فزاد النبيّ (صلی الله علیه و آله) في الصلاة سبع ركعات، وهي سنّة ليس فيهنّ قراءة»(1).
ومنها: صحيحة فضيل بن يسار المرويّة في الكافي في باب «التفويض إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) »، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: «إنّ الله (عزوجلّ) أدّب نبيّه فأحسن أدبه، فلمّا أكمل له الأدب قال: ﴿إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(2)، ثمّ فوّض إليه أمر الدين والأمّة ليسوس(3) عباده، فقال (عزوجلّ): ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(4)، وإنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) كان مسدّدًا موفّقًا مؤيّدًا بروح القدس، لا يزلّ ولا يخطئ في شيء ممّا يسوس به الخلق، فتأدّب بآداب الله.
ثمّ إنّ الله (عزوجلّ) فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات، فأضاف رسول الله (صلی الله علیه و آله) إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة، فصارت عديل الفريضة، لا يجوز تركهنّ إلّا في سفر، وأفرد الركعة في المغرب، فتركها قائمة في السفر والحضر، فأجاز الله (عزوجلّ) له ذلك كلّه، فصارت الفريضة سبع عشر ركعة.
ثمّ سنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) النوافل أربعًا وثلاثين ركعة مِثْلَي الفريضة، فأجاز الله (عزوجلّ) له
ص: 11
ذلك، والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة، منها ركعتان بعد العتمة جالسًا تعدّ(1) بركعة مكان الوتر، وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان، وسنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) صوم شعبان وثلاثة أيّام في كلّ شهر مِثْلَي الفريضة، فأجاز الله (عزوجلّ) له ذلك، وحرّم الله (عزوجلّ) الخمر بعينها، وحرّم رسول الله (صلی الله علیه و آله) المسكر من كلّ شراب، فأجاز الله له ذلك كلّه.
وعاف(2) رسول الله (صلی الله علیه و آله) أشياء وكرهها ولم ينهِ عنها نهي حرام، إنّما نهى عنها نهي إعافة(3) وكراهة، ثمّ رخّص فيها، فصار الأخذ برخصته(4) واجبًا على العباد، كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه، ولم يرخّص لهم رسول الله (صلی الله علیه و آله) فيما نهاهم عنه نهي حرام ولا فيما أمر به أمر فرض لازم، فكثيرُ المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام لَمْ يرخّص فيه لأحد، ولم يرخّص رسول الله (صلی الله علیه و آله) لأحد تقصير الركعتين اللّتين ضمّهما إلى ما فرض الله (عزوجلّ)، بل ألزمهم ذلك إلزامًا واجبًا لم يرخّص لأحد في شيء من ذلك إلّا المسافر(5).
وليس لأحد أن يرخّص [شيئًا](6) ما لم يرخّصه رسول الله (صلی الله علیه و آله) فوافق أمرُ رسول
ص: 12
الله (صلی الله علیه و آله) أمرَ الله (عزوجلّ) ونهيُهُ نهيَ الله -عزّ وجلّ ذكره- ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى»(1).
ومنها: الخبر المرويّ في الباب أيضًا عن محمّد بن سنان، عن إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه قال: «إنّ الله تبارك وتعالى أدّب نبيّه (صلی الله علیه و آله) فلمّا انتهى به إلى ما أراد قال له: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(2)، ففوّض إليه دينه فقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(3)، وإنّ الله (عزوجلّ) فرض الفرائض ولم يقسم للجدّ شيئًا، وإنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) أطعمه السدس، فأجاز الله -جلّ ذكره- له ذلك، وذلك(4) قول الله (عزوجلّ): ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(5)»(6).
ومنها: الخبر المرويّ في الباب أيضًا عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «وضع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ديّة العين وديّة النفس، وحرّم النبيذ وكلّ مسكر، فقال له رجل: وضع رسول الله (صلی الله علیه و آله) من غير أن يكون جاء فيه شيء؟ قال: نعم، ليعلم من يطيع الرسول ممّن يعصيه»(7).
ص: 13
وهذه جملة من النصوص الواردة في هذا الباب، والمستفاد منها ومن غيرها ثبوت التفويض في الأحكام إلى النبيّ - عليه وآله الصلاة والسلام - ومقتضاه أنّ الأحكام المفوّضة إليه (صلی الله علیه و آله) لم يسبق فيها من الله تعالى وحيٌ ولا خطاب بتحريم أو إيجاب، بل الحاكم فيها وواضعها النبيّ، ولا شبهة أنّ تلك الأحكام من السنّة والشريعة، فيكون واضعها شارعًا بالمعنى المذكور، أي جاعل الشرع.
ثمّ إنّ التفويض بهذا المعنى وإن دلّت عليه النصوص المذكورة وأمثالها، إلّا أنّه يتوجّه عليه الإشكال من وجوه(1):
الأوّل: أنّ المفهوم من الحديث الأوّل والثاني أنّ التفويض المذكور إليه (صلی الله علیه و آله) إنّما هو بعد أن تشرّف بخطاب: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(2)، وهو في سورة القلم، فيلزم أن يكون قبل نزول تلك السورة لم تكن صلاة الظهر مثلًا أربع ركعات، بل ركعتين، وهو ممّا لا يُلتزم.
والثاني: أنّه لا يخفى أنّ أحكام الله تعالى هو ما حكم الله تعالى به ووضعه، والمفروض أنّ الأحكام المذكورة لم يرد فيها منه تعالى وحيٌ ولا خطاب، فلا يكون حكم الله تعالى، والضرورة قاضية بفساده.
والثالث: هو أنّه ينافي قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ
ص: 14
يُوحَى﴾(1)، أي ليس منطوق النبيّ (صلی الله علیه و آله) إلّا وحيًا يوحى من الله تعالى إليه، وهو لا يجتمع مع جعل الأحكام من قبل نفسه.
ويمكن الجواب، أمّا عن الأوّل: فبأنّه ما المانع عن التزام كون صلاة الظهر مثلًا(2) ركعتين قبل نزول سورة القلم، وبعد نزولها صارت أربع ركعات، وقد نقل عن ابن عبّاس(3) أنّ أوّل ما أنزل بمكّة: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾(4)، ثمّ ﴿ن وَالْقَلَمِ﴾(5) إلى آخره(6).
مضافًا إلى أنّه روى ثقة الإسلام -نوّر الله تعالى روضته- في باب النوادر من أواخر كتاب صلاة الكافي، عن عبد الله بن سليمان العامريّ، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «لمّا عرج برسول الله (صلی الله علیه و آله) نزل بالصلاة عشر ركعات ركعتين ركعتين، فلمّا ولد الحسن والحسين (علیهما السلام) زاد رسول الله (صلی الله علیه و آله) سبع ركعات شكرًا لله، فأجاز الله له ذلك، وترك الفجر لم يزد فيها لضيق
ص: 15
وقتها؛ لأنّه تحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار»(1)، الحديث(2).
وعلى فرض تسليم ذلك نقول: إنّ جزئيّة قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(3) لسورة القلم غير مستلزمة لعدم توجّهه(4) إليه (صلی الله علیه و آله) قبل نزولها حتّى يلزم أن لا تكون صلاة الظهر أربع ركعات قبل نزولها كما لا يخفى.
وأمّا عن الثاني: فبأنّه تعالى حكيم والحكيم لا يفوّض الأمر إلّا بعد علمه بأنّ المفوّض إليه قد بلغ في الكمال والرتبة والشرف والفضيلة حدًّا يمكن اتّصاله به تعالى اتّصالًا معنويًّا وقربه منه سبحانه غاية القرب قربًا روحانيًّا، فيطّلع بذلك إلى مرضيّاته ومزجوراته، فيخبر بذلك ويحكيه عنه، ولا شبهة في صدق حكم الله تعالى بالنسبة إلى أمثاله، ولذا كان الله تعالى يجيزه(5) ويمضيه في أمثال ذلك، ومنه يعلم الجواب عن الثالث.
ص: 16
ثمّ هنا إشكال آخر أصعب ممّا ذكر، وهو أنّ وضع الأحكام من النبيّ (صلی الله علیه و آله) وتقريرها منه إنّما يتأتّى إذا لم يرد فيها من الله تعالى وحيٌ ولا خطاب، وهو فاسد، إذ المفهوم من جملة من الآيات القرآنيّة وتظافرت به النصوص المعتبرة أنّه تعالى ما فرّط في الكتاب من شيء، كما قال سبحانه: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾(1) ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾(2)، وقال (عزوجلّ): ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾(3).
وفي العيون في باب ما جاء عن الرضا (علیه السلام) في وصف الإمامة والإمام وذكر فضل الإمام ورتبته: عن قاسم بن مسلم، عن أخيه عبد العزيز بن مسلم، قال: «كنّا في أيّام عليّ بن موسى الرضا (علیه السلام) بمَرْوَ، فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم الجمعة في بدو(4) مَقْدَمِنَا، فأدار الناس(5) أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلافهم(6) فيها، فدخلت على سيّدي ومولاي الرضا (علیه السلام) فأعلمته ما خاض الناس فيه، فتبسّم (علیه السلام) ثمّ قال: يا عبد العزيز، جهل القوم وخُدعوا عن أديانهم، إنّ الله لم يقبض نبيّه (صلی الله علیه و آله) حتّى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن، فيه تفصيل كلّ شيء، بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام
ص: 17
وجميع ما يحتاج إليه كملًا، فقال (عزوجلّ): ﴿فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾(1)»(2).
وروى في الكافي عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئًا تحتاج إليه الأمّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله » (صلی الله علیه و آله) (3).
وعن أبي عبد الله (علیه السلام)، أنّه قال: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل في كتاب الله (عزوجلّ) (4)، ولكن لا تبلغه عقول الرجال»(5).
وعنه (علیه السلام) أيضًا أنّه قال: «إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كلّ شيء، حتّى والله ما ترك الله شيئًا يحتاج إليه العباد حتّى لا يستطيع عبدٌ يقول: لو كان أُنْزِلَ هذا(6) في القرآن إلّا وقد أنزله الله فيه»(7).
وفي الكافي أيضًا في باب أنّه لا يجمع القرآن كلّه إلّا الأئمّة (علیه السلام): عن عبد الأعلى مولى آل سام، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «والله، إنّي لأعلم كتاب الله من
ص: 18
أوّله إلى آخره كأنّه في كفّي، فيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر ما كان وخبر ما هو كائن، قال الله (عزوجلّ): فيه تبيان كلّ شيء»(1).
وفيه في باب أنّ الأئمّة (علیه السلام) يعلمون علم ما كان وما يكون: «عن أبي عبدالله (علیه السلام) يقول: إنّي لأعلم ما في السماوات وما في الأرض، وأعلم ما في الجنّة، وأعلم ما في النار، وأعلم ما كان وما يكون. قال: ثمّ مكث هُنَيَّة(2)، فرأى أنّ ذلك كبر على من سمعه منه، فقال: علمت ذلك من كتاب الله (عزوجلّ)، إنّ الله (عزوجلّ) يقول: فيه تبيان كلّ شيء»(3). وغير ذلك من النصوص الكثيرة في هذا الباب.
وحاصل الإشكال: أنّه لو ثبت التفويض في الأحكام المذكورة؛ لما كانت تلك الأحكام مفهومة من كتاب الله تعالى، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.
أمّا الشرطيّة فلأنّ المفروض أنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) وضعها من غير خطاب منه تعالى، فلو كانت مفهومة من الكتاب لكان واضعها الله سبحانه بذلك الخطاب، فيخرج عن محلّ الكلام؛ وأمّا بطلان التالي فلما عرفت من الآيات والأخبار أنّه ليس شيء إلّا وقد يفهم من كتاب الله تعالى.
ص: 19
ويمكن الجواب عنه أيضًا بمنع الملازمة بأن يقال: إنّ وضع النبيّ (صلی الله علیه و آله) تلك الأحكام غير منافٍ لمفهوميّتها من كتاب الله تعالى.
بيان ذلك: هو أنّا نقول: إنّ ذلك إنّما يكون منافيًا لو كان التفويض بعد نزول القرآن بجملته، وليس الأمر كذلك؛ لما عرفت من الصحيح المذكور أنّه بعد تشرّفه (صلی الله علیه و آله) بخطاب: ﴿إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(1)؛ وهو جزء من سورة القلم على ما عرفت، وهي الثانية من السور النازلة على النبيّ (صلی الله علیه و آله) فيمكن أن يكون النبيّ (صلی الله علیه و آله) بعد أن فوّض الأمر إليه وقبل نزول سائر السور وضع تلك الأحكام، ثمّ نزلت هي على التدريج المبيّن في محلّه، وكان من جملة ما يفهم منها تلك الأحكام، فعلم عدم التنافي بين وضع النبيّ (صلی الله علیه و آله) الأحكام واندراجها في مفاهيم القرآن(2).
ثمّ لا يخفى أنّه قد مرّ أنّ من جملة الأحكام الّتي ورد النقل فيها بالتفويض: الزيادة في عداد الصلوات اليوميّة، ولا ينافيه الحديث المشهور الدالّ على أنّه تعالى أمر نبيّه في معراجه بخمسين صلاة وأنّه (صلی الله علیه و آله) قد مرّ بالنبيّين ولم يسألوه شيئًا
ص: 20
حتّى انتهى إلى موسى بن عمران (علیه السلام) فقال: بأيّ شيء أمرك ربّك؟ فقال: بخمسين صلاة، فقال: اسأل ربّك التخفيف، فإنّ أمّتك لا يطيق(1) ذلك، فسأل ربّه، فحطّ عنه عشرًا.
وهكذا صار الأمر بينه (صلی الله علیه و آله) وبين موسى (علیه السلام) إلى أن انتهى الخمسون إلى العشر، فقال موسى (علیه السلام): بأيّ شيء أمرك ربّك؟ فقال: بعشر صلوات، فقال: اسأل ربّك التخفيف، فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك، فإنّي جئت إلى بني إسرائيل بما فرض الله (عزوجلّ) عليهم، فلم يأخذوا به ولم يقدروا(2) عليه، فسأل النبيّ ربّه (عزوجلّ)، فخفّف عنه، فجعلها خمسًا.
ثمّ سأله (علیه السلام): بأيّ شيء أمرك ربّك؟ فقال: بخمس صلوات، فقال: اسأل ربّك التخفيف عن أمّتك، فإنّ أمّتك لا تطيق ذلك، فقال: إنّي لأستحيي أن أعود إلى ربّي، فجاء رسول الله (صلی الله علیه و آله) بخمس صلوات، انتهى الحديث ملخّصًا(3).
وجه عدم التنافي ظاهرٌ؛ فإنّ غاية ما يستفاد منه أنّ ما أمر الله تعالى به خمس صلوات ونحن نقول بموجبه، لكن نقول: إنّ المستفاد من جملة من النصوص أنّ تلك الصلوات الخمس كانت عشر ركعات وأضاف النبيّ (صلی الله علیه و آله) إليها سبعًا.
إن قيل: يمكن أن يستفاد منه أنّه لم يصدر من النبيّ (صلی الله علیه و آله) الزيادة، بل كان مجموع السبع عشرة ممّا أمره الله تعالى به، بناءً على أنّه (صلی الله علیه و آله) سأل الله (عزوجلّ) التخفيف حتّى
ص: 21
وصلت إلى ذلك الحدّ، بناءً على أنّ أمّته لا تطيق ذلك، فكيف يزيد عليه ما خفّف الله تعالى بسؤاله؟
قلنا: هذا إنّما يصلح أن يكون قرينة على ذلك إذا ثبت أنّ الصلوات الخمس الّتي خفّفها الله تعالى في الآخر كانت سبع ركعات ومساوية في الأذكار والأقوال لما زاده (صلی الله علیه و آله) وأنّى لك بإثبات ذلك، وحينئذٍ نقول: يمكن أن يكون المسئول(1) لتخفيفه أكثر وما زاده (صلی الله علیه و آله) أقلّ، فلا تنافي.
وقد ظهر من جميع ما ذكر أنّ إطلاق «الشارع» بمعنى جاعل الشرع في الجملة على النبيّ (صلی الله علیه و آله) صحيح، ولا تنافيه الآيات المتقدّمة أيضًا؛ لأنّ غاية ما يستفاد منها كون الله (عزوجلّ) شارعًا بهذا المعنى، وهو ممّا لا ريب في صحّته، وأمّا انحصاره بالمعنى المذكور فيه تعالى فلا؛ إذ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه. نعم، لو قيل باختصاص الشارع بذلك المعنى بالرسول (صلی الله علیه و آله) لكان التمسّك بتلك الآيات لردّه وجيهًا، لكن لم نقل به.
ومحصّل الكلام في هذا المقام هو أن يقال: إنّ الشارع إمّا بمعناه المتبادر، وهو جاعل الشرع، أو صاحب الشرع؛ وأيّ منهما كان يكون إطلاقه على الله تعالى وعلى رسوله حقيقة وإن كان بالمعنى الأوّل ظاهرًا في الأوّل وبالمعنى الثاني ظاهرًا في الثاني، ويمكن أن يكون إطلاق الشارع عليه-صلوات الله عليه وآله- لكونه آتيًا بالشرع.
ص: 22
وكيف ما كان، فلا يكون الأئمّة الأطهار الّذين بهم يتوصّل إلى رضاء(1) الجبّار ويتخلّص من عقاب القبر وعذاب النار شارعًا بشيء من المعاني المذكورة، بل هم من المتشرّعين، أي متعبّدين بشريعة جدّهم صلوات الله عليهم.
والحكم بكونهم (علیه السلام) من المتشرّعين بالمعنى المذكور، لا يوجب الإهانة بالنسبة إليهم؛ إذ انتسابهم (علیه السلام) إليه - صلوات الله عليه وآله - فخر لهم، كما يظهر من أخبارهم المرويّة وأدعيتهم المأثورة.
وكون غيرهم مشاركًا معهم في الوصف المذكور أيضًا غير مضرٍّ في ذلك؛ لثبوت المشاركة معهم (علیه السلام) لغيرهم في كثير من الأمور كما لا يخفى، فليكن هذا من ذاك.
هذا هو الظاهر من جماعة من الأعلام، قال شيخنا الشهيد في الذكرى: «اللَّبِنَةُ وَالآجُرّةُ هي المعتادة في بلد صاحب الشرع وأهل بيته» (علیهم السلام) (2).
وقال سلطان العلماء في حاشية المعالم:
«يبقى(3) التأمّل في أنّ الاستعمالات الشائعة في كلام أهل البيت (علیه السلام) هل لها حكم الاستعمال في كلام الشارع(4)، أو لها حكم الاستعمال في كلام المتشرّعة»(5).
ص: 23
وقال في كشف اللثام ما تقدّم نقله عنه في أوائل المبحث، فليلاحظ(1).
إن قلت: إنّ عدم كونهم (علیه السلام) شارعًا بالمعنى الثاني مسلّم، وأمّا بالمعنى الأوّل مثلًا فلا؛ لدلالة النصوص على ثبوت التفويض بالنسبة إليهم أيضًا، فكما أنّ بالتفويض في الأحكام صحّ إطلاق الشارع بمعنى جاعل الشرع على النبيّ (صلی الله علیه و آله) فليصحّ ذلك بالنسبة إلى الأئمّة (علیه السلام)؛ لدلالة الآثار على اشتراكهم معه (صلی الله علیه و آله) في ذلك(2).
فمنها: ما رواه في الكافي في باب التفويض إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله)، «عن أبي إسحاق النحويّ قال: دخلت على أبي عبد الله (علیه السلام) فسمعته يقول: إنّ الله (عزوجلّ) أدّب نبيّه على محبّته فقال: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(3)، ثمّ فوّض إليه فقال (عزوجلّ): ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(4)، وقال (عزوجلّ): ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾(5)، ثمّ قال: وإنّ نبيّ الله فوّض إلى عليّ (علیه السلام) وأئمّته»(6).
ص: 24
ومنها: ما رواه في الباب المذكور عن عبد الله بن سنان، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام): «لا والله ما فوّض الله إلى أحد من خلقه إلّا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) وإلى الأئمّة»(1).
ومنها: ما رواه في الباب عن محمّد بن الحسن الميثميّ، عن أبي عبدالله (علیه السلام)، قال: سمعته يقول: «إنّ الله (عزوجلّ) أدّب رسوله حتّى قوّمه على ما أراد، ثمّ فوّض إليه، فقال عزّ ذكره: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(2)، فما فوّض الله إلى رسوله (صلی الله علیه و آله) فقد فوّضه إلينا»(3).
هذه جملة من النصوص الواردة في هذا المطلب، والمستفاد منها ومن غيرها أنّه كما فوّض الأمر إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) فوّض إلى الأئمّة -عليهم آلاف السلام والتحيّة- فينبغي أن يصحّ إطلاق الشارع بالمعنى المذكور عليهم أيضًا.
قلنا: ثبوت التفويض بنفسه غير كافٍ لصحّة إطلاق الشارع كما لا يخفى، بل الّذي له مدخليّة في ذلك جعل الشرع(4) ووضعه.
وبالجملة: المستفاد من هذه النصوص -وهو ثبوت التفويض إلى الأئمّة (علیهم السلام) - لا يوجب صدق الشارع عليهم، وما يوجبه ذلك -وهو جعل الشرع(5) ووضعه-
ص: 25
غير مستفاد منها، فالمفهوم منها غير موجب، والموجب له غير مفهوم(1).
وأيضًا: إنّ التفويض بالمعنى المذكور لا يمكن القول به بالنسبة إلى الأئمّة - عليهم آلاف السلام والتحيّة - لما عرفت من أنّ التفويض بذلك المعنى إنّما يكون فيما لم يرد فيه من الله تعالى وحيٌ، ولم يدلّ عليه كتاب وليس ممّا احتيج إليه العباد إلّا وقد نطق به الفرقان ودلّت عليه الآيات على ما دلّ عليه كثير من الآيات واستفاض(2) به النصوص والروايات، وقد تقدّمت إلى جملة منهما الإشارة.
وأيضًا: إنّ تفويض الأحكام إلى الأئمّة (علیهم السلام) ينافيه ما دلّ عليه الكتاب والسنّة من أنّه في زمانه (صلی الله علیه و آله) قد استكملت الشريعة، كما قال سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾(3)، وقد تقدّم قول مولانا الرضا -عليه آلاف التحيّة والثناء-: أنّه تعالى لم يقبض نبيّه (صلی الله علیه و آله) حتّى أكمل له الدين، الحديث(4).
ص: 26
وأيضًا: قد ثبت أنّ الشريعة النبويّة - عليه آلاف السلام والتحيّة - لا يتطرّق إليها النسخ والنقصان والزيادة، وهو ينافي ثبوت التفويض في الأحكام بالمعنى المذكور إلى الأئمّة (علیهم السلام)، كما لا يخفى على ذي فطنة ودراية.
وبعض هذه الوجوه المذكورة وإن ورد بالنسبة إلى سيّد رسل الله سبحانه، لكنّك قد عرفت الجواب بما سبقت إليه الإشارة، ولا يمكن التنطّق به بالنسبة إلى الأئمّة (علیهم السلام)، كما يظهر وجهه بأدنى تأمّل وكلفة(1).
وبالجملة: قد علم من هذه النصوص المذكورة أنّ التفويض بذلك المعنى لا يمكن القول به بالنسبة إلى الأئمّة (علیهم السلام) وإن كان الظاهر من جملة من النصوص الواردة في الباب أنّ التفويض الثابت بالنسبة إلى الرسول والأئمّة (علیهم السلام) بمعنى واحد، فاللازم حمله على معنى آخر، فنقول: يمكن أن يكون المراد به التفويض في الأحكام الظاهريّة كما في التقيّة(2).
كما يظهر ذلك ممّا رواه في الكافي في الباب المتقدّم عن موسى بن أشيم، قال:
ص: 27
«كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام) فسأله رجل عن آية من كتاب الله (عزوجلّ)، فأخبره بها، ثمّ دخل عليه داخل، فسأله عن تلك الآية، فأخبره بخلاف ما أخبر به الأوّل، فدخلني من ذلك ما شاء الله حتّى كأنّ قلبي يُشْرَحُ بالسكاكين(1)، فقلت في نفسي: تركت أبا قتادة بالشام لا يُخطئ في الواو وشبهه وجئت إلى هذا ليخطئ(2) هذا الخطأ كلّه، فبينا أنا كذلك إذ دخل عليه آخر، فسأله من تلك الآية، فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبيّ، فسكنت نفسي، فعلمت أنّ ذلك منه تقيّة.
قال: ثمّ التفت إليّ [فقال لي](3): يا بن أشيم! إنّ الله (عزوجلّ) فوّض إلى سليمان بن داود (علیه السلام) فقال: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾(4)، وفوّض إلى نبيّه فقال: ﴿وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(5)، فما فوّض إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقد فوّضه إلينا»(6).
إن قلت: إنّ القول باختصاص الشارع بالنبيّ وعدم كون الأئمّة من ذلك،
ص: 28
ينافيه ما ذكره جمعٌ من المتأخّرين من التفصيل في ثبوت الحقيقة الشرعيّة بين الأزمان، حيث ادّعوا القطع بثبوتها في زمان الصادقين (علیهما السلام) وتأمّلوا أو نفوا قبله(1)؛ ولا يصحّ ذلك إلّا مع شمول الشارع للأئمّة عليهم آلاف الثناء والتحيّة.
قلنا: يمكن الجواب عنه من وجهين:
الأوّل: أنّ هؤلاء الجماعة قد غفلوا عن تعيين الشارع، فعدّوا منه من لم يكن كذلك من غير نظر إلى برهان، فلا تعويل على كلامهم ولا اعتداد بمقالهم.
والثاني: أنّه ليس المراد من هذا الكلام ما يفهم منه في بادي الأنظار والأفهام، بل لمّا كانت الثمرة المترتّبة على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمها: حمل الألفاظ في الأحاديث حال التجرّد عن القرينة على المعاني المستحدثة، بخلافه على القول بالعدم، يمكن أن يكون مرادهم ممّا ذكروا ثبوت مطلق الحقيقة لتلك الألفاظ في تلك المعاني في زمانهما (علیهما السلام) حتّى يحمل عليها حال التجرّد عن القرينة في أخبارهما، ويكون حملها على المعاني اللغويّة حينئذٍ متوقّفًا على القرينة.
ولا يمكن أن يكون المراد ما أفاده ظاهر ذلك الكلام؛ لأنّ الحقيقة الشرعيّة هي ما وضعه الشارع، سواء كان الوضع بالتعيين أو التعيّن، والمفروض أنّ هذا الوضع غير ثابت قبل زمانهما (علیهما السلام) .
ص: 29
وثبوت الوضع في زمانهما (علیهما السلام) إمّا بالتعيين، بأن يكون تلك الألفاظ من زمان النبيّ (صلی الله علیه و آله) إلى زمانهما (علیهما السلام) مستعملة في تلك المعاني المستحدثة على سبيل المجاز، وهما (علیهما السلام) في بدو زمانهما عيّناها لتلك المعاني، ولا شبهة في بُعد ذلك.
وإمّا بالتعيّن، وهو إنّما يكون إذا صدر الاستعمال منهما (علیهما السلام) على سبيل المجاز أوّلًا في المعاني المستحدثة، ثمّ لكثرة الاستعمال صار حقيقة فيها، وهو يقتضي التفصيل في زمانهما (علیهما السلام) أيضًا بأن يقال بعدم الثبوت في أوائل زمانهما أيضًا والثبوت بعدها(1)، وهم لا يقولون بذلك.
إلّا أن يقال: إنّ تحقّق الوضع التعيّنيّ غير متوقّف على صدور الاستعمال على سبيل التجوّز منهما (علیهما السلام) فيقال: إنّ الاستعمال قبل زمانهما كان على سبيل المجاز وكثر الاستعمال إلى حدّ بلغ في زمانهما حدّ الحقيقة، فعلى هذا تكون الحقيقة الشرعيّة ما ثبت الوضع له في زمان الشارع وإن لم يكن الواضع ذلك، وهو مع ما فيه غير ملائم لكلماتهم، كما لا يخفى على المطّلع الفطن(2).
ص: 30
في تعريف الحقيقة الشرعيّة
فاعلم: أنّها عبارة عمّا نقله الشارع عن المعاني اللغويّة إلى المعاني المستحدثة، بحيث لو تنطّق به أو الناطقُ بلسانه(1)، كان المفهوم منها المعاني المستحدثة، هذا هو المستفاد من كلمات جماعة في هذا الباب(2).
وفيه نظر؛ لأنّ ذلك منقوض طردًا وعكسًا، أمّا الأوّل: فلأنّ ذلك يقتضي أن يكون كلّما نقله الشارع عن المعنى اللغويّ حقيقة شرعيّة وإن لم يكن في بيان الحكم الشرعيّ، بل كان من الأعلام المنقولة وشبهها، مع أنّ الظاهر أنّه ليس من أفراد المحدود؛ لأنّ الظاهر أنّ الحقيقة الشرعيّة يعتبر فيها كونها بحيث تتعلّق بالحكم الشرعيّ.
وأمّا الثاني: فلأنّ مقتضاه اعتبار النقل في الحقيقة الشرعيّة، فلو اخترع الشارع لفظًا وكان مرتبطًا بالحكم الشرعيّ، يلزم أن لا يكون حقيقة شرعيّة، مع أنّ الظاهر أنّه من أفراد المحدود، فيدخل في الحدّ ما لم يكن من أفراده ويخرج عنه ما كان منها.
ص: 31
ويمكن الجواب عن الأوّل بعدم تسليم اختصاص الحقيقة الشرعيّة بما يستفاد منه الحكم الشرعيّ؛ وما المانع عن القول بأنّ الحقيقة الشرعيّة ما كان الوضع فيه من الشارع، سواء كان من متعلّقات الحكم الشرعيّ أم لا؟! بل الظاهر التعميم؛ لأنّ الحقيقة الشرعيّة في قابلها: الحقيقة العرفيّة واللغويّة، فكما لم يعتبر فيهما قيد، بل اللغويّة ما كان من موضوعات أهل اللغة، والعرفيّة ما كان من موضوعات أهل العرف، ينبغي أن لا يعتبر في أختهما أيضًا.
وأيضًا أنّ المقتضي لصدق الحقيقة الشرعيّة -وهو الوضع من الشارع والاستعمال- موجودٌ، والمانع عنه غيرُ معلوم، فوجب القول به.
وأيضًا لو لم تكن تلك الألفاظ حقيقة شرعيّة، لزم تربيع القسمة، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، أمّا الملازمة؛ فلأنّه لا شبهة في أنّ تلك الألفاظ بالنسبة إلى ذلك الوضع الشرعيّ لم تكن من الحقيقة اللغويّة ولا من العرفيّة كما لا يخفى، فلو لم تكن من الحقيقة الشرعيّة لكانت لا محالة قسمًا آخر من الحقيقة وراء الأقسام الثلاثة، وأمّا بطلان التالي؛ فلاتّفاقهم على تقسيم الحقيقة إلى اللغويّة والشرعيّة والعرفيّة.
وعن الثاني: بأنّ الأمر على النحو المذكور وإن كان محتملًا، لكن لمّا كانت الحقائق الشرعيّة الّتي وصلت إلينا من قبيل المنقولات ولم يوجد فيها لفظ مخترع، [و] لم يعرف في(1) اللغة له معنى اقتصروا على ذلك، ويجيء الكلام في تحقيق ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ص: 32
على أنّه يمكن أن يقال: إنّ الحقيقة الشرعيّة هو ما كان استفادة المعنى منه بوضع الشرع على ما يظهر من كلمات جماعة أخرى؛ وحينئذٍ يعمّ القسمين ولم يرد عليه إلّا الإيراد الأوّل، وقد عرفت اندفاعه.
إن قلت: إنّ تعميم الحقيقة الشرعيّة بحيث يعمّ الأعلام المنقولة غير صحيح؛ إذ الاختلاف في ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه شائع، فيلزم بناءً على التعميم أن يكون النافي للحقيقة الشرعيّة نافيًا للأعلام المنقولة، والظاهر أنّه ممّا لا يلزم.
ثمّ إنّ التعاريف والحدود للمفاهيم والماهيّات، فكيف يصحّح التعريف بأنّه للحقائق الشرعيّة الواقعيّة؟!
قلنا: يمكن الجواب عن الأوّل: بأنّ نزاعهم في الثبوت والعدم الظاهر(1) انّه في خصوص الحقائق الشرعيّة الّتي في بيان الأحكام الشرعيّة، لا مطلقًا، وهو ظاهر.
وعن الثاني: بأنّ الأمر وإن كان كذلك، لكن الثمرة المعروفة في ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه لمّا كانت بالإضافة إلى الحقائق الشرعيّة الواقعيّة كما لا يخفى، فلهذا(2) اختصّت بالتعريف.
مع أنّ هذا إنّما يرد بناءً على اعتبار النقل في الحقيقة الشرعيّة، وأمّا على التعريف الّذي ذكرنا فلا، كما لا يخفى.
ثمّ لمّا كانت معرفة الحقيقة الشرعيّة متوقّفة على معرفة الشارع، ضرورة أنّ معرفة
ص: 33
المحدود موقوفة على معرفة الحدّ ومعرفة الحدّ لا تتحصّل إلّا بمعرفة أجزائه، فلهذا قدّمنا الكلام في بيان الشارع على الكلام في بيان ماهيّة الحقيقة الشرعيّة.
ولمّا عرفت أنّ الشارع لم يخرج عن الله تعالى ونبيّه (صلی الله علیه و آله) انحصرت الاحتمالات العقليّة في وضع الحقيقة الشرعيّة في ثلاثة:
الأوّل: أن يكون الوضع مستندًا إلى الله تعالى في جميع تلك الألفاظ.
والثاني: أن يكون مستندًا إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) كذلك.
والثالث: بالتفصيل بكون الوضع في البعض مستندًا إلى الله تعالى وفي الآخر إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) .
وفي الأوّلين إشكال.
أمّا في الأوّل: فلأنّ نسبة الوضع إلى الله تعالى إنّما يمكن في الألفاظ الواردة في الكتاب العزيز، وأمّا في غيرها من الألفاظ الواردة في الآثار النبويّة، فلا.
وجوابه ظاهر، فإنّ عدم الورود في القرآن لا يستلزم عدم الوضع منه سبحانه؛ لجواز أن يكون وضع الجميع منه تعالى وأعلم نبيّه ذلك إمّا بطريق الوحي، أو بطريق الإلهام، أو ذاك في بعض وهذا في الآخر(1) كما لا يخفى.
وأمّا في الثاني: فلأنّ الأمر فيه بالعكس، أي استناد الوضع إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) إنّما
ص: 34
يمكن في الألفاظ الواردة في أخباره من الّتي لم تقع في الكتاب، وأمّا في الألفاظ الواردة فيه فلا؛ لوضوح أنّ وضع اللفظ للمعنى متوقّفٌ على تعقّله ومسبوقٌ عليه، والأحكام المأخوذة من الكتاب العزيز إنّما يعلم بدلالة آياته الشريفة وألفاظه الكريمة عليها، فتعقّلُ تلك المعاني مسبوقٌ على ورود تلك الألفاظ فيه وبواسطتها.
فنقول: تعقّل النبيّ (صلی الله علیه و آله) تلك الأحكام والمعاني المدلول عليها بالكتاب مسبوقٌ بدلالة ألفاظها عليها(1)، ودلالة ألفاظها عليها مسبوقة بوضعها بإزائها(2)، فلو كان وضعها بإزائها منه (صلی الله علیه و آله) يلزم أن يكون وضعه (صلی الله علیه و آله) إيّاها بإزائها مسبوقًا بتعقّلها، فيلزم أن يكون تعقّل تلك المعاني مسبوقًا بتعقّل تلك المعاني، فيلزم توقّف الشيء على نفسه.
فعلم أنّ وضع الألفاظ الواردة في القرآن من النبيّ (صلی الله علیه و آله) غير ممكن، بل يمكن القول بعدم صحّة استناد الوضع في شيء من الألفاظ إليه (صلی الله علیه و آله) إلّا بالنسبة إلى الأحكام الموضوعة منه (صلی الله علیه و آله) إن وجد لها لفظ خاصّ؛ لأنّ أحكام الله تعالى توقيفيّة، لا يعلم إلّا بتوقيف الله تعالى، إلّا ما أشرنا إليه، فإذا كان التوقيف والإعلام في الجميع منه تعالى، يكون الوضع في الجميع أيضًا منه تعالى، فتعيّن الاحتمال الأوّل وبطل الثاني، بل الثالث أيضًا.
والجواب عنه: إنّ مسبوقيّة الشيء على نفسه على تقدير استناد الوضع في الألفاظ الواردة في الكتاب إليه (صلی الله علیه و آله) إنّما يلزم إذا لم يحصل فهم تلك المعاني للنبيّ إلّا
ص: 35
من تلك الألفاظ، وحينئذٍ استناد وضعها لتلك المعاني إلى النبيّ مجازفة محضة ويترتّب عليه الاستحالة المذكورة.
لكنّه لم يتعيّن الأمر في ذلك؛ لجواز توقيفه تعالى تلك المعاني للنبيّ بغير تلك الألفاظ، وعيّن النبيّ (صلی الله علیه و آله) إيّاها لأجلها كما في الغسل والوضوء، فإنّه تعالى عبّر عن الغسل بقوله تعالى: ﴿فَاطَّهَّرُوا﴾، كما قال (عزوجلّ): ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾(1)، وعن الوضوء بقوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ الآية(2)، ولم يعبّر في شيء من الآيات القرآنيّة عنهما بلفظ الغسل(3) والوضوء كما لا يخفى.
فيمكن أن تكون جميع الألفاظ الواردة في القرآن ممّا ادّعي ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيه من هذا القبيل، بأن تكون معانيها ملقاة إلى النبيّ وعيّن النبيّ تلك الألفاظ لأجلها، بل القرينة قائمة على عدم إمكان التوقيف فيما ورد من الكتاب به في كثير من المقام، كما في قوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ الآية(4)، فإنّها جزء من سورة بني إسرائيل الّتي هي التاسعة والأربعون من السور المنزلة على النبيّ في مكّة على ما نقل عن ابن عبّاس(5)، ولا شبهة في أنّه (صلی الله علیه و آله) كان مصلّيًا قبل ذلك.
ص: 36
وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا﴾ الآية(1)، فإنّها جزء من سورة الحجّ الّتي هي السادسة والعشر من السور المنزلة عليه (صلی الله علیه و آله) في المدينة، والحال أنّ كلّ من الركوع والسجود جزء من الصلاة الّتي قد أمر بها في بني إسرائيل الّتي هي مكّيّة على ما عرفت، ولا ريب أنّ صلاتهم كانت مشتملة على ركوع وسجود قبل نزول الحجّ، بل قبل نزول بني إسرائيل أيضًا، كما أشرنا.
وأيضًا أنّ الأمر بالوضوء للصلاة مستفاد من قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ الآية(2)، وهي جزء من سورة المائدة(3) الّتي هي -على ما حُكي عن ابن عبّاس- آخر السور القرآنيّة المنزلة في المدينة إلّا التوبة، فإنّها بعدها(4)؛ فإن قلنا بكون التوقيف على الوضوء بتلك الآية، يلزم أن تكون صلاتهم قبل نزولها من غير وضوء، وهكذا الكلام في أمثالها، ونحن قاطعون بفساد ذلك.
ثمّ إنّه قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ توقيفيّة الأحكام الشرعيّة لا تستدعي(5) لزوم استناد الوضع في الألفاظ الّتي ادّعي ثبوت الحقيقة الشرعيّة فيها إلى الله تعالى؛ إذ غاية ما يلزم من ذلك كون التوقيف منه تعالى، ولا يلزم منه أن يكون ذلك بتلك
ص: 37
الألفاظ؛ لجواز أن يكون بغير تلك الألفاظ، بل من غير لفظ أصلًا كما لا يخفى ويكون تعيين تلك الألفاظ منه (صلی الله علیه و آله) تسهيلًا للأمر وتيسيرًا للتعبير عنها بها.
وبالجملة: إنّ الوضع إمّا مستند إلى الله سبحانه في جميع تلك الألفاظ، أو إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) كذلك، أو التفصيل، ولا رابع، لكن على الثالث يمكن أن يكون على وجهين، أحدهما: أن تكون الألفاظ المذكورة في القرآن من الله تعالى وفي السنّة منه (صلی الله علیه و آله)، والثاني: عكس ذلك، لكنّه بعيد.
ولهذا نقتصر على الثلاثة، فنقول: إنّ الوضع في كلّ واحد من الاحتمالات الثلاثة إمّا بالتعيين في جميع الألفاظ، أو بالتعيّن كذلك، أو في بعضها هذا وفي الآخر ذاك، فالاحتمالات المتصوّرة تسعة، فبالحريّ أن نتكلّم في جميع تلك الأقسام؛ ليظهر لك إمكان إرادة الجميع في المقام أو عدمه، فنقول:
الأوّل من تلك الاحتمالات: أن يكون الوضع في الجميع مستندًا إلى الله تعالى ويكون بالتعيين، وأوقف النبيّ (صلی الله علیه و آله) ذلك بالوحي أو الإلهام(1).
ولا شبهة في إمكان ذلك وأوفقيّته بما يتبادر من لفظ «الشارع»، وهو جاعل الشرع.
ص: 38
والثاني: كالأوّل، إلّا أنّ الوضع فيه بالتعيّن.
وهذا الاحتمال غير صحيح؛ لأنّ الوضع التعيّنيّ على ما عرفت في المقدّمة هو الّذي يكون إفادة المعنى فيه بالغلبة والاشتهار وكثرة الاستعمال؛ وهذا لا يخلو إمّا أن يكون المعتبر في صدق الواضع بالوضع التعيّنيّ على أحدٍ تحقّقَ الكثرة والشهرة منه، أم لا، بل المعتبر في ذلك كونه أوّل من استعمل اللفظ في المعنى، سواء تحقّقت الكثرة منه، أم منه ومن متابعيه.
وإنّما ينسب الوضع على التقدير الثاني إلى المستعمل الأوّل، مع أنّ لاستعمال المتابعين أيضًا مدخليّة في تحقّق الغلبة والاشتهار؛ لكونه الأصل في ذلك والداعي لاستعمالهم وفرعيّة استعمالهم لاستعماله وترتّبه عليه، وعلى كلّ من التقديرين لا يمكن إرادة هذا الاحتمال؛ لأنّ أصل الاستعمال في جميع تلك الألفاظ لم يثبت منه تعالى، فضلًا عن الكثرة فيه، فتأمّل.
على أنّه يمكن أن يقال بعدم كفاية كونه أوّل من استعمل اللفظ في المعنى في صدق الواضع عليه(1)، بل لا بدّ مع ذلك من تحقّق الغلبة والاشتهار منه؛ إذ لو لم
ص: 39
يعتبر ذلك، بل اكتفي في ذلك بكونه ممّن صدر منه(1) الاستعمال أوّلًا، يلزم أن تكون الحقيقة المتشرّعة حقيقة شرعيّة؛ لوضوح أنّ المستعمل الأوّل هو الشارع بأيّ معنى كان، وهو السبب الداعي والموجب الباعث لاستعمالهم، واستعمالهم متفرّع على استعماله ومترتّب عليه كما لا يخفى، وبطلان التالي معلوم بالاتّفاق، فالمقدّم مثله.
والثالث(2): أن يكون الوضع في الجميع مستندًا إليه تعالى أيضًا، لكن في البعض بالتعيين وفي الآخر بالتعيّن.
وهذا الاحتمال ربما يمكن إرادته في المقام بأن يكون بعض من الألفاظ الواردة في الكتاب استعماله أوّلًا على سبيل التجوّز ويكون المعنى مفهومًا منه بمعونة القرينة، ثمّ بتكرير الذكر فيه حصل الاشتهار والغلبة فيه، كما تكرّر ذكر الصلاة والزكاة، فتأمّل.
هذا على تقدير أن يعتبر في صدق الواضع بالوضع التعيّني تحقّق الغلبة والاشتهار منه، وإلّا فالأمر بالنسبة إلى إرادة هذا الاحتمال سهلٌ جدًّا.
هذا كلّه في إثبات الوضع التعيّني في البعض، وأمّا الوضع التعييني في الآخر فيعلم حاله ممّا ذكر في الاحتمال الأوّل من غير افتقار إلى تجشّم فكر وتأمّل.
ص: 40
ويمكن الإيراد على الوجوه الثلاثة بأنّ جميعها مشتركة في استناد الوضع في جميع الألفاظ إلى الله تعالى، وهو ينافي ما تقدّم من ثبوت التفويض إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) في بعض الأحكام؛ إذ حينئذٍ يكون الوضع في ألفاظ(1) ذلك البعض مستندًا إليه (صلی الله علیه و آله) لا إلى الله تعالى.
ويمكن الجواب عنه: بأنّ ذلك إنّما يتوجّه إذا وجد لفظ مختصّ لتلك الأحكام المفوّضة ولم نجده.
إن قيل: سلّمنا انتفاء لفظ خاصّ لها، لكنّه لا يحسم مادّة الإيراد؛ إذ الألفاظ المشتركة أيضًا تفتقر إلى وضع.
قلنا: لسنا بمنكرين لذلك، لكنّه لا يضرّ بالمدّعي؛ إذ المدّعي أنّ الوضع في جميع الألفاظ مستندٌ إلى الله تعالى، لا في جميع الألفاظ بالنسبة إلى جميع المعاني، فلا يضرّ تحقّق الوضع منه (صلی الله علیه و آله) في بعض الألفاظ لبعض المعاني الّذي يكون مغايرًا لما وضعه الله تعالى لأجله، وعلى تقدير التسليم لا نسلّم التنافي بين كون الحكم من موضوعاته (صلی الله علیه و آله) و(2) كون وضع اللفظ له منه تعالى، كما في عكسه على ما تقدّم.
والرابع: كالأوّل إلّا في الواضع، فهو فيه النبيُّ (صلی الله علیه و آله) .
ص: 41
وهو ممكن ولا يرد عليه شيءٌ إلّا ما تقدّم من أنّ كثيرًا من تلك الألفاظ واردة في القرآن، ومعانيها إنّما علمت منها، فكيف يتصوّر الوضع؟! وأنّ الأحكام الشرعيّة توقيفيّة موقوفة على التوقيف منه تعالى، فكيف يتصوّر الوضع فيها لغيره سبحانه؟! لكنّك قد عرفت الجواب عنه بما لا مزيد عليه.
والخامس: كالرابع إلّا في الوضع فكالثاني.
وهذا أيضًا ممكن لما علمت من أنّه يمكن أن يكون الله تعالى أوقف نبيّه جميع الأحكام الشرعيّة بغير تلك الألفاظ، بل من غير طريق لفظ أصلًا، ثمّ النبيّ استعمل تلك الألفاظ في تلك المعاني على سبيل المجاز، ثمّ اشتهرت فيها إلى أن بلغت حدّ الحقيقة.
وكفاية هذا الاحتمال في صحّة انتساب الوضع في جميع الألفاظ إلى النبيّ - عليه الصلاة والسلام - بناءً على الاكتفاء في ذلك بتحقّق الاستعمال الأوّل وإن كانت الغلبة والاشتهار بانضمام استعمال الغير ممّا لا يخفى.
وأمّا على توقّف انتساب الوضع التعيّني إلى أحد على تحقّق الغلبة والاشتهار منه، فصحّة الاحتمال المذكور محلّ تأمّل؛ لبعد اشتهار جميع تلك الألفاظ في تلك المعاني من محض استعماله (صلی الله علیه و آله) لكن يمكن أن يقال بعدم اعتبار ذلك والاكتفاء في انتساب الوضع المذكور إلى أحد بكونه أوّل من استعمل بشرط أن يكون استعماله داعيًا ومتبوعًا لاستعمال غيره واعتبار تحقّق الغلبة والاشتهار في زمانه.
ص: 42
فعلى هذا نقول: إنّ الطريق في ثبوت الوضع التعيّنيّ ثلاثة:
الأوّل: الاستعمال الأوّل مع تحقّق الغلبة والاشتهار من ذلك المستعمل، هو أقواها.
والثاني: كالأوّل إلّا أنّ لاستعمال الغير مدخليّة في تحقّق الاشتهار، لا مطلقًا، بل بانضمام استعمال الغير إلى استعمال المستعمل الأوّل في زمانه يتحقّق الاشتهار والغلبة، ففي هاتين(1) الصورتين يسند الوضع إلى المستعمل الأوّل.
والثالث: أن يشتهر اللفظ عند طائفة بعد انقضاء زمان المستعمل الأوّل، وهذا الوضع تعيّنيّ، لكن يسند الوضع في هذه الصورة إلى تلك الطائفة.
ولا يخفى أنّ الحقيقة المتشرّعة من هذا القبيل، فعلى هذا اندفع النقض السابق(2)، لكن يرد على هذا الاحتمال والثاني: أنّ صحّته تتوقّف على انتفاء اللفظ المخترع في الألفاظ الشرعيّة؛ إذ معه يبعد الاستعمال التجوّزي، وعلى تحقّق المناسبة بين المعاني الشرعيّة واللغويّة واعتبارها كما لا يخفى، وهو محلّ كلام.
ص: 43
والسادس: كالثالث إلّا في الواضع فكالرابع، أي يكون الوضع في بعض الألفاظ بالتعيين، وفي بعض آخر(1) بالتعيّن، ويكون الواضع في الجميع النبيّ (صلی الله علیه و آله) .
وهذا الاحتمال لا شبهة في إمكان إرادته في المقام وإن كانت إرادته بالنسبة إلى الله تعالى محلّ كلام عند توقّف نسبة هذا الوضع إلى أحد تحقّق الغلبةُ والاشتهار منه.
والسابع: أن يكون الوضع فيما ذكر في الكتاب من تلك الألفاظ مستندًا إلى الله تعالى وفي غيره إلى النبيّ - عليه الصلاة والسلام - ويكون في الجميع على سبيل التعيين.
وحال هذا القسم يظهر ممّا ذكر في الاحتمال الأوّل والرابع، لكن يتوجّه على استناد الوضع فيما ذكر من الكتاب إلى الله تعالى أنّه يلزم حينئذٍ أن لا تكون تلك المعاني والأحكام قبل نزول الآيات معلومة للنبيّ - عليه وآله السلام - فيرد عليه ما أشرنا إليه سابقًا من أنّه يلزم بناءً عليه أن لا يكونوا مصلّين قبل نزول آية الصلاة وهكذا.
ويمكن الجواب عنه بمنع الملازمة؛ لجواز أن يوقف الله تعالى نبيّه تلك الأحكام من غير هذه الألفاظ وهم كانوا ممتثلين بها وآتين عليها من غير إطلاق تلك
ص: 44
الألفاظ عليها إلّا بعد نزول الآيات.
وبالجملة: واللازم على تقدير استناد الوضع فيما ذكر في الكتاب إليه تعالى، عدم إطلاق تلك الألفاظ عليها، لا عدم معلوميّة المعاني والأحكام الّتي يستنبط منها، ولا محذور فيه، والمحذور عدم الإتيان بالصلاة مثلًا قبل نزول الآية المتعلّقة بها، وأين هذا من ذلك؟! فاللازم غير محذور والمحذور غير لازم.
والثامن: كالسابع إلّا أنّ الوضع في الجميع تعيّني.
وهذا الاحتمال عند عدم توقّف انتساب الوضع التعيّني إلى أحد على تحقّق الاشتهار منه، ظاهرٌ في كلّ من الألفاظ المذكورة في الكتاب والسنّة، وأمّا مع توقّفه عليه فيشكل الأمر، لاسيّما بالنسبة إلى الألفاظ المذكورة في الكتاب، إذ قد لا يكون اللفظ مذكورًا فيه إلّا في موضع واحد ولم يكرّر أصلًا، فضلًا عن الكثرة والاشتهار، لكنّك قد عرفت أنّه يمكن القول بعدم اعتبار ذلك، فإرادة الاحتمال المذكور ممكنة.
والتاسع: أن يكون الأمر في الواضع كالسابع والثامن، لكنّ الوضع في الألفاظ المذكورة في الكتاب بالتعيين وفي السنّة بالتعيّن، أو بالعكس. وحال هذا القسم على كلّ من الاحتمالين يظهر ممّا ذكر من الكلام في البين.
ص: 45
ثمّ لا يخفى عليك أنّ هنا احتمالًا آخر، وهو أن يكون الكلام في الواضع كالثلاثة الأخيرة، لكن على تفصيل في كلّ من الكتاب والسنّة بأن يقال: إنّ الوضع في بعض الألفاظ المذكورة في الكتاب بالتعيين وفي بعض آخر بالتعيّن، وكذا الكلام في السنّة، ويظهر حاله أيضًا ممّا تقدّم، فلا يحتاج إلى الذكر.
ولا يخفى أيضًا أنّ الحقيقة الشرعيّة على الثلاثة الأُوَل مستندةٌ إلى الله تعالى، وعلى الثلاثة الوسطى إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) وعلى الثلاثة الأخيرة إليهما، والشارع بالنسبة إليه تعالى يكون بمعناه المتبادر، أي جاعل الشرع، وبالنسبة إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) بمعنى صاحب الشرع، أو آتيًا به، أو جاعل الشرع في الجملة، أي بالنسبة إلى أحكامه وموضوعاته (صلی الله علیه و آله) .
وبالجملة: إطلاقُ الشارع على النبيّ (صلی الله علیه و آله) خلافٌ لظاهر اللفظ، أمّا بالنسبة إلى المعنيين فظاهر، وأمّا بالنسبة إلى جاعل الشرع فلأنّ الظاهر من الشارع أن يكون مستقلًّا في ذلك من غير افتقار إلى إمضاء غيره، كما في حقّ الله سبحانه، وأيضًا إطلاقُهُ وإرادة جاعل الشرع في الجملة خلافٌ لظاهر اللفظ من وجه آخر.
وكيف كان فقد تحصّل(1) بما تقرّر: أنّ الحقيقة الشرعيّة ما نقله الشارع عن
ص: 46
المعنى اللغويّ إلى المعنى المستحدث على ما يظهر من كلام جماعة(1)، أو ما كان استفادة المعنى منه بوضع الشارع كما يظهر من أخرى(2).
والفرق بينهما أنّ الثاني أعمّ من الأوّل من وجهين:
الأوّل: هو ما تقدّم من صدق الثاني على الألفاظ المخترعة والأسامي المبتدعة.
والثاني: هو أنّ النقل عند أئمّة الأصول ما لوحظ فيه المناسبة بين المعنيين، فلو(3) لم يلاحظ فيه ذلك - سواء تحقّقت المناسبة، أو لم يلاحظ، أو لم يتحقّق أصلًا - لم يكن منقولًا، فلو تحقّق لفظٌ بين الألفاظ الشرعيّة انتفت فيه المناسبة أو الملاحظة، يلزم أن لا يكون حقيقة شرعيّة على التعريف الأوّل، بخلافه على الثاني.
ويمكن رفع النزاع بين المقامين ودعوى الوفاق بين الفرقتين بأن يقال: إنّ التعريف الأوّل إنّما هو بالنظر إلى الواقع، والثاني بالنظر إلى المفهوم، بناءً على ما صرّح به بعضهم من أنّه لم يوجد في الألفاظ الواقعة في الشريعة لفظ مخترع لم يعرف(4) له معنى في اللغة، بل التتبّع شاهد على أنّ كلًّا من تلك الألفاظ له معنى فيها(5) ووجدت بينه وبين المعنى الشرعيّ المناسبة.
ويتوجّه عليه: أنّه على تقدير تسليمه غير كافٍ لتحقّق النقل؛ لما علمت من أنّ
ص: 47
اعتبارها شرطٌ في ذلك، إلّا أن يقال: إنّه يظهر من تحقّقها بين جميع تلك المعاني اعتبارها، وإلّا فلِمَ لم يوجد في المعاني الشرعيّة معنى لم يتحقّق المناسبة بينه وبين المعنى في اللغة(1)؟!
هذا كلّه في ماهيّة الحقيقة الشرعيّة وما يترتّب عليها.
وحكى جماعةٌ: أنّهم أرادوا بأسماء الذوات ما هو من أصول الدين أو ما يتعلّق بالقلب، ومن أسماء الأفعال ما هو من الفروع أو ما يتعلّق بالجوارح(1).
هذا هو الّذي وصل إلينا منهم في هذا المقام.
أقول: تحقيق المقام يستدعي أن يقال: إنّ الحقيقة الدينيّة إمّا أن يكون(2)مباينة ومغايرة للحقيقة الشرعيّة عندهم بحيث لم يمكن الاكتفاء بذكرها عنها، أو لا، احتمالان:
أخصّ منها، وعلى التقديرين لا وجه لهذه الحكاية، أمّا على تقدير التسوية فظاهر، وأمّا على تقدير الأخصّيّة فلأنّ ذكر العامّ مغنٍٍ عن ذكر الخاصّ، فلا حاجة لذكر ذلك الكلام بعد الحكم بثبوت الحقيقة الشرعيّة، لاسيّما بذلك الكلام المشتمل على لفظة: «أيضًا» كما لا يخفى.
والثاني: أنّ الحقيقة الدينيّة على التقديرين من الحقيقة الشرعيّة، فكلّ من قال بها يلزمه القول بها، فلا وجه للقائل بثبوت الحقيقة الشرعيّة بعد الحكم بثبوتها نسبةَ القولِ بالحقيقة الدينيّة إلى المعتزلة خاصّة، إلّا من جهة إطلاق هذا اللفظ وعدمه، وهو مع كونه مخالفًا لظاهر النقل المذكور لا يليق أن يُذكر في الكتب المختصرة.
والثاني: هو الّذي يظهر من جماعة منهم كالفاضل التفتازانيّ والعالم الباغنويّ وغيرهما، حيث قالوا بعد ذكر الحقيقة الدينيّة:
إنّها اسم لنوع خاصّ من الشرعيّة(1).
فينبغي التكلّم في كلّ من الاحتمالين حتّى يظهر(2) حقيقة الحال في البين، فنقول: على تقدير المباينة بالمعنى المذكور بينهما إمّا أن يكون التباين بينهما كلّيًّا بأن يقال: إنّ الحقيقة الشرعيّة على ما مرّ: الألفاظ الّتي نقلها الشارع، إلى آخره، والنقل استلزم المناسبة بين المعنيين وملاحظتها حالته، فتحقّق الحقيقة الشرعيّة متوقّفٌ
ص: 50
على ذلك ويكون(1) الحقيقة الدينيّة: الألفاظ الّتي وضعها الشارع على غير النهج المذكور؛ لأنّها على التفسير المذكور على ثلاثة أقسام، الأوّل: ما لا يعلم عند أهل اللغة لفظه؛ والثاني: معناه، والثالث: هما معًا.
أمّا كون الوضع في الأوّل والثالث على غير النهج المذكور؛ فلعدم تصوّر النقل فيهما(2)، وأمّا في الثاني فلأنّه وإن احتمل أن يكون الوضع فيه بالنقل كما احتمل بغيره، لكنّه يقيّد بما إذا انتفت المناسبة بين المعنيين، أو الملاحظة، أو لا يكون التباين بينهما كلّيًّا، بل يكون(3) الدينيّة أعمّ، بناءً على إبقاء القسم الثاني من الأقسام الدينيّة على إطلاقه.
والفرق بينهما: هو أنّ الحقيقة الدينيّة بجميع أقسامها بناءً على الأوّل يكون(4) من الموضوعات المبتدئة، وعلى الثاني تكون المنقولة أيضًا، وعلى الحالين وإن يظهر(5) المباينة بين الحقيقتين، لكنّه يرد عليه: أنّ هذا التعريف للحقيقة الدينيّة إمّا أن يكون باعتبار المفهوم، أو الواقع.
وعلى الأوّل نمنع(6) المغايرة والمباينة بين الحقيقتين؛ لأنّ الحقيقة الشرعيّة
ص: 51
باعتبار المفهوم يصدق(1) على جميع تلك الأقسام.
وكيف لا؟! مع أنّ الحقيقة: اللفظ المستعمل في الموضوع له، واحتمال مدخليّة النقل في مفهوم الحقيقة ممّا لا يذهب إليه وهمٌ ولم يقل به أحد، فإذا كان الواضع هو الشارع يكون(2) الحقيقة شرعيّة، فعلى هذا يكون(3) الحقيقة الشرعيّة: اللفظ المستعمل فيما وضع له الشارع، ولا شبهة في صدقه بالنسبة إلى جميع تلك الأقسام.
وعلى الثاني نمنع وقوع تلك الأقسام، وقد صرّح الفاضل التفتازانيّ والعالم الباغنويّ وغيرهما بأنّ الثابت من أقسام الدينيّة هو الثاني(4).
لكن يتوجّه عليه: أنّ وقوع القسم الثاني كافٍ للافتراق؛ لما عرفت من أنّ الواقع من الحقيقة الشرعيّة ما كان من الموضوعات المنقولة، والقسم الثاني من الدينيّة إمّا موضوعات مبتدئة، أو منقولة أيضًا، لكن قد عرفت الكلام في عدم معلوميّة لفظ في الألفاظ الشرعيّة لم يتحقّق بين معناه الشرعيّ واللغويّ مناسبة وملاحظتها على ما تقدّم، وعلى فرض تسليم وجوده يكون حقيقة شرعيّة أيضًا لما علمت.
وعلى تقدير كون الدينيّة أخصّ من الشرعيّة بناءً على ما تقدّم من تصريح جماعة
ص: 52
أنّها اسم لنوع خاصّ منها، نقول مع الإغماض عمّا يرد عليه ممّا تقدّم ذكره: أنّ أعميّة الشرعيّة متوقّفة على شمولها لبعض ما لم تكن تشمله(1) تلك، والّذي يتخيّل أن يكون ذلك هو القسم الّذي يكون اللفظ والمعنى فيه كلاهما معلومين لأهل اللغة، فالحقيقة الشرعيّة عبارة عمّا لم يعلم لفظه، أو معناه، أو كلاهما، أو علم كلاهما، والدينيّة عبارة عن الثلاثة الأُوَل فقط، وعلى هذا وإن تحقّقت الأعمّيّة والأخصّيّة، لكنّه متوقّف على صحّة إرادة هذا الاحتمال.
تحقيق المقام يقتضي أن يحقّق الحال فيما قالوا في تفسير الحقيقة الدينيّة، فنقول: إنّ كلامهم في بيانها يفيد أنّها على ثلاثة أقسام، الأوّل: أن يكون المعنى معلومًا لأهل اللغة دون لفظه، والثاني: عكسه، والثالث: أن يكون كلاهما مجهولًا.
إذا علمت ذلك فاعلم: أنّه لا يجوز أن يكون مرادهم من المعنى الّذي يكون معلومًا في قسم منها ومجهولًا في الباقي هو المعنى اللغويّ؛ إذ القسم الأوّل هو ما كان المعنى معلومًا لأهل اللغة دون اللفظ، فحينئذٍ يكون اللفظ من مخترعات الشارع وموضوعاته.
ومعلومٌ أنّه إنّما وضعه للمعنى الشرعيّ، فحينئذٍ لا يكون لذلك اللفظ إلّا المعنى الشرعيّ، فإضافة ذلك اللفظ إلى المعنى وإرادة المعنى اللغويّ غير صحيحة؛ إذ المفروض أنّ اللفظ غير معلوم لأهل اللغة، فكيف يتصوّر تعيين المعنى للفظٍ عند طائفة مع مجهوليّة ذلك اللفظ عندهم؟!
ص: 53
فتعيّن أن يكون المراد من المعنى المعلوم أو المجهول في تلك الأقسام المعنى الشرعيّ؛ فحينئذٍ نقول: إنّ القسم الّذي به صارت الحقيقة الشرعيّة أعمّ من الدينيّة ما كان اللفظ والمعنى الشرعيّ فيه معلومين لأهل اللغة، وهو فاسد، إذ حينئذٍ يكون المعنى الشرعيّ عين المعنى اللغويّ، فكيف يتصوّر النقل؟!
وأيضًا قد اتّفقوا أنّ الثمرة المترتّبة على ثبوت الحقيقة الشرعيّة حمل اللفظ على المعنى الشرعيّ، لا اللغويّ عند انتفاء القرينة، وعكسه بناءً على عدمه، وهو لا يتصوّر إلّا مع اختلاف المعنيين، فلو كان الاحتمال المذكور حقًّا لما كان لهذا الكلام على إطلاقه وجه، وأيضًا لو كان المعنى الشرعيّ عين المعنى اللغويّ، فما الفائدة لوضع الشارع؟
ويمكن أن يقال: إنّ جميع ما ذكر إنّما هو إذا كان المراد من كون اللفظ والمعنى الشرعيّ معلومين لأهل اللغة كون المعنى بوصف كونه معنى لذلك اللفظ معلومًا لهم؛ ولا يلزم أن يكون المراد ذلك؛ لجواز أن يكون المراد كون كلّ من اللفظ والمعنى معلومًا لا من حيث كون اللفظ لفظًا لذلك المعنى، فيمكن أن يكون المعنى معنى للفظ آخر واللفظ لفظًا لمعنى آخر، فحينئذٍ يتصوّر النقل والثمرة والفائدة للوضع، كما يظهر للمتأمّل.
على أنّه يمكن أن يقال: إنّ ما اعتبروه من النقل والثمرة إنّما هو بالنسبة إلى ما كان واقعًا من الحقيقة الشرعيّة، لكن يرد عليه مثل ذلك بالنسبة إلى الحقيقة الدينيّة أيضًا؛ وإن كانت أعمّيّة الحقيقة الشرعيّة باعتبار أنّها تكون من الموضوعات المنقولة والمبتدئة، بخلاف الدينيّة فإنّها مختصّة بالأخير كما صرّح بهما الفاضل
ص: 54
التفتازانيّ(1)، يرد عليه منع هذا الاختصاص، وما الدليل على ذلك؟
على أنّ ما ذكروه في بيانها ظاهرٌ في خلافه؛ إذ القسم الثاني من أقسامها أن يكون المعنى مجهولًا لأهل اللغة واللفظ معلومًا؛ وذلك اللفظ المعلوم لا يلزم أن يكون موضوعًا عندهم لمعنى انتفت المناسبة بينه وبين المعنى الشرعيّ، بل أعمّ من ذلك، ولا يلزم في الوضع أيضًا عدم ملحوظيّة المناسبة، فعلى هذا لا يلزم أن يكون(2) الحقيقة الدينيّة من الموضوعات المبتدئة فقط.
وعلى تقدير التسليم(3) نقول: يرد حينئذٍ ما أشرنا إليه آنفًا من أنّ ذكر العامّ مغنٍ عن الخاصّ وأنّ القائل بالعامّ يلزمه القول بالخاصّ، فلا وجه لذكرها بعد الحكم بثبوت الحقيقة الشرعيّة وإسنادها(4) إلى المعتزلة فقط.
وأيضًا أنّ ذلك إمّا بالنسبة إلى الواقع أو المفهوم؛ وعلى كلٍّ من التقديرين قد عرفت الكلام في البين.
ثمّ لا يخفى أنّ المعاني الشرعيّة كلّها توقيفيّة متلقّاة من الشارع، لا يمكن الاطّلاع عليها إلّا من جهة الشرع، كما مرّ مرارًا وصرّح عليه غير واحد، فكيف
ص: 55
يمكن لأهل اللغة الاطّلاع على بعضٍ منها حتّى يصحّ أن يجعل قسم من الحقيقة الدينيّة ما يكون المعنى الشرعيّ فيه معلومًا لأهل اللغة دون لفظه وكذا الشرعيّة، وأن يجعل قسم من الشرعيّة ما يكون المعنى الشرعيّ واللفظ كلاهما معلومًا لهم ولو كان بمحض الاحتمال؟!
ثمّ إنّ ما تقدّم من حكمهم بأنّ مثل المؤمن والكافر والإيمان والكفر من الدينيّة، دون المصلّي والمزكّي والصلاة والزكاة، إن أرادوا منه أنّه من القسم الأوّل والثالث منها، فهو ظاهر الفساد؛ وإن جعلوه من القسم الثاني منها، يرد عليه أنّ المصلّي وما ذُكر معه بعينه مثل ذلك، فالتفرقة بينهما تحكّم.
ويمكن أن يقال مع الإغماض عمّا تقدّم من أنّ المعاني التوقيفيّة لا يمكن الاطّلاع عليها من غير جهة الشرع: إنّ النزاع بين المعتزلة وغيرهم في هذا الباب لفظيّ، فإنّ غيرهم اصطلحوا الحقيقة الشرعيّة في جميع تلك الألفاظ، سواء كانت في الأصول أو الفروع؛ وإنّهم اصطلحوها في الأخير أو فيهما، والأوّل أنسب بمقالاتهم، واصطلحوا الحقيقة الدينيّة في الأوّل، ولا مشاحّة في الاصطلاح؛ إذ لكلّ أحد أن يصطلح بما شاء.
على أنّه يمكن أن يقال: إنّ الشرع بمعنى الطريقة، فيكون أنسب بالفروع وأفعال الجوارح والدين؛ لمّا يتقوّم ويتحصّل بالأصول، فإطلاق الدينيّة عليها أولى، فتأمّل(1).
ص: 56
ثمّ إنّه لا يخفى ما في تفسيرهم المتقدّم لأسماء الذوات وتمثيلهم بما تقدّم من المؤمن والكافر والإيمان والكفر.
أمّا أوّلًا: فلأنّ هذه الألفاظ إمّا أن يكون كلّ واحد منها مثالًا لما ذكروا من أصول الدين، أو لما يتعلّق بالقلب، أو بعض منها لهذا والآخر لذاك، وعلى التقادير لا يستقيم الكلام.
أمّا على الأوّل: فظاهر؛ إذ جعل المؤمن والكافر والكفر من أصول الدين غلطٌ محضٌ لا يتطرّق إليه وهم واهم.
وأمّا على الثاني: فلأنّ الحكم بكون المؤمن والكافر من الأمور المتعلّقة بالقلب ممّا لا يرجى صحّته، فكان اللازم حينئذٍ الاقتصار بالإيمان والكفر.
وأمّا على الثالث: فلأنّه يتصوّر على وجوه لا يكاد يصحّ شيء منها: الأوّل: أن يكون المؤمن والكافر للأوّل، والأخيران للآخر، فقد عرفت الحال فيه.
والثاني: عكسه، وفساده يظهر ممّا ذكر.
والثالث: أن يكون الإيمان من الأوّل والباقي من الثاني.
وهو أيضًا غير صحيح في كلّ من المقامين.
أمّا بالنسبة إلى الأوّل: فلأنّ الإيمان عبارة عن التصديق بما جاء به النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وهو أعمّ من أصول الدين وغيره.
وأمّا بالنسبة إلى الثاني: فلأنّ جعل المؤمن والكافر من الأمور المتعلّقة بالقلب لا يخفى فساده.
ص: 57
وغير ما ذكر من الوجوه الثلاثة وإن كان محتملًا، لكنّه يظهر حاله ممّا ذكر.
وأمّا ثانيًا: فلأنّ أصول الدين - كالإذعان بوجود الله تعالى وتوحيده وصفاته الجلاليّة والجماليّة(1) وغيرها - كلّها من الأمور الاعتقاديّة المتعلّقة بالقلب، فجعل أحدهما مقابلًا للآخر كما في قولهم: (أنّ المراد بأسماء الذوات ما هو من أصول الدين، أو ما يتعلّق بالقلب)(2)، ممّا لا وجه له.
وأمّا ثالثًا: فلأنّ الأمر المتعلّق بالقلب كما يمكن أن يكون من الأمور الدينيّة، كذا يمكن أن يكون من غيرها، فالحكم بأنّ ما يتعلّق بالقلب على سبيل الإطلاق من هذا القبيل ممّا لا وجه له.
وبما ذكرنا ظهر لك ما في تفسيرهم المذكور لأسماء الأفعال وتمثيلهم بما تقدّم من المصلّي والمزكّي والصلاة والزكاة؛ إذ جميع ذلك إمّا أن يكون مثالًا لما يكون من الفروع، فيرد عليه: أنّ جعل المصلّي والمزكّي من الفروع ممّا لا يخفى ما فيه، وكذا إذا كان مثالًا لما يتعلّق بالجوارح، أو على التفصيل.
وأيضًا إنّ مقابلة الفروع بما يتعلّق بالجوارح يقتضي أن لا يكون(3) الفروع
ص: 58
متعلّقًا(1) بالجوارح، وفساده بيّن.
وكيف كان فتصحيح مقالهم في هذا المقام دونه خرط القتاد، فاللازم الرجوع إلى ما هو أهمّ من ذلك.
ص: 59
ومتمسّك النفاة وجوه:
الأوّل: أنّ تلك الألفاظ لو كانت حقائق شرعيّة، لكانت غير عربيّة؛ لأنّ اختصاص الألفاظ باللغات بحسب دلالتها بالوضع فيها، والمفروض أنّ العرب لم يضعوها، فلا تكون عربيّة، والتالي باطل، إذ لو لم تكن عربيّة لزم أن لا يكون القرآن عربيًّا؛ لاشتماله على جملة من تلك الألفاظ، فما لا يكون بعضه عربيًّا لا يكون كلّه عربيًّا؛ والتالي باطل لقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا﴾(1)(2).
وفيه: منع الملازمة الأولى؛ لما قيل من أنّ هذه الألفاظ الّتي هي حقائق شرعيّة مجازات لغويّة، والمجازات الحادثة عربيّة وإن لم يصرّح العرب بآحادها؛ إذ يكفي في صحّة التجوّز وجود العلاقة الثابت نوعها في استعمالات العرب، ولا يشترط فيه نقل الآحاد عنهم، والعلاقة المصحّحة موجودة في هذه الألفاظ قطعًا، فلا يلزم
ص: 60
خروجها عن العربيّة(1).
أقول: إنّ الّذي ذكروه في بيان الملازمة الأولى إمّا أن يكون مسلّمًا عند هذا القائل، أو لا، وعلى الأوّل: يكون مآل الكلام أنّ ما ذكر من أنّ اختصاص الألفاظ باللغات إنّما هو بحسب دلالتها بالوضع فيها، وإن كان(2) مسلّمًا، لكن لا يلزم منه عدم اتّصاف تلك الألفاظ بالعربيّة؛ لأنّ تلك الألفاظ مجازات لغويّة، والمجازات موضوعة بالوضع النوعيّ، والوضع المأخوذ في دليل الملازمة أعمّ من النوعيّ والشخصيّ.
وفيه نظر؛ لعدم إمكان شمول الوضع المأخوذ في الدليل للوضع المتحقّق في المجازات، أمّا أوّلًا: فلأنّ الظاهر من الوضع تعيين اللفظ للدلالة على المعنى لذاته، ولفظ «الوضع» حقيقة فيه للتبادر، فلو أريد من الوضع المذكور هذا المعنى والمعنى المتحقّق في المجاز، يلزم الجمع بين المعنى الحقيقيّ والمجازيّ في آنٍ واحد.
وأمّا ثانيًا: فلأنّ القرينة في الدليل المذكور موجودة؛ على أنّ الوضع المأخوذ فيه هو ما تحقّق في الحقائق؛ لأنّ الدلالة في المجازات ليست بسبب الوضع المتحقّق فيها كما لا يخفى.
وعلى الثاني: يكون مآل الكلام أنّ ما ذكر في بيان الملازمة غير تامّ؛ لأنّ المجازات في لغة العرب مثلًا عربيّة، فلو كان اختصاص الألفاظ باللغات بحسب
ص: 61
دلالتها بالوضع فيها، يلزم أن تكون الألفاظ المجازيّة في كلّ لغة خارجة عن تلك اللغة، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، فكما لا تخرج الألفاظ المجازيّة في لغة العرب عن تلك اللغة مع عدم كون دلالتها بالوضع فيها، ينبغي أن لا تخرج الحقائق الشرعيّة منها أيضًا.
وحاصل الكلام: أنّ ما ذكروه من أنّ اختصاص الألفاظ باللغات بحسب دلالتها بالوضع فيها، إن أريد من ذلك أنّ اختصاص الألفاظ باللغات بحسب دلالتها بالوضع في كلّ ما استعملت فيه، يلزم أن تكون الألفاظ المجازيّة في كلّ لغة خارجة عن تلك اللغة، ولو أريد أنّ اختصاصها بها بحسب دلالتها بالوضع في الجملة، لا يلزم المفسدة المذكورة في تلك الألفاظ، بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة؛ لأنّ دلالتها في لغة العرب بالوضع بالنسبة إلى معانيها اللغويّة ثابتة.
وفيه أيضًا(1) نظر؛ لأنّا نختار الأوّل ونمنع خروج المجازات المستعملة في كلّ لغة عنها، بناءً على أنّ الدالّ في الألفاظ المجازيّة على المعاني المجازيّة اللفظ بشرط القرينة، واللفظ إنّما يدلّ عليها بوضعه لمعناه على ما تقدّم تحقيقه بما لا مزيد عليه، فلا يلزم خروج الألفاظ المجازيّة، بخلاف الحقيقة الشرعيّة.
ثمّ أقول: إنّ الحكم بكون الحقائق الشرعيّة مجازات لغويّة، لا يخلو إمّا أن يكون بالنسبة إلى المعنى اللغويّ، أو الشرعيّ، وعلى التقديرين إمّا بالنسبة إلى أهل اللغة،
ص: 62
أو الشارع، فالاحتمالات لا تخلو من هذه الأقسام:
الأوّل: أن يكون الحكم بالمجازيّة اللغويّة بالنسبة إلى المعنى اللغويّ وأهل اللغة، وفساده غنيّ عن البيان، مع أنّه لا دخل له في المقام.
والثاني: أن يكون ذلك بالنسبة إلى الشارع؛ وهو فاسد أيضًا، أمّا أوّلًا: فلأنّ تحقّق المجاز المنتسب إلى أهل كلّ صناعة يمكن أن يكون من وجهين:
الأوّل: أن يكون استعمال اللفظ من أهل الصناعة في غير ما وضع له عندهم؛ لعلاقة بينه وبين الموضوع له، فالمجاز اللغويّ على هذا هو اللفظ المستعمل من أهل اللغة في غير معناه الموضوع له عندهم.
والثاني: أن لا يكون المستعمل من أهل تلك الصناعة، لكن يكون استعماله تبعًا لاستعمالهم.
إذا علمت ذلك نقول: إنّ الألفاظ المستعملة من الشارع في معانيها اللغويّة لا تكون مجازات لغويّة بشيء(1) من المعنيين المذكورين، أمّا على المعنى الأوّل فظاهر، وأمّا على المعنى الثاني فلأنّ استعمال الشارع ليس تبعًا لاستعمال أهل اللغة؛ إذ الكلام على تقدير ثبوت الحقيقة الشرعيّة، بل تلك الألفاظ حينئذٍ مجازات شرعيّة على المعنى الأوّل.
ص: 63
وأمّا ثانيًا: فلأنّه لا دخل له فيما نحن فيه؛ إذ الكلام في الألفاظ المستعملة من الشارع في المعاني الشرعيّة.
والثالث: أن يكون ذلك بالنسبة إلى أهل اللغة والاستعمال في المعنى الشرعيّ، وهذا لا يخلو إمّا أن يكون استعمالهم فيه تبعًا لاستعمال الشارع، أو لا، بل لأجل المناسبة بينه وبين المعنى اللغويّ، وعلى الأوّل يكون اللفظ حقيقة شرعيّة ولا يكون مجازًا لغويًّا، وعلى الثاني وإن كان اللفظ مجازًا لغويًّا، لكن لا دخل له فيما نحن فيه لما عرفت.
والرابع: أن يكون ذلك بالنسبة إلى الشارع والمعنى الشرعيّ، وهذا هو الّذي يكون الكلام فيه، واللفظ حينئذٍ إنّما يكون حقيقة شرعيّة ولا يكون مجازًا لغويًّا بشيء(1) من المعنيين المذكورين كما لا يخفى، فمن أين تحقّق المجاز اللغويّ حتّى يتّصف اللفظ بالعربيّة بسببه؟!
إلّا(2) أن يختار الرابع ويقال: إنّ للمجاز اللغويّ معنى آخر، وهو أن يكون اللفظ مستعملًا في الموضوع له عند غير أهل اللغة مع ملاحظة المناسبة بينه وبين الموضوع له لغة، وعلى هذا تكون تلك الألفاظ حين كونها مستعملة في المعاني الشرعيّة عند
ص: 64
الشارع مجازات لغويّة؛ لملاحظة المناسبة بين معانيها الشرعيّة واللغويّة.
لكن فيه نظر، أمّا أوّلًا: فلأنّه يستلزم أن يكون اللفظ حقيقة ومجازًا بالنسبة إلى معنى واحد في استعمال واحد، فيلزم اجتماع المتنافي؛ إذ الحقيقة: اللفظ المستعمل في الموضوع له، والمجاز: المستعمل في غيره.
لا يقال: إنّ المستحيل كون اللفظ حقيقة ومجازًا باعتبار واحد، وأمّا إذا كان باعتبارين فلا؛ وما نحن فيه من هذا القبيل؛ إذ اللفظ باعتبار الوضع الشرعيّ حقيقة وباعتبار الوضع اللغويّ مجاز.
لأنّا نقول: تعدّد الاعتبار بعد وحدة الاستعمال لا يجدي في رفع الإشكال؛ إذ المجاز: اللفظ المستعمل في غير الموضوع له من حيث إنّه غير الموضوع له، واللفظ فيما نحن فيه مستعمل في الموضوع له من حيث إنّه موضوع له كما لا يخفى.
وأمّا ثانيًا: فلأنّ الحكم بمجازيّة اللفظ متوقّفٌ على تحقّق مصحّحه، ومصحّح المجاز تحقّق العلاقة بين المعنيين مع ملاحظتها حال الاستعمال، والمتحقّق فيما نحن فيه وجودها، وأمّا ملاحظتها فغير معلومة.
إن قلت: إنّ ثبوت الحقيقة الشرعيّة بالنقل، وهو في اصطلاحهم لا يكون إلّا بملاحظة المناسبة.
قلنا: فرق بين الملاحظتي؛ إذ المدار في النقل ملاحظتها حالة الوضع والنقل، وفي المجاز حال الاستعمال، والقدر المتيقّن في الحقيقة الشرعيّة ملاحظتها حال الوضع، وأمّا حال الاستعمال فلا.
ص: 65
ويمكن الجواب باختيار الثالث بأن يقال: إنّ المراد أنّ تلك الألفاظ في حال استعمالها في المعاني الشرعيّة حقائقٌ شرعيّةٌ، مجازاتٌ لغويّةٌ في تلك المعاني عند صدور الاستعمال فيها من أهل اللغة، فيكون المراد: أنّ تلك الألفاظ حقائق شرعيّة بالفعل مجازات لغويّة بالقوّة؛ وهذا القدر كافٍ في اتّصافها بوصف العربيّة؛ إذ بعد صيرورة القوّة فعلًا تكون عربيّة لا محالة.
ويمكن الجواب عنه أيضًا: بأنّ عدم اتّصاف تلك الألفاظ بالعربيّة إنّما يلزم إذا اشترط في اختصاص اللفظ بلغة صدور الوضع عن كلّ مَن يتحاور بتلك اللغة، أو عن كلّ بُلَغائها، أو يكون للوضع زمان مخصوص بحيث إذا انقضى ذلك لا يجوز في غيره.
لكنّ الأمر ليس كذلك؛ إذ اشتراط الأوّل يستلزم عدم اختصاص لفظ بلغة أصلًا كما لا يخفى، وكذا الثاني؛ لكون البلغاء متجدّدين في الأعصار ومتفرّقين في الأمصار؛ أمّا الثالث: فلأنّ وجه الاشتراط غير معلوم، فعلى من يدّعيه الإثبات.
وكيف؟! مع أنّ الاصطلاحات في العلوم المدوّنة وغيرها حادثة، فعلى هذا نقول: إنّ النبيّ (صلی الله علیه و آله) قد وضع تلك الألفاظ، وهو من أفصح العرب وسيّدهم، فتكون عربيّة، وكان الخلط والاشتباه وقع بين اللغويّة والعربيّة، والمنفي على التقدير المذكور الأُولى لا الثانية.
لكن هذا إنّما يتمّ إذا قلنا بأنّ الشارع هو النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وأمّا إذا كان الله تعالى فلا.
إلّا أن يقال: إنّ اتّصافها بالعربيّة -أمّا(1) لكون المخاطب بها من العرب، بناءً
ص: 66
على أنّ نسبته تعالى إلى جميع اللغات سواء، فاتّصاف خطاباته تعالى بصفة بالمقايسة إلى حال المخاطبين، أو لاستعمالها في تلك المعاني بين العرب(1)، هذا على تقدير استناد الوضع في جميع اللغات إلى الله تعالى- لا شبهة فيه.
وأمّا على تقدير اصطلاحيّة اللغات وكون الوضع في خصوص الحقيقة الشرعيّة إلى الله تعالى، فيشكل الأمر؛ إذ مجرّد الاستعمال على ذلك التقدير لا يصير سببًا للاتّصاف بالعربيّة، وإلّا لزم أن تكون الألفاظ العجميّة المستعملة في لغتهم عربيّة.
فيجاب حينئذٍ بما تقدّم، أو بما يأتي، وهو جواب ثالث عن الإشكال، بيانه: هو أنّ الحقائق الشرعيّة كلّها ألفاظ منقولة عن معانيها اللغويّة على ما عرفت ممّا تقدّم، فتكون(2) تلك الألفاظ بأسرها من الموضوعات العربيّة بالأصل، فهي حالة استعمالها في المعاني الشرعيّة عربيّة؛ لكونها في أوضاعها الأوّليّة عربيّة.
هذا كلّه في منع الملازمة الأولى، وعلى فرض تسليمها نمنع بطلان التالي، قولكم(3) في بيانه: «لو كانت غير عربيّة لزم أن لا يكون القرآن عربيًّا»، أجيب: بالتزام ذلك لعدم مانع عنه.
والاستدلال بالآية المذكورة في بطلانه غير تامّ(4)؛ لما قيل من أنّه مبنيٌّ على كون
ص: 67
القرآن مرجعًا لضمير: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾(1) غير لازم؛ لجواز أن يكون عائدًا إلى السورة، وذكر القرآن لا ينافي ذلك؛ لأنّه كما يطلق على الكلّ يطلق على البعض؛ ولذلك لو حلف قراءة القرآن كلّ يوم، لا يحنث مع قراءة سورة، بل أقلّ منها، والحكم بالبعضيّة غير منافٍ لذلك؛ لأنّه باعتبار المجموع.
والحاصل: كلّما شارك الجزء الكلّ في معناه، يمكن الحكم عليه بالفرديّة والبعضيّة بالاعتبارين، فباعتبار المشاركة وتحقّق أصل المعنى يحكم بالفرديّة، وباعتبار الجزئيّة والكلّيّة يحكم بالبعضيّة، كالماء والعسل والدهن والسمن وأمثالها، بخلاف الغير المشارك(2)، كالمائة والرغيف(3).
لكنّ الجواب بهذا المنوال لا يقبله الإنصاف، إذ قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا﴾(4) على ما يحضرني الآن مذكور في سورتين، إحداهما: سورة طه، ولفظ «الصلاة» و«السجدة» قد ذكرا فيها مكرّرًا، قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾(5)، وقال أيضًا: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ﴾(6)، والثانية: سورة يوسف، وسياق الكلام فيها كالصريح في أنّ المرجع مجموع القرآن، لا السورة فقط، قال
ص: 68
سبحانه: ﴿الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا عربيًّا﴾(1). وعلى فرض التسليم نقول: قد ذكر في تلك السورة «السجدة» و«الإيمان» مكرّرًا.
لا يقال: إنّه وإن ذكر لفظ «الصلاة» مكرّرًا في سورة طه، لكنّ المذكور فيها: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾(2)، وما ذكر في مقام الاستدلال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾، وهو مذكور في سورة يوسف، ولفظ(3) «السجدة» المذكور فيها المراد منه المعنى اللغويّ، لا المعنى الشرعيّ.
لأنّا نقول على فرض تسليم ذلك: للمستدلّ أن يتمسّك في بطلان التالي بما ذكر في سورة طه، فيتمّ مدّعاه، سواء كان المرجع السورة، أو مجموع القرآن، كما لا يخفى على المتأمّل، على أنّك قد عرفت أنّ المذكور في سورة يوسف يكفي في إثبات المطلوب؛ لكون السياق كالصريح في أنّ المرجع مجموع القرآن، كما عرفت.
وأيضًا قال الله تعالى في سورة السجدة من الحواميم:﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾(4)، وفي سورة الزخرف: ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾(5)، والظاهر كالصريح منهما أنّ المحدَّث عنه فيهما هو المجموع.
وأيضًا قال سبحانه في سورة الزمر: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ
ص: 69
مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ﴾(1)، فتسليم كون القرآن غير عربيّ لا وجه له.
نعم، أجابوا في المقام بأنّه غاية ما يلزم من ذلك كون القرآن عربيًّا، ولا يلزم من ذلك كونه عربيّ المفردات حتّى ينافي اشتماله بغير الألفاظ العربيّة، فيجوز أن يكون المراد بعربيّته كونه عربيّ النظم والأسلوب، فلا ينافي اشتماله على ما ليس بعربيّ مع كون الأسلوب عربيًّا(2).
وبأنّ المراد من كونه عربيًّا كون أغلب ألفاظه كذلك، فلا ينافي كون النادر منها غير عربيّ، ومثل هذا الإطلاق شائع، كما يقال: إنّ هذا الكتاب عجميّ، مع أنّه ليس جميع ألفاظه عجميًّا، وهكذا بالنسبة إلى الكتاب العربيّ(3).
والثاني: أنّها لو نقلها الشارع إلى المعاني الشرعيّة لفهّمها المخاطبين بها؛ لكونهم مكلّفين بما تضمّنه(4) تلك الألفاظ، والفهم شرط التكليف، ولو فهّمها لنقل إلينا؛ لأنّا مشاركون معهم في التكليف؛ والنقل إمّا بالتواتر أو بالآحاد، والأوّل لم يوجد
ص: 70
وإلّا لم يقع الخلاف، والثاني لا يفيد، مع أنّ العادة تقضي في مثله بالتواتر(1).
وفيه نظر؛ لأنّ الضمير في قولهم: «لفهّمها» إمّا يعود إلى المعاني، كما هو ظاهر الكلام والمناسب للفظ «التفهيم»، أو إلى الأوضاع المفهومة من نقلها.
وعلى الأوّل نقول: إنّ ذلك بعينه جارٍ فيما إذا كان الاستعمال على سبيل التجوّز، وما ذكر في بيان الملازمة(2) دليل عليه، وبالجملة: لا اختصاص له في صورة النقل.
وعلى الثاني نمنع الملازمة، والمذكور في بيانها غير دالّ على ذلك؛ لأنّ اشتراط الفهم للتكليف إنّما يقتضي معلوميّة تلك المعاني؛ وهو كما يحصل بالإعلام بالوضع، يحصل بإعلام إرادتها من تلك الألفاظ بالبيانات النبويّة قولًا وفعلًا وتقريرًا.
لكنّه منظور فيه، أمّا أوّلًا: فلأنّ ذلك إنّما يصحّ إذا تحقّق البيان على سبيل العموم، وهو ينافي ما ذكروه في ثمرة هذا النزاع من أنّه عند التجرّد من القرائن يحمل على المعاني الشرعيّة بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة، وعلى المعاني اللغويّة بناءً على العدم، فلو لم يتحقّق موضع إلّا وقد وجد فيه البيان، انتفت تلك الثمرة،
ص: 71
فيلزم منه انتفاء هذه(1) الفائدة، وهو مستلزم لعراء النزاع من الفائدة.
وأمّا ثانيًا: فلأنّ هذا الاستدلال إنّما هو من النافي للحقيقة الشرعيّة، والردّ على النهج المذكور من المثبت غير صحيح؛ لأنّ تسليمه أنّ إعلامَ تلك المعاني بالقرينة لا بالإعلام بالوضع منافٍ لما اختاره، فتأمّل.
فالأولى أن يقال في الجواب: إنّ مراد المستدلّ من إعلام الوضع وتفهيمه عند ثبوت النقل إمّا أن يكون بتصريح الشارع بأنّي وضعت هذه الألفاظ بإزاء تلك المعاني، فالملازمة ممنوعة، واشتراط الفهم للتكليف إنّما يقتضي إعلام الوضع، وأمّا كونه على هذا الوجه الخاصّ فلا؛ لجواز أن يكون الإعلام بالترديد بالقرائن، كالأطفال والجاهل باصطلاح خاصّ مطلقًا إذا أريد تعليمه ذلك من غير الاستعانة باللغات المعلومة له، فإنّ طريق التعليم حينئذٍ لا يمكن إلّا بالترديد بالقرائن؛ إذ لو كان باللفظ يلزم الدور أو التسلسل(2).
وإن كان المراد أعمّ من ذلك، فالملازمة مسلّمة، لكن بطلان التالي ممنوع، وما ذكر في بيانه من أنّه لو فهّم لنقل إلينا، غير تامّ؛ لأنّه على فرض التسليم إنّما يلزم إذا كان التفهيم على النهج الأوّل، وأمّا إذا كان بالترديد بالقرائن فلا؛ لأنّ ذلك ليس ممّا ينقل.
ص: 72
وعلى فرض أن يكون التعليم(1) على النهج الأوّل، يمكن منع لزوم النقل أيضًا، و ما ذكر في بيانه من اشتراكنا معهم في التكليف لا يدلّ على ذلك؛ لأنّ مشاركتنا معهم فيه توجب علينا الاجتهاد في تحصيل فهمهم والعلم بما كلّفوا به، لا نقلهم بالنسبة إلينا؛ وكيف؟! مع أنّ الأحكام الشرعيّة كانت معلومة عند الحاضرين المشافهين، فلو كانت هذه الدعوى صحيحة يلزم أن تكون جميعها معلومةً عند جميع المكلّفين، وفساده غنيّ عن البيان.
ثمّ على تقدير لزوم النقل بناءً على أنّ التبليغ كان واجبًا عليهم نقول: إنّ اللازم حينئذٍ النقل، وهو غير مستلزم للبلوغ إلينا، كما في أكثر الأحكام الغير المعلوم عندنا، على أنّ اللازم من ذلك وجوب التبليغ بالنسبة إليهم وتكليفهم بذلك، والتكليف بشيء لا يستلزم الامتثال به، وعلى فرض الامتثال نقول: إنّ المسلّم وجوب التبليغ في الجملة، وأمّا كونه بحيث يبلغ التواتر فلا؛ وقولهم: «والآحاد لا ينفع» ممنوع.
ثمّ إنّ كلّ ذلك إنّما هو إذا كان الإعلام بالوضع بالتصريح به، وأمّا إذا كان بالترديد بالقرائن كما هو الظاهر، فيمكن عدم التبليغ أصلًا وعدم تكليفهم بذلك أيضًا؛ لإمكان الاطّلاع بذلك للمعدومين من غيره، ويظهر وجه ذلك ممّا مرّ في أدلّة الثبوت.
ص: 73
والثالث: الاستصحاب، وقد ظهر ممّا تقدّم مرارًا، تقريره: هو أنّ تلك الألفاظ كانت موضوعة في اللغة لمعانيها المعلومة، وقضيّة الأصل بقائها إلى أن يعلم النقل، والمعلوم تحقّقه في زمان المتشرّعة، وأمّا في زمان الشارع فلا، وعدم العلم بالثبوت كافٍ للحكم بعدم الثبوت.
وهذا الدليل هو أقوى الأدلّة في المقام، وجوابه: هو أنّا ندّعي الثبوت بالأدلّة السابقة.
ص: 74
في ثمرة الحقيقة الشرعيّة
قد وقع الخلاف بين الأعلام في هذا المرام، فالأكثر على الثبوت، وذهب بعضهم إلى عدمه(1)، ونحن نذكر محلّ النزاع اقتفاء(2) بغير واحد من الأعلام، ثمّ نتعرّض إلى تحقيق الحقّ في المقام.
فنقول: لا شبهة في أنّ تلك الألفاظ كانت حقيقة عند أهل اللغة في معاني، وأنّه قد ثبت استعمال الشارع إيّاها في المعاني الشرعيّة، وأنّها بلغت حدّ الحقيقة عند المتشرّعة في تلك المعاني.
وإنّما الكلام في أنّ استعمال الشارع إيّاها لأجل وضعها بإزائها، أو لا؟ وبالجملة: إنّه بطريق الحقيقة أو المجاز؟ وبعبارة أخرى: إنّ المصحّح في استعمالات الشارع أهو الوضع، أم العلاقة؟
ويظهر من تقريرهم محلّ النزاع على النحو المذكور ما أشرنا إليه سابقًا من عدم تحقّق اللفظ المخترع في تلك الألفاظ وانتفاء معنى غير مناسب، وإلّا لم يتصوّر
ص: 75
احتمال التجوّز في الجميع.
ثمّ إنّ ما ذكروا في المقام من تحقّق المعاني لتلك الألفاظ في اللغة وبلوغها حقيقة عرفيّة في المعاني المستحدثة عند أهل الشرع ممّا لا شبهة فيه ولا نزاع، وأمّا استعمال الشارع إيّاها فيها، فهو وإن كان مقطوعًا به أيضًا، لكنّه ليس كما يفهم من كلماتهم عدم الخلاف فيه؛ لما سيجيء من إنكار القاضي(1) ذلك، وادّعائه(2) أنّ استعمال الشارع إنّما هو في المعاني اللغويّة(3) على نحو يجيء إليه الإشارة.
تنبيهٌ نبيه(4)
اعلم: أنّ المعروف من أئمّة الأصول من العامّة والخاصّة أنّ نزاعهم هنا يرجع إلى الإيجاب والسلب الكلّيّين بأنّ المثبت للحقيقة الشرعيّة يدّعي ثبوتها في جميع الألفاظ، والنافي لها يدّعي نفيها كذلك.
ص: 76
قال العلّامة -طاب ثراه- في النهاية بعد دعوى الاتّفاق على إمكان الحقيقة الشرعيّة:
وإنّما النزاع في وقوعها، فمنعه القاضي أبو بكر مطلقًا، وجوّزه المعتزلة مطلقًا، ثمّ قسّم المعتزلة والخوارج وبعض الفقهاء الأسماء الشرعيّة إلى ما أجريت على الأفعال، كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ وغيرها، وإلى ما أجريت على الفاعلين، كالمؤمن والفاسق والكافر؛ وسمّوا الأخير بالدينيّة، فرقًا بينها وبين الأوّل(1).
قال ابن الحاجب: الشرعيّة واقعة خلافًا للقاضي(2).
وقال المحقّق العضديّ بعد تقرير محلّ النزاع: ثمّ لم يذكر في الإحكام والمحصول سوى مذهبين: كونها حقيقة شرعيّة ونسبه إلى المعتزلة؛ ونفيه ونسبه إلى القاضي، والحقّ أنّه لا ثالث لهما(3).
ويستفاد ممّا ذكر وغيره: أنّ كلام المثبتين يرجع إلى الإيجاب الكلّي، والنافين إلى السلب كذلك؛ إذ لو لم يكن مرادهم ذلك لكان كلّ من المثبتين والنافين قائلًا بثبوتها ونفيها في الجملة، فحينئذٍ يلزم أن تكون نسبة القول بالثبوت إلى طائفة والنفي إلى أخرى فاسدة كما لا يخفى.
وأظهر من ذلك في أنّ مرادهم الإيجاب والسلب الكلّيّان: ما ذكروا في تحرير محلّ النزاع من أنّ النزاع أنّ الألفاظ المتداولة على لسان أهل الشرع الّتي بلغت حدّ
ص: 77
الحقيقة عندهم قطعًا في أنّ صيرورتها حقائق أهو بوضع الشارع إيّاها بإزائها فتكون حقيقة شرعيّة، أو لا فتكون حقيقة متشرّعة كما تقدّم؟ ووجه الأظهريّة ظاهر.
وجَمَعَ جَمْعٌ من متأخّري الأصحاب بين القولين، فقالوا بالثبوت في بعض الألفاظ، وهو الّذي يكثر دورانه في كلام الشارع، كلفظ الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والوضوء والغسل والتيمّم والنكاح والطلاق وأشباهها؛ وبالنفي في أخرى(1)، وهو ما لم يكن كذلك، كالخلع والمبارات والإيلاء واللعان وما ضاهاها(2).
بناءً على أنّ المقتضي لتحقّق الوضع الكثرة والاشتهار، فالحكم بثبوت الوضع متوقّف على العلم بتحقّقهما(3)، وهو منحصرٌ في القسم الأوّل؛ إذ غيره إمّا علم عدم تحقّق الكثرة فيه، أو اشتبه حاله، وعلى التقديرين لا يمكن الحكم بثبوت الوضع، أمّا على الأوّل فظاهر؛ لأنّ تحقّق المقتضى مع انتفاء المقتضي ممّا لا يعقل، وأمّا على الثاني؛ فلأنّ الشكّ في المقتضي يوجب الشكّ في المقتضى، ومع الشكّ لا يمكن رفع اليد عن وضع اللغة الّذي كان معلومًا؛ لعدم جواز نقض اليقين بالشكّ أبدًا.
ص: 78
وفيه نظر من وجوه:
الأوّل: أنّ حاصل الاستدلال يرجع إلى أنّه لو كانت(1) الحقيقة الشرعيّة ثابتة في جميع الألفاظ، يلزم أن يتحقّق الغلبة والاشتهار فيها، والتالي باطل لما تقدّم، فالمقدّم مثله.
ونحن نقول: سلّمنا بطلان التالي، لكنّ الملازمة ممنوعة؛ لأنّ ذلك إنّما يتمّ إذا كان طريق ثبوت الحقيقة منحصرًا في الوضع التعيّني، أو كان الموجب والمقتضي لثبوت الحقيقة الشرعيّة منحصرًا فيما ذكر، إذ الحكم بثبوت الحقيقة الشرعيّة بعنوان العموم -بعد تسليم انحصار الموجب فيما ذكر وانتفائه في بعض الألفاظ- ما لا يخفى فساده، لكنّه غير مسلّم؛ إذ ثبوت الوضع كما يمكن أن يكون بالغلبة والاشتهار، يمكن أن يكون بغير(2) ذلك.
إن قيل: إنّ عدم انحصار طريق ثبوت مطلق الوضع فيما ذكر وإن كان مسلّمًا، لكن في خصوص الحقيقة الشرعيّة ما يمنع القول بأن يكون الوضع بغيره، بناءً على أنّ تلك الألفاظ كانت حقائق لغويّة في المعاني اللغويّة.
ولا يمكن رفع اليد عن ذلك؛ لأصالة عدم النقل والتغيّر، إلّا بعد العلم
ص: 79
بخلافه، وهو إنّما يتحقّق في الألفاظ الّتي تحقّقت الغلبة والاشتهار فيها، لا في غيرها؛ لأنّ طريق ثبوت الوضع منحصرٌ في الوضع التعيينيّ والتعيّنيّ، والمفروض عدم تحقّق الثاني، وأمّا الأوّل فهو أيضًا غير معلوم، وإلّا لم يتحقّق الخلاف؛ ولأنّ ذلك لم يصل إلينا بنقل يمكن التعويل عليه، فمقتضى الأصل بقاء المعاني اللغويّة.
والحاصل: أنّ كلام المفصّل يرجع إلى منع ثبوت مقتضى الوضع في جميع الألفاظ على ما مرّ، فمقابلته بالمنع غير مستحسنة عند النظّار.
قلنا: هذا الكلام وإن كان حقًّا، لكن حاصل الجواب: هو أنّا ندّعي ثبوت الوضع في جميع الألفاظ وأنّ الثبوت غير منحصر في الوضع التعيّنيّ، وسيجيء البرهان والكلام عليه مفصّلًا إن شاء الله تعالى.
هذا كلّه على فرض تسليم بطلان التالي ومنع الملازمة، ولك أن تمنع بطلانه بناءً على أنّ نصب(1) النبيّ (صلی الله علیه و آله) لترويج الشريعة وتبليغ الأحكام بالنسبة إلى جميع العباد والبلدان، وحصوله مع عدم تحقّق الكثرة في الاستعمال بعيدٌ جدًّا، فتأمّل.
والثاني: هو أنّهم ذكروا أنّ الثمرة المترتّبة على ثبوت الحقيقة الشرعيّة: الحمل على المعاني الشرعيّة عند ورودها في كلام الشارع مجرّدة عن القرينة، وهي مع التفصيل المذكور وكون الوضع الشرعيّ بالغلبة والكثرة غير ممكنة غالبًا؛ لوضوح أنّ تحقّقها حينئذٍ متوقّفٌ على معلوميّة تلك الألفاظ الّتي تحقّقت فيها الغلبة ومعلوميّة الزمان
ص: 80
الّذي تحقّقت فيه؛ لأنّ الغلبة والاشتهار يفتقران إلى زمان ممتدّ حتّى يحصل الاشتهار بتكرّر الاستعمال، وهما غير معلومين، ولم يتكلّم أحدٌ بتعيينهما.
وعلى تقدير إمكان العلم بالنسبة إلى الألفاظ يبقى الكلام في الأزمان، والظاهر انسداد باب العلم بالنسبة إليه، ومع عدمه لا يمكن تحقّق الثمرة المذكورة؛ لاحتمال أن تكون الأخبار المتضمّنة لتلك الألفاظ صادرة قبل ذلك الزمان، فلا يمكن الحمل على تلك المعاني عند فقد القرينة والبيان، إلّا بالنسبة إلى أخبار علم صدورها في أواخر زمان الشارع، وهي نادرة جدًّا، بخلاف ما إذا لم يكن الأمر كذلك، وسيجيء الكلام فيه على التفصيل بالاستمداد من الله الموفّق الجليل.
والثالث: هو أنّك قد عرفت أنّ العلماء في الحقيقة الشرعيّة على قولين: ثبوتها مطلقًا، ونفيها كذلك، فمن قال بالثبوت قال به في جميع الألفاظ، ومن قال بالنفي قال به كذلك، والتفصيل قول ثالث حدث في هذه الأعصار، يدفعه الإجماع المركّب(1).
وفي هذا تأمّل؛ لأنّ عدم جواز مخالفة مثل هذا الإجماع في أمثال هذه المقامات بعد دلالة البرهان منظورٌ فيه.
إن قيل: إنّ ما تمسّكوا به في إثباتها الاستقراء، وهو عبارة عن تتبّع موارد استعمالات الشارع بحيث حصل الظنّ بالاشتهار والكثرة؛ ومعلوم أنّ ذلك إنّما
ص: 81
يمكن في الألفاظ الكثيرة الدوران، لا مطلقًا، فيلزمهم القول على التفصيل المذكور وإن لم يصرّحوا به.
قلنا أوّلًا: إنّ دليل المثبتين غير منحصر في الاستقراء، فلا يضرّ أخصّيّة بعض الأدلّة من المدّعى بعد وجود غيره ممّا يفيد تمامه، وستقف عليه.
وثانيًا: إنّ التقرير في الاستقراء غير منحصر فيما ذكر، بل له تقرير آخر أيضًا يعمّ جميع الألفاظ كما سيجيء إن شاء الله تعالى، فالتفصيل المذكور غير صحيح.
وحيث قد ثبت بطلانه، تعيّن الأمر في الإيجاب والسلب الكلّيّين، فينبغي التكلّم عليهما، فأقول: التحقيق(1) الأوّل.
ص: 82
واستدلّ على ذلك بأنّا نقطع أنّ «الصلاة» اسم للركعات المخصوصة بما فيها من الأقوال والهيئات، وأنّ صلاة الظهر أربع ركعات بالإجماع، و«الزكاة» اسم لأداء مال مخصوص، و«الصوم» اسم لإمساك مخصوص، و«الحجّ» لقصد مخصوص؛ وأنّها سابقة منها متبادرة إلى الفهم عند إطلاقها، وهي علامة الحقيقة بعد أن كانت في اللغة «الصلاة» للدعاء، و«الزكاة» للنماء، و«الصيام» للإمساك مطلقًا، وهذا لم يحصل إلّا بتصرّف الشارع ونقله لها إليها، وهو معنى الحقيقة الشرعيّة(1).
وفيه نظر من وجوه:
الأوّل: أنّ قولهم: «إنّ الصلاة اسم للركعات المخصوصة»، يغني عن قولهم: «بما فيها من الأقوال والهيئات».
والثاني: أنّ مقتضى قولهم: «إنّها اسم للركعات»، عدم كونها اسمًا لركعة أو
ص: 83
ركعتين، فيلزم أن لا يكون إطلاق اسم «الصلاة» على الوتر وصلاة الصبح حقيقة، وهو فاسد.
ويمكن الجواب عنهما(1): بأنّ المراد من الركعات الأركان إطلاقًا لاسم الكلّ على الجزء، ويكون المراد من قولهم: «مع(2) ما فيها» مع ما يتعلّق بها، أعمّ من أن يكون فيها أو بينها أو بعدها.
والثالث: أنّ الاستدلال المذكور يتضمّن ثلاث مقدّمات، الأولى: أنّا نقطع بكون «الصلاة» اسمًا للركعات، والثانية: كون المعاني الشرعيّة متبادرة من تلك الألفاظ، والثالثة: أنّ ذلك لم يحصل إلّا بتصرّف الشارع.
فحينئذٍ نقول: لا يخلو إمّا أن يكون المراد من كون «الصلاة» اسمًا للركعات، أنّها حقيقة فيها كما هو الظاهر من العبارة، أو مستعملة فيها، فإن كان المراد الأوّل نقول: لا يخلو إمّا أن يكون المراد أنّها حقيقة فيها في زمان الشارع، أو في زمان المتشرّعة، وعلى الأوّل نقول: إنّه ممّا لا يخفى فساده؛ لكونه مصادرة على المطلوب، وأيضًا يلزم حينئذٍ استدراك المقدّمة الثانية كما لا يخفى.
ص: 84
وعلى الثاني(1) لا يخلو إمّا أن يكون المراد من سبق المعاني الشرعيّة من تلك الألفاظ الّذي هو مدلول المقدّمة الثانية، سبقها في زمان الشارع أو المتشرّعة، والأوّل مع كونه في محلّ المنع مستلزم لاستدراك المقدّمة الأولى كما لا يخفى، والثاني فهو وإن كان مسلّمًا، لكنّ التشبّث به ممّا لا فائدة فيه؛ إذ ثبوت الحقيقة المتشرّعة في تلك الألفاظ ممّا لا نزاع فيه.
وأيضًا بعد الإغماض عمّا ذكر لا يتمّ المطلوب؛ إذ حاصل الاستدلال حينئذٍ: حصول القطع بثبوت الحقيقة المتشرّعة وبسبق تلك المعاني منها عندهم وأنّ ذلك لم يحصل إلّا بتصرّف الشارع، فنقول: إنّ ذلك وإن كان مسلّمًا، لكن لا يلزم منه الحقيقة الشرعيّة؛ لجواز أن يكون تصرّف الشارع على سبيل التجوّز.
وإن كان المراد الثاني(2)، نقول حينئذٍ: يبقى الترديد في المقدّمة الثانية بحاله بأن يقال: إن كان المراد من سبق المعاني سبقها في زمان المتشرّعة، يرد عليه ما تقدّم من عدم تماميّة المطلوب؛ وإن كان المراد سبقها في زمان الشارع، يرد عليه أيضًا ما تقدّم من منع ذلك، ويرد عليهما أنّه يلزم حينئذٍ استدراك المقدّمة الأولى(3).
ويمكن أن يقال في إثبات المقدّمة الثانية: بأنّه لا شبهة في شدّة افتقار الصحابة في استعمال تلك الألفاظ في المعاني الشرعيّة، وهي موجبة لتحقّق كثرة الاستعمال
ص: 85
بحيث تستلزم مهجوريّة المعاني اللغويّة.
لكن يتوجّه عليه: أنّ ذلك لا يمكن أن يقال به في جميع الألفاظ، فغاية ما يثبت منه القول بالتفصيل، وقد عرفت أنّ المدّعى العموم، فتأمّل. وأيضًا يلزم أن يكون الوضع في ذلك البعض بالتعيّن، فيرد عليه ما أشرنا إليه في ردّ القائل بالتفصيل.
والرابع: ما ذكروه في المقام(1)، وهو راجع إلى منع المقدّمة الأولى، وهو أنّ استعمال تلك الألفاظ في المعاني المستحدثة في زمان الشارع غير مسلّم، بل هي مستعملة عند الشارع في معانيها اللغويّة، والزيادات شروط لوقوعها عبادات معتبرة مقبولة شرعًا.
فيقال: كما لم يدّعِ أحدٌ بأنّ التوجّه إلى القبلة والاحتراز عن النجاسة ونحوهما داخلٌ في مفهوم الصلاة، بل هي شرائط لوقوعها عبادات معتبرة شرعًا، كذا نقول: إنّ لفظ «الصلاة» مستعملٌ عند الشارع في المعنى اللغويّ، وهو الدعاء، وكونه مبتدأ بالتكبير ومختتمًا بالتسليم؛ وبالجملة: كونه على الكيفيّة المعلومة من شرائط وقوعه عبادة مقبولة شرعًا.
وكذا الكلام في «الصوم»، فإنّه استعمل في معناه اللغويّ، أي الإمساك، وكونه عن أشياء مخصوصة في وقت مخصوص شرط وقوعه مقبولًا شرعًا، وهكذا الأمر في غيرهما، فمفاد هذا الكلام أنّ تلك الألفاظ بالنسبة إلى معانيها
ص: 86
اللغويّة تقييد(1)، بخلاف الأوّل، فإنّها بناءً عليه منقولة كما تقدّم.
وتظهر الثمرة بين القولين فيما إذا شكّ اشتراط العبادة بشيء بناءً على القول ببقائها في المعاني اللغويّة، وكونه من المعنى المنقول إليه بناءً على القول الآخر، فإنّه على الأوّل يدفع بالأصل، بناءً على أنّ ما لم يثبت الاشتراط به يكون الأصل عدمه، بخلافه على القول بالنقل، فإنّ المستعمل فيه لمّا كان من الأمور التوقيفيّة، فكلّ ما احتمل أنّه داخل في ذلك بحسب الإتيان به، وإلّا لم يحصل الامتثال.
هذا إذا لم يتحصّل المعنى المستعمل فيه، وأمّا إذا علم ذلك وشكّ في أمر خارج - أي في اشتراط ذلك المعنى بذلك الخارج - فيدفع بالأصل أيضًا.
وردّ ذلك: بأنّه لو كانت «الصلاة» باقية في المعنى اللغويّ عند الشارع، لزم أن لا يكون الأخرس المنفرد مصلّيًا أبدًا، والتالي باطل، فالمقدّم مثله(2).
أمّا الشرطيّة فلأنّ «الصلاة» في اللغة(3) إمّا بمعنى الدعاء، كما فيما روي
ص: 87
عنه (صلی الله علیه و آله): «من دعي إلى طعام فليجب، وإن كان صائمًا فليصلّ»(1) أي: فليدع لصاحب الطعام. وإمّا الاتّباع، ومنه المصلّي(2) في الحَلْبة(3) لاتّباعه السابق(4)، ولم يتحقّق
ص: 88
شيء منهما بالنسبة إليه، أمّا الدعاء فظاهر، وأمّا الاتّباع فكذلك؛ إذ المفروض أنّه منفرد؛ وأمّا بطلان اللازم فبالاتّفاق.
وفيه نظر، أمّا أوّلًا: فلأنّا لا نسلّم انتفاء المعنى الثاني بالنسبة إليه؛ لوضوح أنّه مأمور بإتيان الأفعال، فهو في فعله متابع لله تعالى والرسول، وربما ادّعي تحقّق الدعاء بالنسبة إليه أيضًا؛ لوضوح تحقّق الدعاء القلبيّ، وهو الكلام النفسيّ منه.
وفيه بحثٌ؛ لانّا بعد تسليم ذلك نقول: إنّ الكلام النفسيّ عبارة عن مدلول الكلام اللفظيّ، وتحقّقه بالنسبة إلى الأخرس يتوقّف على اقتداره على فهم تلك الأدعية، وانتفاؤه بالنسبة إلى كثير من الأخرس ظاهر.
وأمّا ثانيًا: فلأنّ ذلك مشترك الورود؛ إذ على القول بالنقل لا شبهة في أنّها منقولة إلى الأقوال والأفعال، ولا ريب في عدم إمكان تحقّق الأوّل بالنسبة إلى الأخرس، فيلزم أن لا تتحقّق «الصلاة» بالنسبة إليه أيضًا؛ لأنّ انتفاء الجزء يستلزم انتفاء الكلّ.
ويمكن الجواب عنه: بأنّا لا نسلّم بناءً على النقل أنّ «الصلاة» منقولة إلى الأقوال والأفعال مطلقًا، بل هو بالنسبة إلى المتمكّن منهما، وأمّا غير المتمكّن من
ص: 89
الأوّل فالصلاة بالنسبة إليه إنّما هي الأفعال فقط، فيندفع النقض بناءً على القول بالنقل ويبقى بناءً على غيره.
لكنّه يندفع بما مرّ من عدم تسليم انتفاء كلّ من المعنيين اللغويّين للصلاة في حقّ الأخرس، فتأمّل.
ويمكن أن يقال في ردّ أصل المنع: بأنّ القطع حاصل بأنّ «الصلاة» مستعملة عندنا في الأقوال والأفعال مثلًا؛ ونقطع أيضًا بأنّه ليس استعمال أهل الشرع إلّا تبعًا لاستعمال الشارع واستعمالهم إيّاها ليس إلّا فيما استعمله الشارع، فاحتمال عدم استعماله في غير المعنى اللغويّ مقطوع الفساد، وتصفّح الأخبار يشهد عليه بأبلغ بيان.
والخامس: ما ذكروه أيضًا في المقام، وهو راجع إلى تسليم المقدّمة الممنوعة، وهو أنّا سلّمنا استعمال تلك الألفاظ في معانيها الشرعيّة، لكن لا يلزم من استعمالها إيّاها الحقيقة الشرعيّة؛ لجواز كونها مجازات(1).
وفيه ما لا يخفى؛ لأنّ المستدلّ لم يستدلّ بالاستعمال المطلق على الحقيقة، بل ادّعى سبق تلك المعاني منها، كما هو إحدى مقدّمات دليله، فحقّ الإيراد أن يردّد فيه، فيمنع(2) بالنسبة إلى زمان الشارع، وغيره لم ينفع على ما تقدّم.
ص: 90
ويمكن أن يرجع ذلك إلى منع المقدّمة الثانية، أي منع سبق المعاني المستحدثة من تلك الألفاظ في زمان الشارع، بناءً على أنّ منع الملزوم كما يمكن بمنع نفسه كذا يمكن بمنع لازمه، ومعلوم أنّ تبادر المعنى من اللفظ ملزوم لكونه حقيقة فيه، وهو لازم له، ومآل هذا الإيراد منعه، ومنع(1) اللازم يستلزم منع الملزوم، فتكون دعوى السبق ممنوعة بالحقيقة.
لكن يمكن أن يتشبّث في إثباته بالاستقراء بأن يقال: يظهر من التتبّع في كلمات الشارع أنّ كلّ موضع استعملت تلك الألفاظ في معانيها الجديدة لم تكن مقترنة بالقرينة، وكلّ موضع استعملت وأريد منها المعاني اللغويّة تكون مقترنة بالقرينة(2).
وبعبارة أخرى وهي: أنّه قد ظهر لنا أنّ تلك الألفاظ كلّما وردت في كلمات الشارع مجرّدة عن القرينة قد حملها المخاطبون بها على المعاني المستحدثة، وحملهم إيّاها على المعاني اللغويّة إنّما يكون عند الاقتران بالقرينة، وبضميمة أصالة عدم الاقتران بها مطلقًا وإن كانت حاليّة، يظهر عدم افتقار المخاطبين في فهم تلك المعاني منها إلى القرينة؛ ولا يكون ذلك إلّا عند كونها متبادرة منها، وهو المطلوب.
وحينئذٍ لا يرد على الدليل المذكور إلّا ما أشرنا إليه آنفًا من استدراك المقدّمة الأولى؛ إذ كان الممكن أن يقال في تقريره: لنا القطع بسبقها منها في زمان الشارع؛ وذلك لم يحصل إلّا بتصرّف من الشارع، فذلك(3) معنى الحقيقة الشرعيّة، فمآل
ص: 91
هذا الدليل على النحو المقرّر يرجع إلى الاستقراء، وهو أحد أدلّة الإثبات والمثبتين.
ويمكن أن يقرّر على نحوين آخرين أيضًا:
الأوّل: هو أنّه لا شبهة في أنّ العلم بمصطلحات أرباب العلوم والصنائع حاصل، كالصحيح والمعتلّ والمضاعف والمثال واللفيف والأجوف والمهموز والناقص والرفع والنصب والجرّ والفاعل والمفعول والحال والتميز والتابع والعطف والفعل والاسم والحرف والصغرى والكبرى والقضيّة والشكل والوجوب والندب والجوهر والعرض وغير ذلك عند أرباب العلوم المعلومة.
ولا شبهة في أنّ ذلك ليس بالتصريح بالوضع من أربابهم في جميع الموادّ، وكيف؟! مع أنّ كثيرًا من أرباب الصنائع لا يعرفون معنى الوضع أصلًا، فضلًا عن التصريح به لغيره، بل إنّما يتحدّس بالوضع بالتصفّح في استعمالاتهم والتفحّص في محاوراتهم، فإنّه لمّا يظهر بعد التصفّح كثرة استعمالهم إيّاها في معاني معيّنة وندرته في غيره، يتحدّس بأنّها في الأوّل حقائق، فكما يظهر معاني حقيقيّة بكثرة الاستعمال في هذه الموادّ، فليظهر ذلك في المعاني الشرعيّة بالنسبة إلى استعمالات الشارع ومخاطباته.
فإنّ تلك الألفاظ نجدها في مخاطبات الشارع مستعملة في معاني شرعيّة، إمّا على سبيل الدوام، أو على سبيل الأغلبيّة والأكثريّة، فاستعمالها في غيرها في كلامه إمّا غير واقع، أو واقع على سبيل الشذوذ والندرة، فيتحدّس من ذلك أنّ بناء الشارع على تعيين تلك الألفاظ لتلك المعاني وهجر غيرها من المعاني اللغويّة.
والثاني: التصفّح في الاصطلاحات، فإنّ التتبّع فيها يشهد بأنّ أربابه يستعملون
ص: 92
فيها ألفاظًا على سبيل الحقيقة؛ ومعلوم أنّ الشارع سيّدهم، فينبغي أن يكون استعماله تلك الألفاظ في تلك المعاني على الحقيقة، وهو المدّعى(1).
والثاني: ممّا دلّ على ثبوت الحقيقة الشرعيّة: هو أنّه لا شبهة في أنّ بعثة النبيّ (صلی الله علیه و آله) إنّما هي لهداية الناس وترويج الأحكام من العبادات والمعاملات، فكما يكون منصبه بيان الأحكام ليحصل العلم للمكلّفين بها، يكون المناسب لذلك أن يضع ألفاظًا خاصّة لما جاء به(2)؛ ليمكن لهم التعبير بها عنها في الاستعمال ويحصل لهم الاستغناء عن تجشّم القرائن.
وبالجملة: فكما إنّ الشارع مستقلّ فيها من غير متابعة للشرائع السابقة، ينبغي أن يكون في إطلاق اللفظ عليها مستقلًّا أيضًا بأن لا يكون إطلاقه اللفظ عليها لتبعيّة وضع الغير ومناسبته بأن لا يكون مصحّح الإطلاق العلاقة، بل الوضع(3).
والثالث: هو أنّ كلام النافين يرجع إلى عدم العلم، بناءً على أنّ عمدة أدلّتهم في المقام هو أنّه لمّا كانت تلك الألفاظ موضوعة في اللغة لمعاني معلومة ولم يعلم في زمان الشارع نقلها منها، فمقتضى الأصل بقاؤها على معانيها اللغويّة؛ وكلام
ص: 93
المثبتين يرجع إلى دعوى العلم بالثبوت والنقل أو الظنّ، فمتى تعارض قول المثبت والنافي على النهج المذكور يقدّم الأوّل؛ لوضوح عدم التنافي بين دعوى العلم بشيء ودعوى عدم العلم به.
اعلم: أنّ الثمرة المترتّبة على القولين وإن أشرنا إليها مرارًا، لكن أعدنا الكلام إليها في هذا المقام للتنبيه على بعض الفوائد، فنقول: لا شبهة(1) في أنّ الحجّة في الآيات والأخبار إنّما هو فهم الحاضرين المخاطبين(2) بها؛ إذ لو لم تكن الحجّة بالنسبة إلى الغائبين والمعدومين ذلك، لا يخلو إمّا أن يكون كلّ أحد مكلّفًا بما(3) يفهمه منها، أو التكليف منحصر بالنسبة إلى الحاضرين، وكلّ منهما فاسد.
أمّا الأوّل: فلاستلزامه الهرج والمرج(4) في الدين، ولمخالفته الإجماع والأخبار
ص: 94
الدالّين على ثبوت المشاركة في التكليف.
وأمّا الثاني: فلاستلزامه الخروج من الدين المنفيّ بإجماع المسلمين، بل الضرورة من الدين، وبما ورد من أنّ: «حلال محمّد (صلی الله علیه و آله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(1)، فتعيّن أن تكون الحجّة بالنسبة إلى المعدومين فهم الحاضرين، فتكليف المعدومين إنّما يحصل بتحصيل فهم الحاضرين(2).
إذا علمت ذلك فاعلم: أنّ الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة لا تخلو من أقسام أربعة:
الأوّل: أنّا نعلم بأنّ المعاني المفهومة منها عندنا عين المعاني المفهومة حال الخطاب ولم يتطرّق إليها نقل وتغيير، كالسماء والأرض والحجر والشجر والقيام
ص: 95
والقعود وغيرها.
والحكم في هذا القسم لزوم الحمل على المعاني المفهومة منها عندنا؛ لأنّها عين المعاني المفهومة منها حال الخطاب، فالتكليف يحصل بحملها على تلك المعاني.
إن قيل: إنّ المسلّم هو حجّيّة فهم المخاطبين الحاضرين من الخطابات الشرعيّة، ومجرّد العلم باتّحاد مدلول اللفظ عند الغائبين والحاضرين لا يكفي في تحقّق(1) ذلك؛ إذ قد يتحقّق ذلك معه، كما إذا لم تقترن الخطابات بالقرينة الصارفة عن تلك المعاني، إذ لو لم تكن حينئذٍ تلك المعاني مرادة للشارع، يلزم مع إرادة غيرها الإغراء بالجهل والتكليف بما لا يطاق، ومع عدم إرادة شيء منهما اللغو والعبث، وقد يتخلّف عنه كما إذا كانت مقترنة بالقرينة الحاليّة أو المقاليّة الصارفة عن حمل اللفظ على تلك المعاني، فعلى هذا لا يلزم من حمل تلك الألفاظ على المعاني المفهومة منها عندنا الّتي هي عين المعاني المفهومة عند المخاطبين تحصيل(2) فهم الحاضرين الّذي هو مناط ثبوت التكليف بالنسبة إلى الغائبين(3).
قلنا: هذه القرائن إن كانت معلومة لنا، فلا كلام فيه، إذ المُتَّبَع حينئذٍ ما
ص: 96
أفادتها، وإلّا نحمل(1) الألفاظ على معانيها الظاهرة وندفع احتمال وجود القرائن بالأصل، فتكون المعاني المفهومة منها للمخاطبين تلك المعاني، فيتمّ المرام.
والثاني: خلاف ذلك، أي تكون المعاني المفهومة منها عندنا مغايرة للمعاني المفهومة حال الخطاب، كالرطل والمثقال والدرهم ونحوها.
والحكم في هذا القسم: أنّه إن كانت المعاني المفهومة حال صدور الخطاب معلومة، يجب حمل الخطابات عليها، وقد عرفت وجهه؛ وإلّا يكون ذلك من قبيل المجملات الّتي لا يجوز بها الاستدلال في إثبات الأحكام، ولا يجوز الحمل على المعاني المفهومة عندنا؛ للعلم بعدم إرادتها منها كما عرفت.
والثالث: أن تكون المعاني لتلك الألفاظ معلومة عندنا ومفهومة في محاوراتنا ولم يعلم أنّها موضوعة حال الخطاب وقبلها بإزاء تلك المعاني المفهومة منها عندنا أو غيرها، كالأمر والنهي والعامّ والخاصّ.
والظاهر أنّ الحكم في هذا القسم لزوم الحمل على المعاني العرفيّة وأنّها معانيها حال الخطاب وقبلها، إذ لو لم تكن(2) تلك المعاني معانيها الموضوعة لها فيها، يلزم أن يكون وضعها بإزاء غيرها، فيلزم النقل، وهو خلاف الأصل والظاهر، فتعيّن الأوّل.
ص: 97
والرابع: أن يعلم وضع الألفاظ بإزاء معاني معيّنة وعلم نقلها منها إلى المعاني المخصوصة، لكن حصل الاشتباه والشكّ في مبدأ النقل أهو قبل صدور الخطابات فتكون المعاني المفهومة للحاضرين من تلك الخطابات المعاني المتجدّدة، أم بعده فتكون المعاني المفهومة لهم منها معانيها القديمة؟
وهذا هو الّذي كلامنا فيه، فعلى القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة، يكون النقل قبل صدور الخطابات، فتكون المعاني المفهومة للمخاطبين من تلك الألفاظ حال التجرّد المعاني الشرعيّة، فالواجب علينا الحمل على تلك المعاني حينئذٍ لما تقدّم، وعلى القول بالعدم يكون النقل بعده، فاللازم حينئذٍ الحمل على المعاني القديمة؛ لأنّها المفهومة منها للمخاطبين حال الخطاب عند التجرّد عن القرائن.
وهذه هي الثمرة بين القولين، وحيث قد عرفت حقيقة قول المثبتين، ظهر لك الحال في البين.
اعلم: أنّ مظهر الثمرة المذكورة في القسم الرابع من الأقسام المذكورة إمّا في الألفاظ الواردة في الكتاب، أو السنّة، أو في كليهما، والأوّل والثاني فاسد؛ لإطباق العلماء قاطبة على عدم الافتراق بينهما، فإنّ المثبتين للحقيقة الشرعيّة أطبقوا على حمل تلك الألفاظ على المعاني الشرعيّة عند التجرّد عن القرينة، سواء كانت في القرآن أو السنّة، والنافين لها اتّفقوا على الحمل على المعاني اللغويّة حينئذٍ كذلك، والفارق بين الفارقين غير موجود، فتعيّن الثالث.
ص: 98
فعلى هذا نقول: إنّه لا إشكال فيه عند كون الشارع هو الله تعالى، أمّا في الخطابات القرآنيّة فظاهر، وأمّا في الخطابات النبويّة فلأنّه حينئذٍ تابع كالمتشرّعة، فخطاباته تابعة لخطاباته تعالى وعلى نهج خطاباته، وكذا على احتمال أنّ الواضع في الألفاظ الواردة في الكتاب هو الله تعالى وفي الألفاظ الواردة في السنّة هو النبيّ (صلی الله علیه و آله) .
وأمّا عند كون الشارع هو النبيّ (صلی الله علیه و آله) فيشكل الأمر في حمل الألفاظ الواردة في الكتاب على المعاني الشرعيّة عند التجرّد؛ لأنّ المتكلّم بها - وهو الله تعالى - لم يضعها لتلك المعاني، ووضع النبيّ (صلی الله علیه و آله) إنّما يقتضي حمل خطاباته وخطابات من تابعه عليها.
وجوابه: أنّ مدلول خطاب الله تعالى يتعيّن بتعيّن المخاطب بذلك الخطاب، فإن كان من أهل اللغة فالمراد منه المعنى اللغويّ، وإن كان من أهل العرف فالمراد منه المعنى العرفيّ، وإن كان من أهل الشرع فالمراد منه المعنى الشرعيّ، فخطاب الله تعالى مع كلّ قوم جارٍ على مقتضى اصطلاحهم، فالخطابات القرآنيّة لمّا كانت متوجّهة إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) والمتشرّعة، وجب حملها على المعنى الشرعيّ الّذي هو مصطلحهم.
نعم، بقي في المقام شيء، وهو أنّ الخطاب المتوجّه إلى أهل اصطلاح(1) إنّما يجب حمله على المعنى المصطلح عندهم إذا كان اصطلاحهم سابقًا على توجّه الخطاب، وفيما نحن فيه ليس كذلك، بل الأمر بالعكس؛ لأنّ ورود تلك الألفاظ في القرآن سابق عن وضع النبيّ (صلی الله علیه و آله)؛ لأنّ المعاني الّتي هي مدلولاتها توقيفيّة لا يمكن الاطّلاع عليها إلّا من قبل الله تعالى، وإيقاف الله تعالى تلك المعاني بواسطة تلك الخطابات.
ص: 99
فلا يتمّ الجواب؛ لأنّ استعمال الله تلك الألفاظ في تلك المعاني إمّا لأجل الوضع، فيخرج من محلّ الكلام، إذ حينئذٍ يكون الوضع مستندًا إليه تعالى، لا إليه (صلی الله علیه و آله)، أو لأجل العلاقة، فتكون تلك الألفاظ في تلك المعاني مجازات وإنّما وضعها النبيّ (صلی الله علیه و آله) بعد ورودها في الكتاب، فحينئذٍ لا تكون تلك الألفاظ الواردة في الكتاب بالنسبة إلى ذلك الاستعمال حقيقة شرعيّة؛ لأنّ اتّصافها بها مسبوق بالوضع، والوضع حينئذٍ مسبوق بورودها فيه، بل اتّصافها بها إنّما يكون بالنسبة إلى الخطابات النبويّة، فلا يمكن تحقّق الثمرة المذكورة في الألفاظ الواردة في الكتاب من حيث ورودها فيها.
وجوابه، هو ما تقدّم في البحث الثاني عند احتمال كون الوضع في جميع الألفاظ مستندًا إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) وملخّصه: أنّ ذلك إنّما يتوجّه إذا كان توقيف النبيّ (صلی الله علیه و آله) للمعاني المدلول عليها بتلك الألفاظ من تلك الخطابات، وهو غير مسلّم؛ لجواز التوقيف بغير تلك الألفاظ، ثمّ وضع النبيّ (صلی الله علیه و آله) تلك الألفاظ بإزائها ليتيسّر التعبير، ثمّ توجّه الخطابات القرآنيّة إليه(1)، فيكون الوضع والاصطلاح سابقًا على ورودها في القرآن، فلا إشكال وقد تقدّم الكلام في ذلك بما لا مزيد.
ص: 100
إبراز كلام لختم مقام
اعلم: أنّ المنقول من المعتزلة(1) في إثبات الحقيقة الدينيّة هو أنّ «الإيمان» في اللغة: التصديق، وفي الشرع: العبادات المخصوصة، ولا مناسبة مصحّحة للتجوّز قطعًا.
أمّا أنّ «الإيمان» في اللغة ذلك فبالإجماع؛ وأمّا أنّه في الشرع ما ذكر؛ فلأنّ العبادات هي الدين المعتبر، والدين هو الإسلام، والإسلام هو الإيمان، فالعبادات هي الإيمان.
أمّا أنّ العبادات هي الدين، فلقوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾(2)، واسم الإشارة للمذكور، وهو إمّا العبادات المدلول عليها بقوله: ﴿لِيَعْبُدُوا الله﴾، بناءً على أنّه بتأويل: لعبادة الله، والمصدر المضاف يفيد العموم إمّا مطلقًا، أو هنا بقرينة المقام، أو الصلاة والزكاة؛ وأيّ منهما كان يثبت المطلوب، أمّا على الأوّل فظاهر، وأمّا على الثاني فلأنّه إذا ثبت إطلاق الدين على هذين النوعين من العبادتين يثبت على جميع الأنواع؛ لعدم القول بالفصل، أو يقال: إنّ الدين اسم لمجموع العبادات، أطلق على هذين النوعين تنبيهًا على أفضليّتهما حتّى كأنّهما مجموعها.
ص: 101
وأمّا أنّ الدين هو الإسلام، فلقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الْإِسْلَامُ﴾(1).
وأمّا أنّ الإسلام هو الإيمان؛ فلأنّه لو كان غير الإيمان لزم أن لا يقبل الإيمان من مبتغيه، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، أمّا الملازمة فلقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾(2)، ولقوله(3) تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(4).
وجه الدلالة أمّا بالنسبة إلى الآية الأُولى فظاهر، وأمّا بالنسبة إلى الثانية فتوضيح ذلك يقتضي أن يقال: إنّ الآية الشريفة وردت في قوم لوط، وضمير المجرور في الموضعين فيها عائد إلى البلدة الّتي كان (علیه السلام) فيها، والمراد بالمؤمنين المخرجين لوط ومن آمن معه، كما أشار إليه سبحانه بقوله: ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾الآية(5)، وبقوله تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ الآية(6).
فعلى هذا نقول: الظاهر أنّ قوله تعالى: ﴿فَمَا وَجَدْنَا﴾ الآية، في بيان كمّيّة المؤمنين المخرجين أهم أهل بيت واحد، أم أهل بيوت متعدّدة؟ وقد دلّ قوله
ص: 102
تعالى: ﴿غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ أنّهم أهل بيت واحد، وذلك البيت منزل لوط، كما روي في العلل(1) عن النبيّ (صلی الله علیه و آله)، وكلمة «غير» من أدوات الاستثناء، والمستثنى مفرّغ، والتقدير بمعونة السياق: فما وجدنا فيها أهل بيت من المؤمنين أصلًا إلّا أهل بيت واحد منهم.
وذلك إنّما يكون إذا صدق المسلم على المؤمن واتّحد معه، وإلّا كان اللائق أن يقال: غير بيت من المؤمنين، واتّحاد المسلم مع المؤمن يستلزم اتّحاد الإسلام مع الإيمان، وهو المطلوب.
ثمّ لا يخفى عليك أنّ القدر اللازم ممّا ذكر أنّ العبادات هي الإيمان، والمدّعى عكس ذلك، لكن أجيب عنه: بأنّ صحّة الحمل بين الصفات تقتضي(2) اتّحاد المفهوم، ولهذا لا تصحّ: «الكتابة ضحك»، كما تصحّ: «الكاتب ضاحك»، فقولنا: «العبادات هي الإيمان» وعكسه واحد(3).
وردّ ذلك بصحّة قولنا: «الضرب فعل»، و«المشي حركة» ونحوهما مع انتفاء الاتّحاد.
ويمكن أن يقال بكفاية هذا القدر في الاستدلال وإن لم يثبت أنّ الإيمان هو العبادات، إذ يكفي في الاستدلال أن يقال: إنّ العبادات يصدق عليها الإيمان لما تقدّم، وهذا الصدق لا يمكن أن يكون على سبيل التجوّز، لما تقدّم من انتفاء
ص: 103
المصحّح، فتعيّن أن يكون على سبيل الحقيقة؛ وهو إمّا على سبيل النقل، أو الارتجال، أي الوضع الابتدائيّ، لا سبيل إلى الأوّل؛ لما عرفت من انتفاء المناسبة، فتعيّن الثاني، فثبتت(1) الدينيّة لما تقدّم من أنّها: ما لا يعرف أهل اللغة لفظه، أو معناه، أو كليهما؛ وما نحن فيه من القسم الثاني، وأمّا الأوّل والثالث فغير واقع، فالواقع من الدينيّة ما يعلم أهل اللغة لفظه، لا معناه.
والفرق بينها وبين الشرعيّة إمّا بالخصوص والعموم بأنّ الشرعيّة أعمّ منها؛ لأنّ الشرعيّة تكون على سبيل النقل والارتجال بخلافها، أو بالمباينة بأنّ الوضع في الشرعيّة نقليّ فقط وهنا ارتجاليّ كذلك، وقد تقدّم الكلام بما لا مزيد عليه.
وبالجملة: هذا حاصل ما ذكروا في المقام، لكن فيه نظر؛ لأنّا لا نسلّم أنّ «الإيمان» في الشرع عبارة عمّا ذكر، بل هو التصديق بما جاء به النبيّ (صلی الله علیه و آله)، والاستعمال إمّا على سبيل الحقيقة أو التجوّز، بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمها، والمناسبة بين المعنيين بالإطلاق والتقييد.
وعلى فرض التسليم لا نسلّم انتفاء المناسبة بين العبادات والتصديق الّذي هو المعنى اللغويّ للإيمان، بناءً على أنّ التصديق من لوازم العبادات المقبولة وشرائطها المسلّمة، فيكون إطلاقه عليها إطلاقًا لاسم اللازم على ملزومه.
ص: 104
هذا هو الّذي أفاده المحقّق التفتازانيّ(1)، لكنّه مردود عليه بأنّ التصديق الّذي هو من شرائط العبادات هو التصديق الخاصّ، أي التصديق بما جاء به النبيّ (صلی الله علیه و آله) والإيمان في اللغة معناه: مطلق التصديق، إلّا أن يقال: إنّ التصديق الخاصّ مستلزم للتصديق المطلق، فلعلّ هذا القدر كافٍ في المجازيّة، فتأمّل.
وما ذكر في بيان أنّ الإيمان العبادات، غير تامّ، أمّا ما استدلّ به على أنّ العبادات هي الدين؛ فلأنّا لا نسلّم أنّ المشار إليه لاسم الإشارة هو ما ذكر، بل الظاهر أنّه الدين المخلص، أي الدين المخلص لله هو دين الملّة القيّمة.
وأمّا ما استدلّ به على أنّ الإسلام هو الإيمان؛ فلأنّ قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾(2) إنّما يدلّ على النهي عن ابتغاء المغاير للإسلام بحيث يخرج بابتغائه عن الإسلام، والإيمان ليس كذلك، بل يؤكّده.
وقوله تعالى: ﴿غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾(3) إنّما يعلم بقرينة المقام أنّ المسلمين بمعنى المؤمنين، ولا شبهة في جواز استعمال كلّ منهما مقام الآخر عند قيام القرينة، ولا يلزم منه اتّحاد مفهومي اللفظين، وكيف؟! مع أنّ ذلك يستلزم انسداد باب المجاز بالمرّة، إذ كلّ لفظ إذا استعمل في مقام الآخر يمكن أن يقال باللسان باتّحاد مفهوميهما، ولا ارتياب في فساده.
ص: 105
هذا، على أنّ قوله تعالى: ﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾(1) صريحٌ في تخالفهما، فمن أين ثبت أنّ الإيمان هو العبادات؟!
واستدلّوا أيضًا في أنّ الإيمان الأعمال، بأنّه لو لم يكن كذلك بل كان الإيمان هو التصديق، لزم أن يكون قاطع الطريق المصدِّق مؤمنًا، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.
أمّا الملازمة فظاهرة؛ لوضوح أنّ قطّاع الطريق المعبّر عنهم في ألسنة الفقهاء بالمحاربين، يمكن أن يكونوا مصدّقين لما جاء به النبيّ (صلی الله علیه و آله) فعند ذلك يكونون مؤمنين؛ لأنّ المفروض أنّ الإيمان عبارة عن ذلك.
وأمّا بطلان التالي؛ فلأنّ قاطع الطريق مخزيٌّ يوم القيامة، والمؤمن ليس بمخزيّ، فقاطع الطريق ليس بمؤمن.
أمّا الصغرى؛ فلقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾(2).
وأمّا الكبرى فلقوله تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي الله النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ﴾(3)، وحيث قد ثبت أنّ الإيمان ليس بتصديق، تعيّن أنّه الأعمال والعبادات؛ لانتفاء
ص: 106
القول الثالث؛ ولمّا لم يتحقّق مناسبة بين المعنى اللغويّ للإيمان والعبادات، انتفى احتمال المجازيّة والنقل، فلم يبقَ إلّا أن يكون ذلك من الموضوعات المبتدئة، وهو المطلوب(1).
وفيه نظر، أمّا أوّلًا(2): فلأنّ ذلك مشترك الورود؛ لجواز أن يقال: إنّ الإيمان لو كان عبارة عن العبادات، لكان قاطع الطريق المؤدّي لها مؤمنًا، واللازم باطل، فالملزوم مثله، أمّا الملازمة فبيّنة، إذ المفروض أنّ الإيمان العبادات، فلا محالة يكون المؤمن هو الآتي بها، وأمّا بطلان اللازم فبعين ما ذكر حرفًا بحرف.
إن قيل: إنّهم وإن ذكروا في الاستدلال الأوّل أنّ الإيمان العبادات، لكنّهم لم يذكروا ذلك في الاستدلال الثاني، بل حكموا أنّ الإيمان الأعمال، فيمكن أن يكون مرادهم منها أعمّ منها، فحينئذٍ لا يرد عليهم النقض المذكور، إذ من جملة الأعمال كفّ النفس عن قطع الطريق، وقاطع الطريق لم يأتِ بذلك، فلا يكون مؤمنًا، فالنقض مندفع بناءً على أنّ الإيمان الأعمال، وغير مندفعٌ بناءً على أنّه التصديق، فحصل الافتراق.
وعلى تقدير أن يكون المراد بالأعمال العبادات نقول: كفُّ النفس عن هذا
ص: 107
العمل لكونه مبغوضًا لله تعالى عبادةٌ، والمفروض أنّه قطع الطريق، فلم يصدر عنه هذه الطاعة، فلا يكون مؤمنًا.
قلنا: هذا مبنيٌّ على أنّ المطلوب بالنهي كفّ النفس، وهو محلّ الكلام، وعلى فرض التسليم نقول: إنّ الأعمال غير متناهية، فعند صدور كفّ النفس عن قطع الطريق لا محالة أنّه تارك لبعض الأعمال، فينبغي أن لا يكون(1) مؤمنًا، فلا يبقى للمؤمن مصداق، وهو بديهيّ الفساد، وعلى تقدير أن يكون المراد بالأعمال ما يمكن إرجاعه إلى العبادات بتحويل النيّات، فكذلك.
ثمّ يبقى المطالبة لما دلّ على أنّ الإيمان الأعمال عند كونها أعمّ من الطاعة، ولم يذكروا فيه شيئًا، وعند كونها إيّاها قد عرفت ما تمسّكوا في إثباتها.
وأمّا ثانيًا: فلأنّا لا نسلّم عند كون الإيمان بمعنى التصديق يلزم ما ذكر؛ لأنّ مَن صدّق النبيّ (صلی الله علیه و آله) فيما جاء به حقيقة لا يمكن له الإقدام على خلافه والإتيان بمنافيه ومغايره، ويشاهد من الأشخاص المصدّقين من الإقدام على تلك الأفعال القبيحة والآثار الرديّة والأعمال السيّئة، فليسوا بمصدّقين حقيقة، فتأمّل.
وأمّا ثالثًا: فلأنّ الكبرى ممنوعة، والآية غير دالّة عليها؛ لورودها في الصحابة بدليل لفظة: (مَعَهُ)، فالقدر اللازم حينئذٍ عدم إخزائهم، ولا يلزم منه عدم إخزاء غيرهم ولو كان مؤمنًا.
قيل: سلّمنا عدم اختصاص الآية الشريفة بالصحابة وشمولها لهم ولغيرهم،
ص: 108
لكنّها إنّما تكون دليلًا لما ذكر عند كون ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا﴾ عطفًا على ﴿النَّبِيّ﴾، وهو غير لازم؛ لجواز أن يكون مبتدأ وجملة: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾(1)خبرًا له(2).
وفيه نظر، أمّا أوّلًا: فلأنّ مفاد صدر الآية حينئذٍ الإخبار بعدم إخزاء النبيّ (صلی الله علیه و آله) فقط، ولا فائدة فيه، وأمّا ثانيًا: فلأنّ قاطع الطريق المصدّق وغيره من المصدّقين المباشرين لأنواع المعاصي والمزاولين لأقسام المناهي حينئذٍ يكون مندرجًا في عموم الآية، فيشملهم قوله سبحانه: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ﴾ ولا يخفى ما فيه.
ص: 109
ص: 110
في تعريف الحقيقة اللغويّة
وتحقيق الحال فيها يستدعي التكلّم في تعريفها وثبوتها وواضعها، ففيها مباحث:
اعلم: أنّه يمكن أن يقال: إنّها عبارة عن الألفاظ الّتي يكون استفادة المعاني منها بمعونة وضع أهل اللغة(1).
ويمكن الإيراد عليه من وجهين:
الأوّل: أنّه من المعلوم أنّ الحقيقة اللغويّة عبارة عن الحقيقة عند أهل اللغة، أو في اللغة، فأخذ ذلك في حدّه لا يغني من جوع؛ لعدم تحصّل معرفة المحدود.
والثاني: أنّه منقوض طردًا وعكسًا.
أمّا الأوّل: فلصدقه على الحقيقة الشرعيّة والعرفيّة؛ لوضوح أنّ لفظ «الصلاة»
ص: 111
مثلًا عند استعماله في المعنى الشرعيّ يصدق عليه أنّه استفيد منه المعنى -وهو الدعاء- بمعونة وضع أهل اللغة؛ وذلك عند استعماله فيه، وكذا الكلام في «الدابّة» عند استعمالها في المعنى العرفيّ.
وهو وإن كان ممّا يمكن اندفاعه بإرادة الاستفادة الحاليّة، لكن عند وحدة المستعمل وتعدّد زمان الاستعمال، وأمّا في عكسه فلا كما لا يخفى، وقيد «الحيثيّة» غير مجد، إلّا أن يوجّه بما مرّ في المقدّمة.
وأيضًا يصدق الحدّ المذكور على المجاز اللغويّ؛ لأنّ المعنى المجازيّ هو المستفاد من اللفظ بمعونة وضعه للمعنى الحقيقيّ على ما ظهر ممّا بيّناه في أنّ الدالّ في المجازات هو اللفظ بشرط القرينة.
وأمّا الثاني: فلأنّه لا يجوز أن يكون المراد بالاستفادة الاستفادة بالقوّة، وإلّا يلزم أن يكون اللفظ بمجرّد الوضع حقيقة، وهو غير صحيح كما مرّ مشروحًا، فلا بدّ أن يكون بالفعل؛ وحينئذٍ لو وضع لفظ واستعمل في الموضوع له ولم يستفد(1) منه معنى لعدم التفات المخاطب، يلزم أن لا يكون اللفظ مع استعماله في الموضوع له حقيقة، وهو معلوم الفساد.
ويمكن أن يقال في تعريفها أيضًا: بأنّها اللفظ المستعمل في الموضوع له الّذي لم يكن الواضع فيه الشرع والعرف من حيث إنّه مستعمل في الموضوع له الّذي لم
ص: 112
يكن كذلك، لكونه موضوعًا له؛ وتكون الحيثيّة تقييديّة.
والحاصل منه: أنّ الحقيقة اللغويّة: اللفظ الّذي استعمل في الموضوع له الّذي لم يكن موضوعًا له للشرع والعرف وقت كونه مستعملًا في ذلك الموضوع له، وذلك الاستعمال لكون ذلك المعنى موضوعًا له.
وحينئذٍ يندفع الإيرادان، أمّا الأوّل فظاهر، وأمّا الثاني، أمّا بالنسبة إلى الانتقاض الطرديّ فلأنّ لفظ «الصلاة» مثلًا حين استعماله في المعنى الشرعيّ مستعمل في الموضوع له الشرعيّ، فلا يصدق في تلك الحالة أنّه غير مستعمل في الموضوع له الشرعيّ.
لا يقال: إنّ ذلك اللفظ قبل الاستعمال في المعنى الشرعيّ قد استعمل في المعنى اللغويّ، فيصدق عليه في حالة استعماله في المعنى الشرعيّ أنّه استعمل في غير الموضوع له الشرعيّ من حيث إنّه غير الموضوع له الشرعيّ، فيلزم أن يكون ذلك اللفظ بالنسبة إلى المعنى الشرعيّ حقيقة لغويّة، وهو بديهيّ الفساد.
لأنّا نقول: قد عرفت أنّ الحقيقة اللغويّة ليس مطلق اللفظ المستعمل في ذلك الموضوع له، بل وقت كونه مستعملًا فيه، ومعلوم أنّ اللفظ المفروض في ذلك الوقت لم يستعمل في ذلك الموضوع له، بل في غير ذلك الوقت.
وكذا الكلام بالنسبة إلى «الدابّة» عند استعمالها في المعنى العرفيّ، لكن هذا لا شبهة فيه عند وحدة المستعمل وتعدّد زمان الاستعمال، وأمّا في عكسه، فنقول: إنّ المقصود بالنسبة إلى ذلك المعنى -أي الحقيقة اللغويّة- اللفظ المستعمل في الموضوع له الّذي هو غير الموضوع له الشرعيّ والعرفيّ وقت كونه مستعملًا في
ص: 113
ذلك المعنى بالنسبة إلى ذلك المعنى، فيندفع الانتقاض عند تعدّد المستعمل ووحدة زمان الاستعمال.
وأمّا بالنسبة إلى الانتقاض العكسيّ، فغير محتاج إلى البيان، وهذا وإن اندفع به بعض النقوض السابقة عن(1) الحدّ الأوّل أيضًا، لكن لمّا لم يندفع به جميعها، فلهذا أغفلنا ذكره هناك.
والتقييد بقولنا: «لكونه(2) موضوعًا له» للاحتراز عن اللفظ الّذي استعمله الشرع أو العرف في المعنى اللغويّ مجازًا، فإنّه لو لم يكن القيد المذكور، يلزم أن يكون حقيقة لغويّة، إذ يصدق عليه أنّه لفظ استعمل في الموضوع له الّذي لم يكن موضوعًا له للشرع له والعرف، وأنّه في هذا الوقت مستعمل في ذلك الموضوع له، لكن ليس الاستعمال لكون المعنى موضوعًا له، بل لكونه معنى مجازيًّا.
نعم، يرد في المقام شيء آخر، وهو أنّ الحدّ المذكور إنّما يتمّ إذا كان المراد من الشارع في الحقيقة الشرعيّة غير الله سبحانه، أو لم يكن وضع اللغة مستندًا إلى الله تعالى؛ والأوّل قد تقدّم الكلام فيه، والثاني سيجيء البحث فيه.
فلو قيل: إنّها اللفظ المستعمل في الموضوع له لأهل اللغة وقت كونه مستعملًا فيه بالنسبة إليه لكونه موضوعًا له، يسلم من ذلك أيضًا؛ وليس فيه إلّا أنّ التحديد
ص: 114
إنّما هو لمعرفة المحدود، ومعرفته متوقّفة على معرفة الحدّ، ومعرفته موقوفة على معرفة أجزائه، ومن أجزائه: «أهل اللغة»، وهو بجزئيها المضاف والمضاف إليه غير معلوم.
والحاصل: أنّ معرفة الحقيقة اللغويّة بناءً على الحدّ المذكور متوقّفةٌ على معرفة أهل اللغة، فلو عرفت(1) بذلك، ثمّ فسّر ذلك، يندفع المحذور بحذافيره، فنقول: إنّ معرفة المضاف يتحصّل ممّا يأتي في تعيين واضع اللغات، فالكلام في هذا المقام في تفسير المضاف إليه - أي اللغة - وهي مفسّرة في كلام جماعة من العلماء باللفظ الموضوع لمعنى، لكن لا شبهة في صدق ذلك بالنسبة إلى كلّ من الحقيقة الشرعيّة والعرفيّة أيضًا، فعلى هذا يلزم أن يكون كلّ واحد منهما حقيقة لغويّة، فلا يكون الحدّ المذكور مطّردًا.
ويمكن الجواب عنه: بأنّه يمكن أن يكون المراد من الوضع المأخوذ في تفسير اللغة وضعًا مستأنفًا، أي لا يكون مسبوقًا بوضع آخر، ومعلوم أنّ كلًّا من الحقيقة الشرعيّة والعرفيّة ليس الوضع فيه مستأنفًا، بل مسبوق بوضع آخر.
إن قيل: لا يلزم أن يكون الوضع في الحقيقة الشرعيّة غير مستأنف؛ لوضوح أنّها عبارة عن الألفاظ الّتي يكون استفادة المعاني منها بمعونة وضع الشرع، سواء كان منقولًا أو ابتدائيًّا، وأيضًا يمكن في كلّ زمان لكلّ أحد أن يخترع لفظًا ووضعه لمعنى، فيكون الوضع فيه مستأنفًا.
ص: 115
قلنا: إنّ الاحتمال المذكور وإن كان جائزًا، لكنّه محض احتمال؛ لما عرفت من أنّ المتحقّق من الحقيقة الشرعيّة خلاف ذلك؛ والتعريف المذكور للّغة إنّما هو بالنسبة إلى الواقع، فلا تضرّه الأمور المحتملة الغير الواقعة، وعلى تقدير ثبوت اللفظ المخترع الموضوع في هذه الأزمان نقول: إنّ ذلك من اللغة أيضًا، فلا يضرّ دخوله، بل خروجه مضرّ.
لكن يتوجّه هنا شيء آخر، وهو أنّ الأمر لو كان كذلك ينبغي أن يعرف الحقيقة اللغويّة أوّلًا بذلك حتّى لا يحتاج إلى هذا التطويل، ولا يلزم شبهة الدور أيضًا بأن يقال: إنّ الحقيقة اللغويّة اللفظ المستعمل في الموضوع له الابتدائيّ، أو الّذي لم يسبق عليه وضع ونحوهما(1) مع انضمام ما تقدّم من القيود المذكورة.
والحقّ أن يقال: إنّ اللغة لها إطلاقان: خاصّ وعامّ، والإطلاق العامّ يشمل جميع الألفاظ الموضوعة وإن كانت عرفيّة، وفي القاموس:
اللغة: «أصوات يعبّر بها كلّ قوم عن أغراضهم»(2).
ص: 116
فلو كان المعرّف اللغة بهذا الإطلاق، لا بدّ أن يبقى الوضع المأخوذ في حدّها على الإطلاق بحيث يشمل الوضع المسبوق أيضًا.
والإطلاق الخاصّ كما يقال: اللفظ في اللغة كذا، وفي العرف كذا، وتقييد الوضع المأخوذ في حدّها بالسابق إنّما يناسب إذا كان المعرّف اللغة بهذا الإطلاق، فتأمّل.
وأمّا التعريف المذكور في كلام الجماعة(1)، فالظاهر أنّه للّغة بالإطلاق العامّ.
ص: 117
ص: 118
في ثبوت الحقيقة اللغويّة
اعلم: أنّ المستفاد من كلام جماعة من الأعلام أنّ ثبوتها من القطعيّات الّتي لا تقبل التشكيك، قال العلّامة -أحلّه الله تعالى دار الكرامة- في النهاية:
«احتجّوا على إثباتها بأنّ هنا(1) ألفاظًا مستعملة في معان، فإن كانت هي الموضوع(2) لها كانت حقائق، وهو المطلوب، وإن كانت غيرها كانت مجازات، والمجاز مسبوق بالحقيقة وفرع عليها، ووجود الفرع يستلزم وجود الأصل، فالحقيقة موجودة قطعًا»(3).
أقول: المراد بالاستعمال في تلك المعاني إمّا عند أهل العرف، أو اللغة، وإن كان المراد الأوّل، فالمناسب أن يقرّر الدليل هكذا: بأنّ هنا ألفاظًا يفهم منها معان، فإن كانت تلك المعاني مفهومة منها عند أهل اللغة ثبت المطلوب، وإلّا كانت مجازات لغويّة، إلخ.
ويتوجّه عليه: أنّ الترديد غير حاصر؛ لجواز أن يكون حقيقة عرفيّة.
ص: 119
إن قلت: إنّ الحقيقة العرفيّة مجازات لغويّة؛ لأنّها منقولات من المعاني الأصليّة إلى غيرها لتحقّق المناسبة بينهما، واستعمال اللفظ في المعنى المناسب للموضوع له مجاز.
قلنا: استعمال اللفظ في المعنى المناسب إنّما(1) يكون مجازًا إذا كان الاستعمال للمناسبة، ومطلق الاستعمال في المعنى المناسب لا يكفي لتصحيح المجازيّة، والقدر المسلّم في الحقيقة العرفيّة تحقّق المناسبة، لا أن يكون الاستعمال لأجلها.
لا يقال: إنّ استعمال اللفظ في المعنى المنقول إليه الّذي هو المعنى العرفيّ للنقل، والنقل للمناسبة، فينتج أنّ الاستعمال للمناسبة، فتحقّقت المجازيّة.
لأنّا نقول: على فرض تسليم ذلك يلزم أن تكون الحقائق العرفيّة بأسرها حال كونها حقائق مجازًا ولو عند الناقل، وهو بيّن الفساد، بل الفارق في المقامين أنّ المعتبر في المجاز ملاحظة المناسبة حال الاستعمال، وفي الحقائق العرفيّة حال النقل.
وقولك: «إنّ الاستعمال في المعنى العرفيّ للنقل والنقل للمناسبة، فالاستعمال للمناسبة»، لا يجدي نفعًا؛ لأنّ توقّف الاستعمال في المنقولات على المناسبة إنّما هو لتوقّف النقل عليها، لا لتوقّف أصل الاستعمال، والمجاز هو ما توقّف أصل الاستعمال عليها(2).
ص: 120
والحاصل: أنّ المجاز ما توقّف الاستعمال فيه على المناسبة من غير واسطة، والمتحقّق في النقل توقّفه معها، فافترق الأمران مع اشتراكهما في الاستعمال في المعنى المناسب للموضوع له.
إن قيل: إنّ كون تلك الألفاظ حقائق عرفيّة، يكفي لإثبات المدّعى، بناءً على أنّها حينئذٍ تكون ألفاظًا منقولة عن معانيها اللغويّة، فهي بالنسبة إلى المعاني المنقولة إليها وإن كانت حقائق عرفيّة، لكنّها بالنسبة إلى المعاني المنقول منها حقائق لغويّة، فثبت المدّعى.
ص: 121
قلنا: القدر اللازم من النقل وجود(1) المعاني المنقول منها، وأمّا الاستعمال فيها فلا؛ والحقيقة اللغويّة إنّما يلزم وجودها إذا ثبت الاستعمال فيها، فاللازم غير كافٍ لإثبات المدّعى، والكافي غير لازم.
وإن كان المراد الثاني(2)، نقول -على فرض تسليمه-: إنّها مجازات.
وقولك: «إنّ المجاز مسبوق بالحقيقة» إلخ(3)، قلنا: ممنوع؛ لأنّ القدر المسلّم اللازم من وجود المجاز مسبوقيّته بالوضع والموضوع له، وأمّا مسبوقيّته بالحقيقة فلا، وإنّما يلزم ذلك إذا استلزم الوضع لمعنى الاستعمال فيه، وهو ممنوع وقد مرّ تحقيقه مشروحًا.
ويمكن أن يستدلّ للإثبات بأنّه لا شبهة في أنّ ههنا ألفاظًا مخصوصة حقائق في معانٍ مخصوصة لتحقّق خواصّها فيها، كالأرض والسماء والنار والماء وغيرها ممّا لا يخفى، فهي إمّا حقائق لغويّة، أو عرفيّة؛ لا سبيل إلى الثاني؛ لأنّه متوقّف على النقل
ص: 122
ومشروط به، وهو غير معلوم، فيندفع بأصالة العدم، فتعيّن الأوّل وهو المدّعى.
وبالجملة: إنّ المعاني المستعمل فيها مردّدة بين كونها حقائق لغويّة، أو عرفيّة، وحيث قد انتفى الثاني بالأصل تعيّن الأوّل.
لا يقال: كما يمكن انتفاء احتمال العرفيّة بالأصل ليتعيّن(1) اللغويّة، كذا يمكن عكسه بأن ندفع(2) احتمال اللغويّة بالأصل بأن يقال: إنّ الوضع بإزاء هذا المعنى في اللغة غير معلوم، فالأصل عدمه، فيتعيّن(3) العرفيّة، فإذا تعارضا تساقطا، فلم يثبت المدّعى.
لأنّا نقول: التمسّك بالأصل في دفع العرفيّة أولى؛ لأنّ الحقيقة العرفيّة يستلزم(4) الوضع للمعنى المنقول منه والمنقول إليه والاستعمال في الثاني، فيتوقّف على تعدّد الوضع والاستعمال؛ بخلاف اللغويّة، فإنّها متوقّفة على وضع واحد والاستعمال، فهو أولى.
والحاصل: أنّ ما يلزم على تقدير احتمال العرفيّة يلزم على تقدير اللغويّة مع أمر زائد، وهو تعدّد الوضع، فما يلزم على تقدير اللغويّة لاشتراكهما فيه متيقّن الثبوت، والزائد غير معلوم، فيندفع بالأصل، فيثبت المدّعى.
ص: 123
وتنقيح البحث في هذا المرام يقتضي التكلّم في مقامات:
الأوّل: في أنّ الافتقار إلى تحقيق المسألة وماضاهاها إنّما هو على المشهور المنصور(1) من كون دلالة الألفاظ وضعيّة؛ وأمّا على القول بأنّها ذاتيّة فلا، كما لا يخفى(2).
توضيح المقام في تصوير المرام يستدعي أن يقال: إنّه لا خفاء في أنّ انتقال الذهن إلى معنى من المعاني دون غيره عند سماع اللفظ إنّما هو بسبب دلالته عليه؛ والدلالة لكونها من الأمور الموجودة(3) لا تتصوّر من غير علّة، ضرورة أنّ وجود الممكن مع انتفاء الموجب ممّا يشهد باستحالته العيان، وضرورته كفّت عن إقامة البرهان.
ص: 124
وتلك العلّة إمّا مشتركة بين المعنى المفهوم من اللفظ وغيره، أو مختصّة بالأوّل، والأوّل بيّن الفساد ضروريّ البطلان؛ لاستلزامه تخلّف المعلول عن العلّة والترجيح من غير مرجّح، فتعيّن الثاني.
وذلك الموجِب إمّا ذات اللفظ وطبيعته، بمعنى أنّ ذات اللفظ تناسب المعنى المفهوم منه دون غيره، وتلك المناسبة مستدعية لدلالته عليه وفهمه منه دون غيره، فتكون دلالة الألفاظ ذاتيّة، أي مستندة إلى ذاتها لذاتها، فلا يكون اللفظ في دلالته على المعنى المفهوم منه مفتقرًا إلى أمر مغاير له من الوضع وغيره؛ أو وضعه له، أي دلالته على معنى دون غيره إنّما هو لثبوت الوضع له دون غيره.
والفرق بينهما -مع اشتراكهما في أنّ الدلالة وصف للّفظ- أنّ اتّصاف اللفظ بها لم يكن(1) بتوسّط الوضع على الأوّل وبتوسّطه على الثاني.
من غير مرجّح.
وبعبارة أخرى: أنّه لو لم تكن دلالة الألفاظ طبيعيّة، بل وضعيّة، لزم الترجيح من غير مرجّح، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.
أمّا الشرطيّة فلأنّه حينئذٍ يكون(1) نسبة اللفظ إلى مسمّاه كنسبته إلى غيره، وكذا نسبة المسمّى إليه كنسبته إلى غيره، فتعيّن اللفظ لمسمّاه دون غيره ترجيح مع انتفاء المرجّح، وأمّا بطلان التالي فظاهر(2).
تحقيق المقام في تصوير الفساد لهذا المقال يستدعي أن يقال: إنّ القول المذكور مبنيّ على أمور:
الأوّل: ثبوت الطبائع للحروف والألفاظ كسائر الموجودات العينيّة، ضرورة أنّ المناسبة المستندة إلى الطبيعة مع عدم تحقّقها غير معقول، وهو في بادي الأنظار
ص: 126
ممّا لا يعقل له معنى، كما يظهر بأدنى تأمّل.
لكنّه ممّا ادّعي إطباق علماء الأعداد عليه من أنّهم حكموا: كما أنّ للعناصر طبائع مختلفة باختلافها يختلف الآثار المستندة إليها، فإنّ طبيعة النار تقتضي الحرارة واليبوسة، والهواء تقتضي الحرارة والرطوبة، والماء البرودة والرطوبة، والأرض البرودة واليبوسة، كذلك للحروف طبائع مختلفة كطبائع العناصر، وقسّموها على الناريّة والهوائيّة والمائيّة والأرضيّة.
أمّا الناريّة: فحكموا أنّها سبعة حروف، وهي هذه: ا ع ﻫ ط ح ف ش، ويجمعها: أعهطحفش، وطبيعتها الحرارة واليبوسة كالنار.
وأمّا الهوائيّة: فكذلك أيضًا، وهي هذه: ق ي ص غ ظ ك ض، ويجمعها: قيصغظكض، وطبيعتها الحرارة والرطوبة كالهواء.
وأمّا المائيّة: فهي أيضًا سبعة: س ل ز ت ن ود، ويجمعها: سلزتنود، وطبيعتها البرودة والرطوبة كالماء.
وأمّا الأرضيّة: فهي أيضًا كذلك، وهي هذه: ج م ر ب خ ث ذ، ويجمعها: جمربخثذ، وطبيعتها البرودة واليبوسة كالأرض.
وفرّعوا على ذلك باعتبار صورها الإفراديّة وتركيبها على الوجوه المختلفة أسرارًا عجيبة وآثارًا غريبة(1).
ص: 127
والثاني: ثبوت الطبائع للمسمّيات؛ لوضوح أنّ المناسبة الطبيعيّة بين الشيئين مع عدم ثبوتها لهما غير متصوّرة.
وهذا ممّا لا خفاء فيه فيما إذا كان المسمّى من الجواهر من البسائط والمركّبات، مثل النار والهواء والماء والأرض والحيوانات والنباتات وغيرها، وأمّا الأعراض والمعاني كالأكل والضرب والمشي والبياض والسواد ونحوها، فمحلّ كلام.
إلّا أن يقال: إنّ المراد من الطبيعة بالنسبة إلى هذه الأمور الماهيّة، فتحقّقها حينئذٍ ممّا لا يرتاب أيضًا، لكن يتوجّه حينئذٍ عدم معلوميّة المناسبة بين الطبائع المثبتة للحروف وبين ماهيّات تلك المعاني؛ إذ الحكم بكون طبيعة البياض مثلًا الحرارة واليبوسة، بل الرطوبة، ممّا لا يعقل، مع أنّه قد تحقّق فيه بعض الحروف الناريّة والهوائيّة والأرضيّة، وهكذا في غيره.
والثالث: تحقّق المناسبة بين طبائع الحروف والألفاظ وطبائع المسمّيات بأن يكون بين طبيعة كلّ لفظ وطبيعة مسمّاه مناسبة ذاتيّة، ضرورة أنّ المناسبة الطبيعيّة بين اللفظ والمعنى لا تتحصّل إلّا بذلك.
وهذا على وجه العموم ممّا يقطع بفساده، فإنّ لكلّ أحد أن يجعل أيّ لفظ شاء لأيّ معنى يريد من غير أن يدرك معنى الطبيعة، فضلًا عن ثبوتها للحروف، ولا ارتياب في دلالته عليه مع عدم تعقّل المناسبة الطبيعيّة بينهما.
ص: 128
واحتمال اطّراد المناسبة الطبيعيّة ولو مع عدم تعقّلها ممّا لا يرتضيه(1) الأوهام، فضلًا عن الأفهام، مع أنّ الدلالة لو كانت للمناسبة الطبيعيّة؛ لَما يتعقّل حصولها مع انتفاء تعقّلها كما لا يخفى، فلو كانت الدلالة للمناسبة المذكورة لامتنع تعيين لفظ لمعنى إلّا بعد تعقّل الطبيعة فيهما والعلم بتحقّق المناسبة، وهذا ممّا يشهد على فساده العيان ويحكم ببطلانه الوجدان.
وأيضًا يلزم أن يكون - بناءً عليه - بين طبائع حروف الماء وطبيعة مسمّاه مناسبة ذاتيّة، فيلزم أن يكون(2) طبيعة كلّ من الميم والألف مثلًا مناسبة لطبيعة المسمّى، فعلى هذا ينبغي امتناع وجود الألف في اللفظ الّذي للنار؛ لما عرفت من أنّ طبيعة النار حارّة يابسة، وطبيعة الماء باردة رطبة، وطبيعة الحرف الّذي(3) تناسب أحدهما لا يمكن أن يكون مناسبة للآخر(4)؛ للزوم اجتماع الضدّين في طبيعة ذلك الحرف، مع أنّ الألف مشترك بين اللفظين، وكذا كلّ لفظ لمعنى يلزم امتناع وجود شيء منه في اللفظ الّذي لنقيضه أو لضدّه.
وبالجملة: يلزم أن لا تتحقّق الحروف الّتي جعلوها ناريّة إلّا في المسمّى الّذي يكون مقتضى طبيعته الحرارة واليبوسة، وكذا الهوائيّة والمائيّة والأرضيّة، مع أنّ
ص: 129
فساده غنيّ عن البيان ويكذّبه العيان والوجدان؛ وكفاك في هذا الباب ملاحظة الألفاظ للعناصر الأربعة(1).
وعلى فرض تسليم أن يكون المراد مناسبة طبيعة مجموع اللفظ لطبيعة المسمّى وإن اندفع هذا، لكن يرد الانتقاض بالنسبة إلى اللفظ المشترك بين الشيء ونقيضه أو ضدّه، وسيجيء الكلام فيه.
والرابع: أن تكون استفادة المعاني من الألفاظ وإفادتها إيّاها لمناسبة طبائع الألفاظ طبائع المعاني، لا لتعيينها بإزائها؛ وهذا موقوف على ثبوت الأمور المذكورة، وحيث قد عرفت عدم تماميّة بعض منها، ظهر لك حاله(2).
وعلى فرض الإغماض في البين وتسليم ثبوت الأمور المذكورة، نمنع صحّة الأخيرة، إذ لو كانت استفادة المعاني من الألفاظ ودلالتها عليها لأجل مناسبة طبائعها لطبائع المسمّيات، يلزم امتناع الاستفادة مع عدم الاطّلاع على المناسبة، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.
ص: 130
أمّا الشرطيّة فظاهرة؛ إذ العلم بالمناسبة -بناءً على هذا التقدير- شرطٌ في حصول الاستفادة، وانتفاء المشروط عند انتفاء الشرط من الأمور الضروريّة.
وأمّا بطلان التالي فغير مفتقر إلى البيان، ضرورة حصول الإفادة والاستفادة من الألفاظ مع عدم تعقّل شيء من طبائع الألفاظ والمسمّيات، فضلًا عن تعقّل المناسبة بينهما كما عرفت، فلو كانت الإفادة لأجل المناسبة، يلزم انسداد باب الاستفادة من طريق الألفاظ؛ لعدم إمكان الاطّلاع على تلك الطبائع والمناسبة بعد تسليم تحقّقها على وجه العموم، ولو فرض ذلك فلا شبهة في أنّه على غاية الندرة بالنسبة إلى قليل من الأشخاص.
إن قيل في منع الملازمة بأنّه يمكن أن يكون شرط الإفادة والاستفادة تحقّق المناسبة في نفس الأمر، لا العلم بها، فعلى هذا لا يلزم المفسدة المذكورة.
قلنا: إنّ الدلالة والإفادة حاصلة بالنسبة إلى المخاطب، فلا معنى لاستنادها إلى المناسبة النفس الأمريّة مع عدم علم المستفيد بها، إذ لا علاقة بين فهمه المعنى من اللفظ والمناسبة في نفس الأمر، فلا وجه للتعليق كما لا يخفى.
إن قلت: يمكن الترديد في الشرطيّة المذكورة بأن يقال: إنّ تعليق الاستفادة على الاطّلاع بالمناسبة إمّا أن يكون بالنسبة إلى كلّ أحد، أو في الجملة، وعلى الأوّل وإن كان بطلان التالي مسلّمًا، لكن يمكن منع الملازمة، وعلى الثاني وإن كانت(1) الملازمة مسلّمة، لكن بطلان التالي ممنوع.
ص: 131
توضيح الأمر في ذلك يستدعي أن يقال: إنّه لا يلزم -بناءً على القول بكون الدلالة للمناسبة- أن يكون بالنسبة إلى كلّ أحد كذلك لإتمام مرامه ولو بالنسبة إلى بعض، لكفاية هذا المقدار في الحذر عن الترجيح من غير مرجّح بأن يقال: إنّه يمكن الاطّلاع على تلك المناسبة المستدعية للدلالة لأرباب الأذهان الثاقبة والأفهام الشامخة، واستفادتهم المعاني من الألفاظ كانت لذلك، وأمّا بالنسبة إلى غيرهم فلا، بل من باب الترديد بالقرائن، كتعليم اللغات بالنسبة إلى الأطفال.
والحكم بعدم إمكان الاطّلاع ولو لبعضٍ غير مسموع، فيمكن أن يكون حصول الاستفادة للبعض للمناسبة وللغير بالتعريف والقرائن بأنّه لمّا استفاد المعنى من اللفظ للمناسبة بيّن للغير بأنّ معنى هذا اللفظ هذا وهكذا، أو بالترديد بالقرائن، فعلى هذا تكون دلالة الألفاظ ذاتيّة مع حصول الإفادة للجميع وعدم توقّفها على اطّلاع الكلّ على المناسبة، فتكون الدلالة للمناسبة من غير واسطة بالنسبة إلى بعض، ومعها بالنسبة إلى آخر، وهذا المقدار كافٍ للحكم بذاتيّة الدلالة للألفاظ كما لا يخفى.
هذا، مع أنّ الأمر بناءً على كون الدلالة وضعيّة أيضًا كذلك، أي الاستفادة للعلم بالوضع إنّما هو بالنسبة إلى بعض وللآخر بالترديد بالقرائن، وكما لا يكون ذلك مضرًّا للحكم بكون دلالة الألفاظ وضعيّة، كذلك بناءً على الدلالة الذاتيّة.
قلنا: لا شبهة في أنّ استفادة المعاني بأسرها بالتأمّل في الألفاظ والاطّلاع على مناسبة طبائعها لطبائع المسمّيات المستدعية للدلالة عليها أمرٌ عظيم وخطبٌ
ص: 132
جسيم وابتداعٌ عجيب واختراعٌ غريب، فاق(1) قاطبة مراتب الفضل والكمال، وعلا عامّة مدارج العلم والإفضال، بحيث لو ادّعى الفائز به النبوّة كاد يصدّق.
فلو فاز بهذه المزيّة الكاملة طائفة من أولى الأبصار؛ لاشتهروا اشتهار الشمس رابعة النهار، وامتازوا عن قاطبة أهل الشرف والكمال، وصنّفوا في(2) ذلك كتبًا متشتّتة، ودوّنوا فيه صحفًا متفرّقة، فتشهر الكتب فوق اشتهار أيّ كتاب كان، وكان مرجعًا للخواصّ والعوامّ؛ وعدمه دليل ظاهر على عدمه، وانتفاؤه أمارة بارزة على خلافه.
ألا يرى أنّ من أنشد أبياتًا عديدة متكاثرة لأثبتها في دفاتر وورقة رغبةً في بقائها في أزمنة متطاولة، مع أنّ الأمر في مثله سهل جدًّا، والثمر في ضبطه نزر قطعًا.
وكذا الحال في كلّ علم من العلوم المعروفة، فقد صنّف أربابها في كلّ منها كتبًا متكثّرة، فكيف بهذا الأمر الخطير والشيء العظيم، فرفضوا تلك القاعدة وهجروا تلك السنيّة فيه، مع أنّ الاهتمام فيه أشدّ والغرابة فيه أتمّ.
لا يقال: نمنع انتفاء ذلك، وكيف وقد تصدّى الأكابر والأماجد للتصنيف في علم اللغة، فقد صنّفوا فيه كتبًا معروفة وصحفًا معهودة؛ لوضوح فساده، إذ لا ريب أنّ تدوين اللغات ليس إلّا ضبط موارد الاستعمالات المعلومة من تصفّح محاورات البلغاء وتتبّع مخاطبات الفصحاء، ولقد طال التشاجر والتخاصم بينهم، وكذّب بعضهم بعضًا، وتمسّك في إثبات مرامه وتغليط صاحبه بما تداوله
ص: 133
الفصحاء في محاوراتهم، ولم يتصدَّ أحد منهم بأنّ طبيعة اللفظ هذه، وهي مناسبة لهذا المعنى ومقتضية للدلالة عليه، لا غيره.
وأيضًا لا شبهة في أنّ الألفاظ على الهيئة المخصوصة لم تكن عليها لذاتها، وإلّا لخرجت عن حدّ الممكنات وكانت واجبة الوجود، وفساده ممّا لا يفتقر إلى البيان، بل لا بدّ لها من جاعل ومركّب يجعلها ويركّبها كذلك.
وذلك الجاعل إمّا أن يلاحظ المعاني حين التركيب بأن جعل تلك الألفاظ لها، سواء كانت مناسبة لطبائع الألفاظ، أم لا، وسواء لاحظ المناسبة على الأوّل، أم لا، أو لا يلاحظ المعاني مطلقًا، بل ركّبها على الهيئة المخصوصة وأحال فهم المعاني(1) إلى المناسبة بين طبيعة اللفظ والمعنى، بأنّه لمّا كانت لطبائعها مناسبة مع المعاني، يمكن الانتقال من كلّ منها إلى المعنى المناسب لمن توصّل إلى المناسبة.
وعلى الأوّل: تكون الدلالة وضعيّة، لا ذاتيّة، سواء تحقّقت المناسبة بين الدالّ والمدلول، أم لا، وأمّا على الثاني فظاهر، وأمّا على الأوّل: فلوضوح أنّ الانتقال إلى المدلول إنّما هو لتعيين اللفظ بإزائه وجعله علامة له، وغاية ما هناك تحقّق المناسبة بين اللفظ وما عيّن له، وهو لا يقتضي العلم بها، فضلًا عن كون الإفادة لأجلها.
إن قلت: لمّا كان المفروض تحقّق المناسبة، يمكن لغير العالم بالتعيين الاطّلاع عليها، فتكون الدلالة بالنسبة إليه للمناسبة.
قلنا: مرجع هذا الكلام أنّ دلالة الألفاظ بالنسبة إلى العالمين بالأوضاع
ص: 134
وضعيّة، وأمّا بالنسبة إلى غيرهم فيمكن أن تتكون ذاتيّة؛ لإمكان الاطّلاع على المناسبة، وأين هذا من كون الدلالة المتحقّقة في الألفاظ ذاتيّة، لا وضعيّة، وإنكار الوضع بالكلّيّة كما هو المدّعى؟!
وإن عمّم ذلك(1) بالنسبة إلى العالم بالتعيين أيضًا، يدفع بأنّه يلزمه الانتقال إلى ما عيّن له لا محالة؛ لأجل علمه بالتعيين، فلا معنى حينئذٍ للدلالة الذاتيّة، بناءً على إمكان الاطّلاع بالمناسبة؛ لظهور تحقّق الدلالة لأجل العلم بالتعيين، فلا معنى لحصول الإفادة للمناسبة بعد حصولها للتعيين، وإلّا لزم توارد العلّتين على معلول واحد.
وعلى فرض التسليم يكون اللازم حينئذٍ بالنسبة إلى العالم بالتعيين والمناسبة اجتماع الدلالتين، والمدّعى ثبوت الدلالة الذاتيّة بدلًا عن الوضعيّة، فاللازم غير المطلوب، والمطلوب غير لازم.
بقي هنا احتمال آخر، وهو أنّ المركِّب عيّن الألفاظ بإزاء المعاني المناسبة ولم يحصل منه الإعلام بالتعيين، فتكون الدلالة حينئذٍ للمناسبة والاطّلاع عليها، لكنّه مدفوعٌ بما يأتي من استلزامه فوات الحكمة الموجبة لتعيين الألفاظ بإزاء المسمّيات.
هذا كلّه على تقدير أن يكون المركِّب للألفاظ معيِّنًا إيّاها بإزاء معانيها، وأمّا احتمال أن يكون الصادر من المركِّب محض التركيب من غير التفات إلى المعاني، بل أحال ذلك إلى المناسبة، فالضرورة قاضية بفساده؛ لوضوح أنّ المقصود من تركيب
ص: 135
الألفاظ وإحداثها ذكرها في المحاورات والمخاطبات لتعريف بعضهم بعضًا ما في أنفسهم في أمر معاشهم ومعادهم، وذلك إنّما يتحقّق مع التعيين بإزاء المعاني.
وأمّا احتمال احالة استفادة المعاني إلى المناسبة، ففاسد قطعًا؛ لعدم إمكان الاطّلاع عليها بالنسبة إلى أكثر الناس وصعوبته القريبة من الامتناع بالنسبة إلى جميعهم؛ لوضوح عدم تحصّله إلّا بعد الاطّلاع بطبائع الألفاظ، ثمّ ملاحظة طبائع المعاني حتّى يظهر أيّ واحد منها يكون مناسبًا لطبيعة لفظ مخصوص حتّى استفاده منه، وذلك يستلزم فوات الحكمة الموجبة لتركيب الألفاظ كما لا يخفى على من سلك مسلك السداد.
ثمّ كيف ظهر عليه مناسبة طبيعة بعض الألفاظ للنقيضين أو الضدّين حتّى استفادهما منه دون بعض آخر؟!
إن قلت: إنّ الترديد المذكور غير حاصر؛ لاحتمال أنّ مركِّب الألفاظ ركّبها على الهيئات المعلومة من غير أن يعيّنها للمسمّيات، أو(1) أحال فهمها إلى من اطّلع على المناسبة، بل ركّبها، ثمّ استفاد هو المسمّيات منها بمعونة المناسبة، فتكون إفادة الألفاظ كلّها للمناسبة، ولا يضرّ عدم اطّلاع الأكثر عليها في ذلك.
قلنا: هذا أيضًا ليس بشيء؛ لأنّ المركِّب إمّا الله تعالى، وعدم إمكان إرادة المعنى المذكور بالنسبة إليه ظاهر، وإمّا غيره فكذلك؛ لاستلزامه فوات الحكمة الموجبة لتركيب الألفاظ لما عرفت، فتأمّل.
ص: 136
وأيضًا أنّ طبيعة الحروف الّتي جعلوها مائيّة مثلًا مقتضية للرطوبة والبرودة، والمعاني والمسمّيات الّتي تكون(1) كذلك متكثّرةٌ جدًّا مختلفةٌ بحسب اختلاف تحقّق هذا المعنى فيه جزمًا، فكيف يوجب الانتقال من تلك الحروف إلى بعضها دون الآخر مع تحقّق المقتضي بالإضافة إلى الكلّ؟! وكذا الكلام بالنسبة إلى الحروف الناريّة وغيرها.
هذا إن كان مرادهم من طبيعة اللفظ المعنى المتقدّم على ما يظهر من بعضهم كما أومأنا إليه؛ وإن كان المراد غيره ينبغي أن يبيّن حتّى ينظر في صحّته وفساده، مضافًا إلى ما مرّ من قضاء العادة بأنّ الأمر لو كان على ما ذكر لنبّهوا عليه وافتخر من فاز بهذا الاختراع الغريب والابتداع العجيب به، وعدمه دليل على العدم.
وبالجملة: لا ينبغي التأمّل في فساد الاحتمال المذكور أيضًا، فبما قرّرناه إلى هنا انهدم بنيان القول المذكور.
بقي الكلام فيما استندوا إليه من الاستدلال المتقدّم، ويمكن الجواب عنه بالمعارضة والمناقضة.
أمّا الأوّل فمن وجوه:
ص: 137
منها: ما تقدّم من أنّ دلالة الألفاظ لو كانت للمناسبة الذاتيّة، لزم انتفاؤها عند انتفاء العلم بتلك المناسبة، وقد مرّ الكلام فيه مشروحًا في الشرطيّة وبطلان التالي، فلا وجه للإعادة.
ومنها: أنّه لو كانت دلالة الألفاظ للمناسبة بينها وبين المسمّيات، لزم أن لا تختلف الأمم في الجهل والعلم باللغات، وبطلان التالي في الظهور كالنور في ظلم الديجور؛ أمّا الشرطيّة، فلأنّ علّة الدلالة - وهي المناسبة الذاتيّة - متحقّقة في الجميع بالنسبة إلى الجميع، فلا معنى لاختصاص الاستفادة في جملة من الألفاظ بالنسبة إلى بعض الفرق، وفي جملة أخرى منها بالنسبة إلى فرقة أخرى(1).
واحتمال إمكان العلم بالمناسبة في جملة من الألفاظ لطائفة من الفرق وامتناعه في جملة أخرى وبالنسبة إلى الطائفة الأخرى بعكس ذلك ممّا لا يكاد يرضى العاقل التفوّه بذلك، فضلًا عن جعله(2) من مباني المذهب، كما لا يخفى على من لم تنفتح عليه أبواب التعسّف.
فاستفادة الجسم السيّال المعلوم من لفظ: «الماء» في لغة العرب، دون لفظ:
ص: 138
«آب» و«سو»، ومن لفظ: «آب» في لغة الفرس، دون اللفظين الآخرين، ومن لفظ: «سو» في لغة الترك دون الأوّلين، مع دلالة الألفاظ الثلاثة على ذلك الجسم بالمناسبة، ممّا لا وجه له.
إلّا أن يقال: إنّ أوّل من تكلّم بلغة العرب لاحظ لفظ «الماء»، فاطّلع على المناسبة، فاستفاده منه واكتفى به، وكذا بالنسبة إلى أوّل من تكلّم بلغة الفرس والترك، لكنّه احتمال نادر، ومع ذلك كيف اطّلع المتكلّم بكلّ لغة على مناسبة الألفاظ المختلفة في تلك اللغة لمعنى واحد ولم يطّلع عليها في اللغات المتعدّدة مع تحقّق الموجب في الجميع وهو المناسبة؟! بخلاف ما إذا كانت الدلالة وضعيّة، فإنّ اختلاف الأمم في العلم والجهل باللغات حينئذٍ لاختصاص العلم بوضع نوع من الألفاظ لطائفة دون نوع آخر، وبالعكس بالنسبة إلى الطائفة الأخرى؛ ولا يتمشّى مثل ذلك في المناسبة كما تقدّم.
ويتفرّع على ذلك عدم اختلاف أصل اللغات في الأعصار والأمصار، بناءً على أنّ(1) حصول الاستفادة من جملة من الألفاظ للمناسبة يستلزم تحصّلها في جميع الألفاظ لما تقدّم، فنسبة طائفة من الألفاظ إلى فرقة ليس بأولى من العكس؛ لأنّ نسبة جميع الألفاظ من حيث الإفادة إلى الجميع واحدة، فنسبة جمّة منها إلى طائفة دون أخرى تخصيص من غير مخصّص.
ص: 139
ومنها: ما ذكره جمع منهم من أنّ دلالة الألفاظ لو كانت ذاتيّة، لزم أن يفهم كلّ أحد معنى كلّ لفظ، وبطلان التالي غير مفتقر إلى البيان.
أمّا الشرطيّة فلأنّ الألفاظ حينئذٍ بذواتها أدلّة على معانيها، واستحالة انفكاك الدليل عن المدلول بيّنة؛ لأنّه الّذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر(1).
وفيه نظر، يظهر ممّا أسلفناه من أنّ مرادهم من الدلالة الذاتيّة الدلالة للمناسبة الطبيعيّة، وقد علمت ممّا بيّناه أنّه ليس المراد أنّ مقتضى الدلالة المناسبة النفس الأمريّة، بل العلم بها؛ فعلى هذا نقول: إنّ عدم فهم كلّ أحد معنى كلّ لفظ إنّما هو لانتفاء شرطه الّذي هو العلم بالمناسبة.
لا يقال: إنّ الدلالة حينئذٍ غير مستندة إلى ذات اللفظ، فكيف تكون ذاتيّة؟!
لأنّا نقول: ليس المراد أنّ ذات اللفظ من حيث هو دالّ على المعنى، كدلالته على وجود اللافظ، بل المراد أنّه يدلّ على المعنى لتحقّق المناسبة بينهما، وهذا كما يقال: دلالة الألفاظ وضعيّة مع أنّ الوضع من حيث هو لم يكن مقتضيًا للدلالة، بل العلم به.
وبالجملة: إنّ المراد من الدلالة الذاتيّة في مقابلة الوضعيّة، فلا ينافيها كونها لأجل المناسبة، وهو ظاهر سيّما بعد الاطّلاع على ما أسلفناه في تضعيف هذا القول.
ص: 140
ومنها: أنّ دلالتها لو كانت للمناسبة، لزم استفادة المعاني المنقول منها في الألفاظ المنقولة بعد تحقّق النقل واستفادة المعاني المنقول إليها منها قبل النقل، أو امتناع استفادتها منها بعده(1).
والتالي باطل كما لا يخفى؛ أمّا الشرطيّة فظاهرة، أمّا بالنسبة إلى المعاني المنقول منها فلثبوت استفادتها منها قبل النقل، وهي على القول المذكور مستلزمة للمناسبة الذاتيّة، ومعلوم أنّ ما بالذات لا يزول بالغير، فيلزم ثبوتها بعده أيضًا لثبوت المقتضي، بل يلزم حينئذٍ امتناع النقل، أي هجر المعنى الأوّل، لما مرّ من أنّ ما بالذات لا يزول بالغير.
وأمّا بالنسبة إلى المعاني المنقول إليها؛ فلأنّ المناسبة المقتضية للدلالة إمّا أن تكون(2) متحقّقة بينها وبين الألفاظ المنقولة، فيلزم الاستفادة قبل النقل أيضًا، وإلّا فلا ولو بعد النقل.
واحتمال الاطّلاع على المناسبة حينئذٍ وإن اندفع معه الأخير، لكن يبقى الكلام في الأوّل مع أنّه يكون مدار الاستفادة حينئذٍ الاطّلاع على المناسبة، لا النقل، والحال أنّ الأمر متعاكس، فتأمّل.
بخلاف ما إذا كانت الدلالة وضعيّة، فإنّها حينئذٍ لمّا كانت بالغير -أي تعيين
ص: 141
الواضع- يمكن زوالها بالغير بأن يزول أثر الوضع السابق بالهجر.
ويمكن الجواب عنه بأن يقال: إن كان المراد من قولكم: «لو كانت دلالة الألفاظ ذاتيّة، لزم استفادة المعاني المنقول منها» اللزوم بالإضافة إلى من استفاد المعنى للمناسبة، فالملازمة مسلّمة، لكن بطلان التالي ممنوع، بل المسلّم انتفاء استفادتها بالإضافة إلى عامّة الناس، لا مطلقًا؛ وإن كان المراد اللزوم مطلقًا، فبطلان التالي وإن كان مسلّمًا، لكنّ الشرطيّة ممنوعة، ويظهر الوجه ممّا ذكرنا.
وإن شئت التوضيح فاعلم: أنّه يمكن أن يكون استفادة المعنى أوّلًا للمناسبة، ثمّ بيّنه المستفيد للغير من غير أن يبيّن المناسبة، ثمّ استعمل في غير ذلك المعنى مجازًا، ثمّ اشتهر فيه عندهم بحيث هجر المعنى الأوّل، فاستفيد المعنى الثاني عندهم من غير قرينة، فالهجر إنّما هو(1) بالنسبة إلى هؤلاء، لا بالإضافة إلى من استفاد المعنى لأجل المناسبة.
لكن يتوجّه حينئذٍ: تحقّق الدلالة بالنسبة إلى المعنى المنقول إليه ولم تكن(2) ذاتيّة، فلا يصحّ الحكم مطلقًا أنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة، فتأمّل(3).
ص: 142
ومنها: أنّها لو كانت ذاتيّة لامتنع(1) انفكاكها بالقرينة؛ لما تقدّم من أنّ ما بالذات لا يزول بالغير، والتالي باطل؛ لانتفاء الدلالة على المعاني الحقيقيّة عند الاقتران بالقرائن المجازيّة وعلى بعض المعاني للمشترك(2) عند الاقتران بالقرينة المعيّنة(3).
ويمكن الجواب عنه أمّا بالنسبة إلى الألفاظ المجازيّة؛ فلأنّا لا نسلّم انتفاء دلالتها على المعاني الحقيقيّة؛ وكيف مع أنّه شاع وذاع حتّى خرق الأسماع أنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم، وتلقّاه المحقّقون بالقبول(4)، ولذا حكموا بأبلغيّة المجاز من الحقيقة؛ لأنّه بمنزلة دعوى الشيء ببيّنة، فإنّ قولك: «رعينا الغيث»(5) المراد منه لازمه، يكون ذكر الملزوم فيه دليلًا على وجود لازمه؛ لامتناع انفكاك الملزوم عن اللازم، وإلّا لم يكن الملزوم ملزومًا، ولا اللازم لازمًا، بخلاف قولك: «رعينا النبت»(6)، فإنّه دعوى الشيء لا عن بيّنة.
ص: 143
ومن المعلوم أنّ الانتقال من الملزوم إلى اللازم إنّما يكون مع فهم الملزوم، وهو إنّما يحصل مع دلالة اللفظ عليه، فلو لم تكن المجازات دالّة على المعاني الحقيقيّة؛ لما كان لهذا المقال وجه كما لا يخفى، فتأمّل.
والقرينة الصارفة المعتبرة في المجازات ليس معناها أنّها صارفة عن دلالتها على معانيها الحقيقيّة، بل المراد أنّها صارفة عن كونها مرادة.
نعم، يتوجّه ذلك فيما إذا كان انتفاء الإرادة مستلزمًا لانتفاء الدلالة، أو تحقّق الدلالة مستلزمًا لتحقّق الإرادة، لكنّه ليس على شيء منهما دليل، ولا على واحد منهما سبيل، كما مرّ تحقيقه بما لا يكون عليه مزيد، مع أنّه لو سلّم ذلك يمكن إبطال مذهب الخصم بوجه أظهر بأن يقال: إنّ القول بذاتيّة الدلالة مع اعتبار الإرادة في الدلالة، قول بذاتيّة الإرادة للألفاظ، وذلك ممّا لا يكاد يتفوّه به مَن له حظّ من الشعور، فضلًا عن اندراجه من جملة الفضول.
وبالجملة: إنّ المجازات بأسرها دالّة على المعاني المجازيّة المقصودة بواسطة دلالتها على المعاني الحقيقيّة الغير المرادة، فلا يصحّ الحكم بانفكاك الدلالة على المعاني الحقيقيّة عن الألفاظ المجازيّة.
وأمّا عن الألفاظ المشتركة؛ فلأنّ القرينة المعيّنة لبعض المعاني فيها لا تسلب دلالتها على المعاني الأُخر؛ لما تقدّم مشروحًا أنّ دلالتها على جميع المعاني ثابتة، وإنّما تكون القرينة فيها معيّنة للمراد.
نعم، إنّما يتوجّه ذلك بناءً على ما تقدّم، وقد عرفت الحال فيه، ولو سلّم ذلك يمكن منه الاستدلال على بطلان مذهب الخصم من وجه آخر أيضًا بأن يقال: إنّ
ص: 144
دلالة الألفاظ لو كانت ذاتيّة، لما انفكّت عنها؛ والتالي باطل؛ لأنّ الألفاظ المشتركة عند تجرّدها عن القرينة فاقدة للدلالة، لكنّك قد عرفت الحال فيه، فالمعارضة على الوجه المذكور غير صحيحة.
نعم، لو استند بطلان التالي إلى عكس ما ذكر، لكان سالمًا عن المنع المذكور بأن يقال: إنّ الدلالة لو كانت ذاتيّة؛ لامتنع انفكاكها عن اللفظ، والتالي باطل؛ لانتفاء دلالة الألفاظ على المعاني المجازيّة عند انتفاء القرينة؛ وذلك ممّا لا شبهة فيه ولا ريب يعتريه.
أمّا الشرطيّة فلأنّ المناسبة الذاتيّة إمّا متحقّقة بين الألفاظ والمعاني المجازيّة، فيلزمه امتناع الانفكاك؛ لما تقدّم من أنّ ما بالذات لا يزول بالغير، وإلّا لما تحقّقت الدلالة بالنسبة إليها، إذ المفروض أنّ دلالتها طبيعيّة.
وبالجملة: محصّل الكلام أنّ الدلالة على المعاني المجازيّة قسم من الدلالة، وكلّ دلالة ذاتيّة، فهذه ذاتيّة؛ أمّا الصغرى فظاهرة، وأمّا الكبرى فلأنّ القائلين بالذاتيّة لم يفصّلوا بين الدلالات، بل أطلقوا القول فيها، فحينئذٍ نقول: إنّ هذا القول فاسد؛ لما عرفت من التخلّف، مع أنّ ما بالذات لا يتخلّف.
وغاية ما يمكن للخصم إمّا منع الصغرى بأن يمنع الدلالة على المعاني المجازيّة ولو عند الاقتران بالقرينة، بناءً على أنّ الدلالة كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، وهو غير متحقّق في المقام.
أو منع ما ذكر في بطلان التالي بأن يدّعى ثبوت الدلالة على المعاني المجازيّة ولو عند انتفاء القرينة، بناءً على ما تقدّم من أنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى
ص: 145
اللازم، والدالّ على الملزوم دالّ على اللازم.
أو دعوى أنّ الدالّ على المعاني المجازيّة اللفظ مع القرينة، فعند انتفائها لم يوجد الدالّ حتّى يتحقّق الانفكاك، ومعها الدلالة ثابتة، فلا انفكاك.
لكنّ الاحتمالات المذكورة بأسرها باطلة، يظهر الوجه في بعضها ممّا أسلفناه وفي بعض آخر ممّا سيجيء في محلّ لائق باستمداد الخالق الموفّق.
نعم، هنا احتمال آخر، وهو منع كلّيّة الكبرى بأن يقال: يمكن أن يكون مرادهم أنّ دلالة الألفاظ على مسمّياتها طبيعيّة لا مطلقًا، فتقسيم الألفاظ على الحقيقة والمجاز على هذا القول مبنيٌّ على إفادتها المعاني بالذات وبالغير، فعلى الأوّل حقيقة، وعلى الثاني مجاز.
لكن يتوجّه عليه أيضًا: أنّ دلالة الألفاظ على المعاني إمّا ذاتيّة، أو وضعيّة، والدلالة على المعاني المجازيّة غير مندرجة تحت شيء منهما(1)، أمّا الأوّل فلما ذكر، وأمّا الثاني فلأنّ المفروض انتفاء الوضع.
وأيضًا أنّ الدلالة على غير المسمّى إنّما هي لمناسبته مع المسمّى، وإلّا لما [كان] وجه لدلالته عليه دون غيره، والمفروض تحقّق المناسبة الذاتيّة بين اللفظ ومسمّاه، فيلزمه تحقّق المناسبة بين اللفظ وذلك الغير أيضًا؛ لكونه مناسبًا للمسمّى، والمناسب للمناسب مناسب، فبناءً على هذا القول يلزم تحقّق المناسبة بين اللفظ والمعنى المجازيّ أيضًا، فتلزم الدلالة الذاتيّة بالنسبة إليه أيضًا لتحقّق الموجب،
ص: 146
ومن المعلوم أنّها غير ثابتة عند انتفاء القرينة، فيلزم التخلّف وتتمّ المعارضة.
إلّا أن يجاب، أمّا عن الأوّل: فبمنع(1) الانحصار بأن يقال: إنّها عقليّة، بناءً على ما تقدّم من أنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم، والعقل قاضٍ بأنّ الدالّ على الملزوم دالّ على اللازم.
وفيه تأمّل يحتاج إلى مزيد تحقيق، وسنتعرّض إليه في محلّ أليق إن شاء الله تعالى.
وأمّا عن الثاني: فلأنّ المناسب للمناسب للشيء إنّما يكون مناسبًا له إذا كان ما به التناسب في الجميع واحدًا، أو يكون المناسبة في الجميع من جميع الوجوه؛ وأمّا إذا كان شيء مناسبًا لآخر من وجه ويكون الآخر مناسبًا لثالث من وجه آخر، فلا كما لا يخفى، وسنوضحه لك عن قريب، فعلى هذا يمكن أن يكون ما نحن فيه من هذا القبيل، فلا يتمّ الإيراد.
وفيه أيضًا تأمّل سيظهر لك وجههُ بَعْيد هذا، فتأمّل.
ومنها: أنّها لو كانت ذاتيّة لامتنع اشتراك لفظ بين الشيء ونقيضه، أو ضدّه، والتالي باطل؛ لأنّ «القرء» مشتركٌ بين الحيض والطهر، وهما نقيضان(2)،
ص: 147
و«الجون» مشتركٌ بين الأسود والأبيض، وهما ضدّان، أمّا الملازمة فلاستحالة مناسبة شيء واحد بالذات للشيء ونقيضه، أو ضدّه(1).
ويتوجّه عليه: أنّ المستحيل كون المناسب للشيء من جميع الجهات مناسبًا لنقيضه، أو كون المناسب له من جهة مناسبًا لنقيضه أو ضدّه من تلك الجهة، ضرورة أنّ ما به التوافق بين الشيئين لا يمكن أن يكون ما به التوافق بين أحدهما ونقيضه أو ضدّه، وإلّا لم يكن النقيض نقيضًا.
وأمّا كون المناسب للشيء بالذات من جهة مناسبًا لنقيضه أو ضدّه من جهة أخرى كذلك فلا، وكيف؟! مع أنّ الأرض تناسب الماء في البرودة بالذات، مع أنّها تناسب النار كذلك في اليبوسة، وأنّ الهواء مناسب للماء في الرطوبة بالذات مع أنّه مناسب للنار في الحرارة كذلك، والتنافي بين الماء والنار ممّا لا يخفى، فعلى هذا يمكن أن يكون بين اللفظ وبعض المعاني مناسبة ذاتيّة من جهة، ومع ذلك يكون بينه وبين نقيض ذلك المعنى مناسبة ذاتيّة من جهة أخرى تقتضي تلك المناسبة دلالته على كلّ منهما.
ولقائل أن يقول: إنّ المناسبةَ المقتضية للدلالة المناسبةُ من جميع الوجوه، ولذا لا
ص: 148
يستفاد الماء والنار من الأرض والهواء مع تحقّق المناسبة بين الأوّلين وكلّ من الأخيرين من وجه كما عرفت، فاللفظ المناسب لمعنى بالمناسبة المقتضية للدلالة لا يمكن أن يناسب نقيضه بالمناسبة المذكورة، فتتمّ المعارضة.
لا يقال: إنّ النقض بالأرض والماء والنار مثلًا إنّما يتوجّه إذا كان لفظ «الأرض» مناسبًا لهما، وليس الأمر كذلك، بل الطبيعة الأرضيّة كما لا يخفى، وليس الكلام في ذلك.
لأنّا نقول: أمّا أوّلًا: فلأنّ المناسبة على الوجه المذكور لو كان موجبًا للانتقال، ينبغي أن يكون كذلك أينما تحقّقت، ودعوى التخصيص في أمثال المقام غير مسموعة كما لا يخفى.
وأمّا ثانيًا: فلأنّ الطبيعة الأرضيّة مدلولة للفظ «الأرض»، فبناءً على القول بكون الدلالة للمناسبة الطبيعيّة لا بدّ أن يكون بينهما مناسبة ذاتيّة، فمناسبة الطبيعة الأرضيّة لأيّ شيء كان يوجب مناسبة لفظ «الأرض» له، فكان اللازم استفادة الماء والنار منه، مع أنّ الأمر ليس كذلك، فيعلم منه أنّ المناسبةَ المقتضية للدلالة المناسبةُ من جميع الوجوه، لا في الجملة.
واعلم: أنّ بعض المحقّقين(1) لمّا زعم عدم صحّة ما تقدّم في بيان الملازمة لعدم استحالة مناسبة شيء واحد للمتنافيين، تصدّى لبيانها بنحو آخر محصّله: أنّه بناءً على القول بالدلالة الذاتيّة يستلزم المشترك بين المتنافيين أن يكون المفهوم من
ص: 149
قولنا: «هو ناهل» المشترك بين العطشان والريان، أو: «جون»(1)، اتّصافَه بالمتنافيين؛ لأنّ لفظة «ناهل» مثلًا لمّا دلّت بالدلالة الذاتيّة عليهما؛ لَمَا أمكن انفكاكهما عنه، فيلزم من حمله على شيء اتّصافه بهما، وهو فاسد.
وفيه ما لا يخفى؛ لأنّ المراد إمّا دلالته على المتنافيين وفهمهما منه، فهو مسلّم ولا فساد فيه أصلًا، مع أنّه لا اختصاص له بما إذا كانت الدلالة ذاتيّة؛ لثبوته فيما إذا كانت وضعيّة؛ لما سلف من أنّ دلالة المشترك على جميع معانيه ثابتة، أو إرادتهما منه واتّصاف ذلك الشيء به في الواقع، فهو ممنوع؛ إذ اللازم على تقدير ذاتيّة الدلالة امتناع انفكاكها، وأمّا الإرادة فلا، كما عرفت مرارًا، فاللازم الدلالة على المتنافيين، وهي ممّا لا ينكر، والمنكر إرادتهما، وهي غير لازمة، فالحقّ في بيان الملازمة ما اشتغل عنه، لا ما اشتغل به.
في الأعصار والأمصار على خلافه، واجتهاد تحصيل العلم بالوضع والتعيين، وهو ممّا يشهد به العيان وقضى بصحّته الوجدان.
ومنها: أنّها لو كانت للمناسبة الذاتيّة؛ لما كانت اللغات توقيفيّة، واللازم باطل؛ لاتّفاق العلماء خلفًا عن سلف وحديثًا بعد قديم على توقيفيّتها، أمّا الشرطيّة فظاهرة ممّا سلف آنفًا.
وبالجملة: إنّ بطلان القول المذكور من الأمور الضروريّة الّتي لا يعتريه شكّ وريبة، وإنّما أطنبنا الكلام في ذلك لما اشتمل ما ذكرنا في بطلانه على فوائد عظيمة يفتقر إليها في مواضع عديدة، وينتفع بها في مطالب جليلة، ويعتنى بها في مسالك كثيرة.
وأمّا المناقضة، فهي أنّا نمنع الملازمة المذكورة بأن لا تكون دلالة الألفاظ للمناسبة، ولا يلزم من تعيين بعض الألفاظ لبعض المعاني ترجيح من غير مرجّح؛ لما ذكر في المشهور من جواز كون المرجّح إرادة الواضع المختار مطلقًا ولو كان الوضع مستندًا إلى الله تعالى، أو سبق خطور ذلك اللفظ عند تعقّل المعنى فيما إذا كان الوضع من غير الله سبحانه(1).
ص: 151
فبناء هذا الكلام على تسليم تساوي نسبة اللفظ إلى المسمّى وغيره وتساوي نسبة المسمّى إلى ذلك اللفظ وغيره، لكن مع ذلك لا يلزم الترجيح من غير مرجّح؛ لأنّ الإرادة أو سبق الخطور مرجّح.
وفيه ما لا يخفى، أمّا بالنسبة إلى الإرادة فلأنّها لو كانت ممّا ينتفى(1) به الترجيح من غير مرجّح؛ لَما يتصوّر ترجيح من غير مرجّح أصلًا، ضرورة أنّ ترجيح الشيء لا يتصوّر من غير إرادة، وكيف مع أنّ الإرادة من غير مرجّح لها نفس الترجيح من غير مرجّح، فكيف يجعل دافعًا له؟!
فنقول: إنّ المفروض فيما نحن فيه تساوي نسبة الألفاظ إلى المسمّيات، فإرادة وضع بعضها دون الآخر(2) ترجيح من غير مرجّح، فما يكون نفس الترجيح من غير مرجّح لا يكون دافعًا إيّاه.
وأصل هذا الكلام من جعل الإرادة مرجّحة إنّما هو للأشاعرة المجوّزين للترجيح من غير مرجّح، وإنّما تمسّكوا بها في دفع التخصّص بلا مخصّص ومنع الترجّح بلا مرجّح، لا لمنع الترجيح من غير مرجّح، لتجويزهم إيّاه، وإنّما وقع التمسّك به في أمثال المقام ممّن لا يوافقهم في ذلك الأصل من غير
ص: 152
ملاحظة الأحوال.
نعم، إنّ الإرادة صالحة للترجيح في حقّه سبحانه؛ لرجوعها بالنسبة إليه تعالى إلى العلم بالأصلح، إلّا أنّ الأصلحيّة الّتي هي مناط تعلّق الإرادة إنّما تكون مع الاختلاف، وأمّا مع التساوي كما هو المفروض فيما نحن فيه، فلا.
وأمّا بالنسبة إلى الخطور؛ فلأنّه قد يتّفق عند تعقّل معنى خطور ألفاظ كثيرة ولا يعيّن(1) منها إلّا واحدًا، ولا يكون ذلك إلّا لمرجّح يرجّحه على غيره؛ لئلّا يلزم الترجيح من غير مرجّح، مع أنّ ذلك إنّما يتمّ إذا كان تركيب الألفاظ على الهيئات الخاصّة من غير الواضع، أو قبل الوضع، وهو غير معلوم، بل محلّ كلام، لا سيّما الأوّل.
ويمكن الجواب بأن يردّد في الشرطيّة بأن يقال: إنّ المراد من قولهم: «إنّه لو لم يكن بين اللفظ والمعنى مناسبة طبيعيّة، لزم الترجيح من غير مرجّح» إمّا مطلق المناسبة، أو المناسبة المقتضية للدلالة؛ وعلى الأوّل وإن كانت الملازمة مسلّمة وكذا بطلان التالي، لكن لا يلزم منه المطلوب؛ لجواز أن يكون بينهما مناسبة ذاتيّة غير مقتضية للدلالة تكون مرجّحة لوضع البعض، فلا يلزم الترجيح من غير مرجّح، مع كون الدلالات وضعيّة.
ص: 153
ويمنع الملازمة على التقدير الثاني؛ لوضوح أنّ نفي الأخصّ غير مستلزم لنفي الأعمّ، فيكفي في دفع المحذور تحقّق المناسبة في الجملة وإن لم تكن(1) كافية للدلالة، فتأمّل.
على أنّه يمكن منع الملازمة على التقدير الأوّل أيضًا؛ لجواز أن لا يكون بين اللفظ والمعنى مناسبة ذاتيّة أصلًا، ومع ذلك لا يلزم الترجيح من غير مرجّح؛ لاحتمال أن يكون المرجّح أمرًا آخر، كالمناسبة الحاصلة باعتبار صفات الحروف وهيئاتها الحسّيّة على ما ذكره أئمّة الاشتقاق والتصريف من أنّ للحروف خواصّ بها تختلف(2)، كالجهر والهمس والشدّة والرخاوة والتوسّط بينهما، وغير ذلك من الاستعلاء والانخفاض والانطباق والانفتاح والقلقلة(3)، وغيرها من الأوصاف المذكورة للحروف في مظانّها(4).
ص: 154
فيمكن أن يكون المرجّح تحقّق المناسبة على هذا الوجه بأن راعى الواضع في وضع الألفاظ بإزاء المسمّيات المناسبة الحاصلة بينها وبين الألفاظ باعتبار صفات حروفها الّتي ركّبت منها، كالفصم بالفاء الّذي هو حرف رخو، لكسر الشيء من غير أن يبين؛ والقصم بالقاف الّذي هو شديد، لكسر الشيء حتّى يبين.
أو باعتبار هيئاتها الحاصلة من تركيب الحروف، كالفَعَلان والفَعَلى بالتحريك، كالنَزَوان والحَيَدى(1)، لما في مسمّاهما من الحركة، وكذا باب «فَعُلَ» بضمّ العين
-مثل شَرُفَ وكَرُمَ- للأفعال الطبيعيّة اللازمة؛ لأنّ الضمّ يفتقر في حصوله إلى انضمام الشفتين والتزامهما، فيناسب أن يكون مدلوله مضمومًا مع الشخص، أي لازمًا له، وهكذا(2).
وفي كلا الوجهين(3) المذكورين لإثبات الترجيح نظر.
أمّا في الأوّل فمن وجوه يظهر أكثرها ممّا سلف؛ لأنّ ذلك متوقّف على تحقّق الطبائع للألفاظ والمسمّيات والمناسبة بينهما، وقد عرفت الحال لا سيّما في الثالث، واستلزام ذلك مناسبة شيء واحد للنقيضين أو الضدّين.
ص: 155
وأيضًا أنّ الترديد في المناسبة بين كونها مقتضية للدلالة أم لا، ممّا لا وجه له؛ لأنّ العلم بالمناسبة إمّا أن يكون متحقّقًا أم لا، وعلى الأوّل يلزم الانتقال كائنة ما كانت المناسبة، فتثبت الدلالة، وعلى الثاني وإن لم يتحقّق الانتقال، لكن ليس ذلك لاختلاف مراتب المناسبة، بل لانتفاء شرط الدلالة، وهو العلم بالمناسبة.
لا يقال: إنّه يتوجّه عليه أيضًا ما تقدّم من أنّه حينئذٍ يلزم فوات الحكمة الموجبة لتركيب الألفاظ؛ لكون الاطّلاع على المناسبة الذاتيّة في جميع الألفاظ متعسّرًا، بل متعذّرًا، فلا يمكن الوضع؛ لتوقّفه على العلم بالمناسبة حينئذٍ.
لأنّا نقول: إنّ ذلك فيما نحن فيه إنّما يتمّ في حقّ غير الله سبحانه، وأمّا بالنسبة إليه فلا كما لا يخفى.
وأمّا الثاني فلعدم اطّراده في جميع الألفاظ المستعملة في لغة واحدة، فضلًا عن اطّراده في جميع اللغات، فالصواب أن يقال: إنّ امتناع الترجيح من غير مرجّح يستدعي أن يكون الوضع لمرجّح؛ وعدم العلم به في جميع الألفاظ لا يقتضي عدمه كما لا يخفى.
وبالجملة: إنّه لمّا ثبت فساد القول بالدلالة الذاتيّة، تعيّنت الدلالة الوضعيّة؛ ولمّا امتنع الترجيح من غير مرجّح، علم افتقار وضع أيّ لفظ كان لمسمّاه إلى مرجّح، وغاية ما في الباب عدم العلم به في جميع الألفاظ، وهو غير مضرّ، إلّا إذا كان مستلزمًا لانتفائه في نفس الأمر، أو كان تحقّقه مستلزمًا للعلم به، لكن ليس على شيء منهما دليل، ولا على وأحد(1) منهما سبيل.
ص: 156
والمقام الثاني: في تفسير الوضع وما يترتّب عليه من الفوائد(1)
اعلم: أنّك قد عرفت ممّا أسلفناه في المقدّمة أنّ الوضع المختصّ بالحقائق: تعيين اللفظ للدلالة على المعنى لذاته، والمشترك بينها وبين المجازات تعيينه للدلالة على المعنى من غير أن يقيّد بالذات؛ وهذا وإن مرّ الكلام فيه في المقدّمة بحيث يشمل التعيين للمنقولات التخصّصيّة(2) أيضًا، لكنّا أعدناه هنا للتنبيه على فائدتين:
الأولى: في تفسير الدلالة، فنقول: لمّا كانت الدلالة مأخوذة في تعريف الوضع، ينبغي التعرّض لها، فنقول: إنّها مفسّرة في المشهور بكون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، أي كلّما يحصل العلم به يلزم العلم بشيء آخر؛ والأوّل هو الدالّ، والثاني هو المدلول(3).
ويرد على عكسه أنواع المجازات؛ لأنّها ليست بهذه المثابة؛ لعدم حصول الاستفادة منها عند انتفاء القرينة، فلا يصدق أنّها بحيث كلّما يحصل العلم به يحصل العلم بشيء آخر، بل الحقائق أيضًا؛ لوضوح أنّ العلم بالمدلولات منها إنّما يلزم عند العلم بأوضاعها، لا مع عدمه، فلا تصدق الكلّيّة المذكورة.
وأجاب المحقّق الشريف عن الأوّل: بالتزام ذلك بأنّ التعريف المذكور لأرباب
ص: 157
الميزان، والدلالة المعتبرة عندهم ما كانت كلّيّة، وأمّا إذا فهم من اللفظ معنى في بعض الأوقات بواسطة قرينة، فأصحاب هذا الفنّ لا يحكمون بأنّ هذا اللفظ دالّ على ذلك المعنى، بخلاف أصحاب العربيّة والأصول، فخروج المجازات غير مضرّ، بل لازم(1).
ويتوجّه عليه: أنّ التعريف المذكور قد أطبقت عليه أئمّة العربيّة والأصول في كتبهم، وظاهرهم الارتضاء بذلك وتطابق الاصطلاح هنالك، وحيث ما كانت الدلالة متحقّقة عندهم في المجازات، ينتقض عكس الحدّ بخروجها عنه، وهو ما تقدّم من الإيراد على أنّه بعد تسليم فهم المعنى من اللفظ ولو كانت بواسطة القرينة، لا وجه لانتفاء الدلالة، فيبقى الإشكال.
ولو سلّمنا اختصاص الحدّ بأصحاب الميزان مع أنّ اعتبار الكلّيّة يوجب الانتقاض بالنسبة إلى الحقيقة أيضًا كما عرفت، فلا وجه لتخصيصه بالألفاظ المجازيّة، وجعل العموم منوطًا بالعلم بالوضع كما يمكن في الحقيقة، كذا يمكن جعله منوطًا بالعلم بالقرينة في الألفاظ المجازيّة.
ويمكن الجواب أمّا فيما إذا كان الدالّ في المجازات اللفظ مع القرينة فظاهر، إذ العلم بالدالّ حينئذٍ إنّما يكون مع تحقّق القرينة، لا مع انتفائها، وحينئذٍ لا تتخلّف الدلالة، وإنّما التخلّف في صورة انتفائها، وهنالك لم يتحقّق العلم بالدالّ، بل بجزئه، فلم تتحقّق صورة يتحقّق العلم بالدالّ فيها مع انتفاء الدلالة.
ص: 158
وأمّا على التحقيق من كون الدالّ على المعاني المجازيّة اللفظ بشرط القرينة على ما أسلفنا بيانه؛ فلأنّ الدالّ عليها ليس اللفظ مطلقًا، بل في حالة الاقتران بالقرينة، فعند التجرّد عنها لا يكون العلم بالدالّ على المعنى المجازيّ، بل على المعنى الحقيقيّ، ولذا تحصل الدلالة بالنسبة إليه، وقد عرفت أنّ المراد بالشيء في قولهم: «كون الشيء» الدالّ، وإنّما عدل عنه إليه لئلّا يلزم الدور.
على أنّه يمكن أن يقال: إنّ أصل الإيراد ممّا لا وقع له؛ لأنّ قولهم: «الدلالة كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر»، أنّها كون الشيء بالحيثيّة المذكورة، وحيث ما لم يكن الشيء بتلك الحيثيّة لم تتحقّق الدلالة، وتلك الحيثيّة في الألفاظ المجازيّة عند الاقتران بالقرينة لا مطلقًا، فلا وجه للإيراد بعدم الدلالة عند عدم التحيّث بالحيثيّة المذكورة.
إن قلت: إنّه يمكن الجواب أيضًا عن أصل الإيراد بما تقدّم من أنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم، بناءً على أنّ الدالّ على الملزوم دالٌّ على اللازم، فيلزمه الدلالة على المعنى المجازيّ ولو عند انتفاء القرينة وإرادة المعنى الحقيقيّ، وإنّما المتوقّف على القرينة إرادة المعنى المجازيّ، لا الدلالة عليه، وإلّا لما كان لهذا الكلام وجه، والمعتبر في حدّ الدلالة العلم بالمدلول، لا كونه مرادًا.
قلنا: إنّ الحكم بدلالة الملزوم لذاته على اللازم إنّما يصحّ إذا كان اللزوم بيّنًا بالمعنى الأخصّ، أي يلزم من نفس تصوّر الملزوم تصوّر اللازم مع كلام فيه أيضًا، وليس المراد من اللزوم المفهوم من قولهم: «إنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم
ص: 159
إلى اللازم»(1) هذا المعنى قطعًا.
وكيف؟! مع أنّ كثيرًا من المعاني المجازيّة لا تخطر بالبال أصلًا عند تعقّل المعاني الحقيقيّة، فضلًا عن كفايته لتعقّلها ومفهومها، وإلّا لخرج أكثر المجازات عن كونها مجازات، ولكان الدالّ على المعاني المجازيّة أصل اللفظ من غير مدخليّة للقرينة في الدلالة، لا على وجه الشرطيّة ولا على وجه المعيّة؛ وإطباقهم مضافًا إلى العيان قاضٍ على خلافه، بل المراد اللزوم في الجملة، كما سيجيء إليه الإشارة.
ولقائل أن يقول: إنّ جميع ما ذكر لا يكفي لحسم(2) مادّة الإيراد؛ لأنّ مقتضى قولهم: «كونه بحيث يلزم من العلم به العلم بالآخر» أنّ العلم بنفس ذلك الشيء من غير اعتبار أمر آخر يكفي للعلم بالمدلول، وليس الأمر في شيء من المجازات كذلك وإن قلنا: إنّ الدالّ فيها اللفظ بشرط القرينة لا مجموعهما؛ لوضوح مدخليّة العلم بالقرينة أيضًا في ذلك، فلا يصحّ الحكم بكفاية نفس العلم بالدالّ في العلم بالمدلول كما لا يخفى.
ويمكن الجواب عنه: بأنّه قد ظهر ممّا سبق أنّ الدالّ في المجازات اللفظ في حالة الاقتران بالقرينة، ففي حالة العلم باللفظ والقرينة يكفي نفس العلم باللفظ للعلم بالآخر، فتأمّل.
أو يقال: إنّ المراد من قولهم: «إنّ الدلالة كون الشيء بحيث يلزم من العلم به
ص: 160
العلم بالآخر»، أعمّ من أن يكون من غير اعتبار أمر آخر كما في الحقائق، أو معه كما في المجازات.
والجواب عن الثاني يظهر ممّا تقدّم من أنّ المراد: أنّ الدلالة كون الشيء بالحيثيّة المذكورة، وحيثما لم يكن الشيء على تلك الحيثيّة لم يتحقّق(1) الدلالة وتلك الحيثيّة في الألفاظ الحقيقيّة عند العلم بأوضاعها؛ أو يقال: إنّ المراد أنّ الدلالة كون الشيء بحيث يلزم من العلم به عند العلم بوضعه العلم بالآخر، كما تقدّم في المجاز.
وبالجملة: ليس المراد من «اللزوم» المأخوذ في حدّ الدلالة اللزوم العقليّ البيّن، بل اللزوم في الجملة، فلا ينافيه الافتقار إلى العلم بالوضع والعلاقة.
وربّما قيل احترازًا عن المحذور: الصحيح أن يقال في تعريفها: هو كون الشيء بحيث يلزم من العلم به العلم بشيء آخر عند العلم بالعلاقة(2).
وفيه ما لا يخفى؛ لاستلزامه خروج الدلالة المتحقّقة في الحقائق؛ لأنّ العلم بالعلاقة فيها ممّا لا معنى له، بل في المجازات أيضًا، إذ كفاية العلم بالعلاقة في دلالة الألفاظ المجازيّة ممنوعة، إلّا إذا فسّرت العلاقة بحيث تشمل الوضع والقرينة، فيؤول إلى ما ذكر مع ارتكاب مخالفة الظاهر وإمكان إرادة هذا المعنى من غير تغيير في الحدّ المشهور على ما مرّ.
ص: 161
والثانية: في تقسيم الدلالة إلى أقسامها الثلاثة المشهورة.
اعلم: أنّك قد عرفت ممّا تقدّم أنّ الدلالة لكونها من الأمور الممكنة لا بدّ لها من مقتضٍ(1)؛ وذلك المقتضي إمّا الوضع بأنّه لمّا وضع اللفظ وعيّن بإزاء المعنى، يلزمه الانتقال منه إليه للعالم بالوضع؛ أو الجزئيّة، أي كون المعنى جزءًا للموضوع له، بناءً على أنّ فهم الكلّ مستلزم لفهم الجزء، فالانتقال إلى الكلّ لا يمكن من غير انتقال إلى الجزء؛ أو اللزوم، أي كون المعنى لازمًا للموضوع له، بناءً على أنّ فهم الملزوم وتعقّله يستلزم فهم اللازم.
فدلالة اللفظ إمّا بالنسبة إلى الموضوع له، أو جزئه، أو لازمه؛ وهي مسمّاة في الأوّل بالمطابقة، لموافقة اللفظ للمعنى، من قولهم: طابق النعل بالنعل؛ وفي الثاني بالتضمّن، لكونها في ضمن الموضوع له. وفي الثالث بالالتزام؛ لكونها في لازمه.
فالمطابقة: دلالة اللفظ على المعنى بتوسّط وضعه له من حيث إنّه وضع له، والتضمّن: دلالته عليه بتوسّط جزئيّته للموضوع له.
والالتزام: دلالته عليه بتوسّط لزومه له.
والكلام في انتقاض كلّ من الأقسام بالآخر في اللفظ المشترك بين شيء وجزئه ولازمه؛ وكذا دفعه مشهورٌ وفي الكتب والألسنة مذكورٌ، فترك الالتفات إليه محبوبٌ؛ لأنّ وضع كتابنا هذا من خفيّ ألطاف الله تعالى ليس في مبتذلات الأوهام، بل فيما لا تتناوله الأفهام.
ص: 162
وإنّما الكلام هنا في أمور:
الأوّل: أنّ الأقسام المذكورة للدلالة هل هي بأسرها من الدلالة اللفظيّة الوضعيّة، أو لا، بل بعضها كذلك وبعضها عقليّ؟
فيه خلاف، والمشهور وكأنّه ممّا أطبق عليه علماء الميزان: الأوّل(1).
وذهب بعض علماء البيان إلى أنّ الأوّل وضعيّة، والأخيرين عقليّة(2). وابن الحاجب إلى أنّ المطابقة والتضمّن من الدلالة(3) اللفظيّة الوضعيّة، بخلاف الدلالة الالتزاميّة، فإنّها غير لفظيّة، بل عقليّة(4).
لكن لا يتوهّمن أنّ من قال بالوضعيّة يدّعي استقلال الوضع في الإفادة وانتفاء الواسطة ممّا عدا الوضع في دلالة اللفظ على المدلول في التضمّن والالتزام؛ ولا أنّ من قال بالعقليّة ينكر مدخليّة الوضع في الدلالة، كما في دلالة اللفظ المسموع من وراء الجدار على اللافظ؛ لظهور فسادهما.
ص: 163
أمّا الأوّل: فلوضوح أنّ استقلال الوضع وكفايته في الإفادة إنّما هو بالنسبة إلى الموضوع له، ومعلوم انتفاؤه في غير الدلالة المطابقيّة؛ لما عرفت من أنّ التضمّن والالتزام: دلالة اللفظ على جزء الموضوع له ولازمه، والتغاير بين الجزء والكلّ واللازم والملزوم بيّن؛ ولو فرض ثبوت الوضع بالنسبة إلى الجزء واللازم أيضًا، لم تكن الدلالة بالنسبة إلى هذا الاعتبار تضمّنيّة ولا التزاميّة، بل مطابقيّة.
وأمّا الثاني: فلأنّه لو لم يكن للوضع مدخليّة في التضمّن والالتزام، لزم انتفاء الدلالة فيهما، والتالي باطل؛ لظهور امتناع فهم الكلّ والملزوم من غير فهم الجزء واللازم.
أمّا الشرطيّة؛ فلأنّه بناءً على فساد القول بالدلالة الذاتيّة، انحصر المقتضي في دلالة اللفظ على المعنى في الوضع؛ وحيثما لم يكن له مدخليّة لا على وجه الاستقلال ولا في الجملة، يكون الموجب منتفيًا، وانتفاء الموجب ملزوم لانتفاء الموجب.
بل القائل بالوضعيّة يدّعي المدخليّة، بمعنى أنّ اللفظ لمّا دلّ على الكلّ والملزوم لوضعه لهما، يلزمه أن يكون الانتقال إلى الجزء واللازم لذلك، فتكون دلالة اللفظ على المدلول المطابقيّ بالوضع من غير واسطة وعلى المدلول التضمّنيّ والالتزاميّ معها؛ لأنّ الوضع ممّا يتوقّف عليه فهم الكلّ، وكلّما يتوقّف عليه فهم الكلّ يتوقّف عليه فهم الجزء؛ لكونه جزءًا له، فالوضع ممّا يتوقّف عليه فهم الجزء؛ لكونه جزءًا للكلّ، ففهم الجزء متوقّف على الوضع بواسطة توقّف فهم الكلّ عليه، وكذلك الحال في فهم اللازم.
فالدلالة الوضعيّة عندهم ما كان بمعونة الوضع أعمّ من أن يكون من غير
ص: 164
واسطة أو معها، والقائل بالعقليّة لا ينكر المعنى المذكور من مدخليّة الوضع في التضمّن والالتزام، بل يدّعي أنّ الوضعيّة ما كان للوضع من غير واسطة، فيلزمه التعميم في العقليّة بحيث يشمل الدلالة التضمّنيّة والالتزاميّة أيضًا(1)، ففي الحقيقة أنّ الاختلاف في هذا المقام يرجع إلى الاختلاف في الاصطلاح، ومن الأمور المشهورة أنّه لا مشاحّة في الاصطلاح، إذ لكلّ أحد أن يصطلح بما شاء.
إن قلت: إنّ المُقسم في التقسيم المذكور الدلالة اللفظيّة، فإن كان الالتزام مثلًا عقليّة، يلزم أن يكون قسم الشيء قسيمًا(2) له.
قلنا: إنّ المقتضي في دلالة(3) اللفظ على المعنى إمّا الوضع، أو العقل كما في التضمّن والالتزام، بناءً على ما عرفت من حكم العقل بأنّ الانتقال إلى الكلّ يستلزم الانتقال إلى الجزء، وإلى الملزوم يستلزم الانتقال إلى اللازم، فالدلالة في الأوّل تسمّى الدلالة اللفظيّة الوضعيّة، وفي الثاني الدلالة اللفظيّة العقليّة، فالحكم بأنّ التضمّن والالتزام من الدلالة العقليّة بالمعنى المذكور لا ينافي جعل المقسم فيهما الدلالة اللفظيّة.
نعم، يتوجّه ذلك بالنسبة إلى ما ذهب إليه ابن الحاجب، حيث صرّح بأنّ الدلالة الالتزاميّة غير لفظيّة(4)، فحينئذٍ لا يمكن أن يقال: إنّ دلالة
ص: 165
اللفظ(1) على تمام ما وضع مطابقة، وعلى جزئه تضمّن، وعلى خارجه التزام، إذ الحكم بكون اللفظ دالًّا على الخارج مع كونها غير لفظيّة ممّا لا يتفوّه به.
إلّا أن يقال: إنّ المقسم حينئذٍ مطلق الدلالة، لا اللفظيّة، أو أنّ الدلالة اللفظيّة في القسم هي أن ينتقل الذهن من اللفظ إلى المعنى ابتداءً، أي بلا واسطة معنى، فيخرج الالتزام حينئذٍ؛ لأنّ الانتقال إلى اللازم فيه بواسطة فهم الملزوم الّذي وضع اللفظ بإزائه، ويراد من الدلالة اللفظيّة في المقسم أعمّ منه، أي ما ينتقل إليه بواسطة اللفظ، سواء دلّ عليه ابتداءً، أو بواسطة دلالته على ملزومه.
ثمّ اعلم: أنّه قد ظهر ممّا ذكر وجه القول بكون الدلالات الثلاث لفظيّة، وكذا القول بكون التضمّن والالتزام عقليّة؛ وإنّما الكلام فيما ذهب إليه ابن الحاجب من كون المطابقة والتضمّن لفظيّة وكون الالتزام عقليّة(2).
فنقول: الوجه في ذلك: هو أنّ الدلالة اللفظيّة عنده: كون اللفظ بحيث ينتقل الذهن منه إلى المعنى ابتداءً، أي بلا واسطة معنى، والّذي يخرج من ذلك هو الالتزام فقط؛ لما عرفت من أنّ فيه انتقالًا(3) من الملزوم إلى اللازم، أي الذهن ينتقل عند ملاحظة اللفظ إلى الملزوم، ثمّ إلى اللازم، فالانتقال إلى اللازم بواسطة
ص: 166
الانتقال إلى الملزوم، فهناك انتقالان متغايران.
بخلاف التضمّن، فإنّ الدالّ على الكلّ دلالته على الكلّ عين الدلالة على الجزئين مثلًا، ولا مغايرة بينهما إلّا بالإضافة والاعتبار، فهي بالنسبة إلى الكلّ تسمّى مطابقة، وإلى كلّ واحد من الجزئين تسمّى تضمّنًا، فليس فيه إلّا انتقال واحد، إذ يفهم منه الكلّ بصورة وحدانيّة إجماليّة يحلّلها العقل في ظرف التحليل إلى أجزاء.
ألا ترى أنّك إذا تعقّلت من لفظ «الإنسان» معناه، حصل في ذهنك صورة واحدة بالفعل تنحلّ بتحليل العقل إلى أمور، دلالة لفظ «الإنسان» عليها في ضمن دلالتها على تلك الصورة وفهمها في ضمن فهمها، فكما يكون الانتقال إلى تلك الصورة الوحدانيّة الصالحة لأن تكون مبدأً لتلك التفاصيل ابتداء بالمعنى المذكور، كذلك الانتقال إلى كلّ من تلك الأمور؛ ولذا عدّ التضمّن من الدلالة اللفظيّة بالمعنى المذكور كالمطابقة دون الالتزام.
وهنا اعتراض من وجوه:
الأوّل: أنّ الحكم بأنّ الانتقال في الالتزام إلى الملزوم أوّلًا، ثمّ إلى اللازم، غير صحيح على إطلاقه؛ لأنّ دلالة العمى على البصر بالالتزام، مع أنّ دلالته عليه متقدّمة على الدلالة على العدم المضاف إلى البصر، كما صرّح به شارح المطالع
ص: 167
والمحقّق الشريف وغيرهما(1)؛ لأنّه موضوع للعدم من حيث إضافته إلى البصر، فالتقييد داخل في الموضوع له.
وكذلك الحال في الكوسج، فإنّ دلالته على اللحية متقدّمة على الدلالة على العدم المضاف إلى اللحية، وتعقّل الطرفين متقدّم على تعقّل النسبة.
لا يقال: إنّ دلالة العمى على البصر بالتضمّن، لا بالالتزام، كيف؟! مع أنّ بين العمى والبصر تعاندًا، فكيف يكون أحدهما ملزومًا والآخر لازمًا؟
لأنّا نقول: مدلول العمى كما عرفت: العدم المضاف إلى البصر، بأن يكون(2) الإضافة داخلة في مدلوله، لا العدم والبصر، فلا يكون البصر جزءًا لمدلول العمى، بل خارج(3) عنه(4)، فلا يكون(5) دلالته عليه بالتضمّن؛ والتعاند بينهما إنّما هو في الخارج، واللازم منه انتفاء اللزوم الخارجيّ بينهما، وهو لا يستلزم انتفاء مطلق اللزوم، ضرورة أنّ انتفاء الأخصّ غير مستلزم لانتفاء الأعمّ، فنقول: إنّ التعاند
ص: 168
بينهما خارجيّ، واللزوم ذهنيّ.
والثاني: أنّ ما تقدّم لا يصلح وجهًا لجعل التضمّن من الدلالة اللفظيّة بالمعنى المذكور، إذ الانتقال إلى الأجزاء المحلّلة بعد أن يحلّل المعنى المحلّل فيه، فيكون الانتقال إلى المعنى التضمّنيّ بعد الانتقال إلى المعنى المطابقيّ، كما في الالتزام، فلا يكون الانتقال إلى المعنى التضمّنيّ ابتداءً.
والثالث: أنّه على تقدير تسليم اتّحاد الدلالة في التضمّن والمطابقة وأنّ الحاصل في الذهن صورة وحدانيّة صالحة لأن يكون(1) مبدأ للتفاصيل، إنّما يصحّ في اللفظ المفرد، وأمّا في اللفظ المركّب -كغلام زيد- فلا؛ لوضوح أنّ فهم بعض الأجزاء في المركّب قبل فهم الجزء الآخر، ففهم الكلّ فيه إنّما يحصل بصور متعدّدة متمايزة متعاقبة، فلا يمكن أن يقال: إنّ دلالة التضمّن والمطابقة متّحدة بالذات ومختلفة بالاعتبار، بل تفسير الدلالة اللفظيّة بما ذكر يستلزم أن لا تكون دلالة الألفاظ المركّبة على معانيها المطابقيّة دلالة لفظيّة؛ لأنّ الانتقال إلى الكلّ بواسطة الانتقال إلى الجزء، فلا يصدق على الانتقال إلى الكلّ أنّه انتقال إلى المعنى ابتداءً.
ص: 169
والجواب أمّا عن الثاني: فلأنّ الانتقال إلى الصورة الوحدانيّة يستلزم الانتقال إلى الأجزاء إجمالًا بعين ذلك الانتقال، لا بانتقال آخر، فكما يكون الانتقال إلى تلك الصورة ابتدائيًّا، فكذلك الانتقال(1) إلى أجزائها، ومن هذا الاعتبار تسمّى الدلالة بالنسبة إليها تضمّنيّة؛ وأمّا تحليلها إلى تلك الأجزاء فإنّما هو إلتفات تفصيليّ إلى الأمور المفهومة على الإجمال، لا أنّه التفات مستأنف إلى الأمور الغير الملتفت إليها مطلقًا.
ونظير ذلك في المحسوسات مشاهدة وردة واحدة(2) ذات أوراق متكثّرة دفعة واحدة، ولا شبهة أنّ المشاهدة [بالنسبة] إلى الورد وأجزائها واحدة، فإذا نسبت المشاهدة إلى الورد تسمّى مشاهدته، وإذا نسبت إلى الجزء تسمّى مشاهدته؛ وكذلك الحال في المطابقة والتضمّن من حيث الفهم والانتقال.
وأمّا عن الثالث: فلأنّ التضمّن على ما ظهر ممّا قدّمناه وصرّحوا به أيضًا: دلالة اللفظ على جزء المعنى الموضوع له، كدلالة الإنسان على الحيوان أو الناطق، لا دلالة جزء اللفظ على جزئه.
ص: 170
فعلى هذا نقول: إنّ المركّب له وضع تركيبيّ ولمفرداته وضع إفراديّ؛ وكما أنّ وضعه التركيبيّ يستدعي إفادته المعنى التركيبيّ، كذا يكون وضع مفرداته مستدعيًا لإفادتها المعاني الإفراديّة.
وفهم بعض الأجزاء في المركّب قبل فهم الجزء الآخر(1) بصور متعاقبة متمايزة وإن كان مسلّمًا، لكنّه إنّما هو لدلالة المفردات بأوضاعها عليها، لا لدلالة المركّب من حيث إنّه مركّب عليها؛ ومعلوم أنّ تلك الدلالة مطابقة بالنسبة إلى المفرد الّذي هو جزء للمركّب، لا تضمّن بالنسبة إلى المركّب، والمتحقّق دلالة جزء المركّب على معناه(2)، لا دلالة المركّب من حيث هو مركّب على جزء معناه، والتضمّن بالنسبة إلى المركّب متوقّف عليه، فالمتحقّق -وهو دلالة الجزء على معناه- لا يكفي لتحقّق التضمّن بالنسبة إلى المركّب، وما يكفي -وهو دلالة المركّب على جزء معناه- غير متحقّق.
وبالجملة: المقصود أنّ التضمّن دلالة اللفظ على جزء الموضوع له، والمركّب من حيث هو ليس له دلالة على أجزائه المفهومة متعاقبة، بل الدالّ عليها أجزاؤه، وهو ليس بتضمّنٍ بالنسبة إلى المركّب، فيعلم منه أنّ الانتقال إلى المعنى التركيبيّ ابتدائيّ، إذ ليس للفظ المركّب من حيث هو دلالة على جزئه حتّى يحصل الانتقال منه إليه أوّلًا، ثمّ منه إلى المعنى التركيبيّ كما عرفت، فلا انتقاض.
ص: 171
وأمّا الأوّل فهو واردٌ ولا(1) اختصاص له بالعمى، بل يرد الانتقاض أيضًا بالنسبة إلى المتضايفين، فإنّ كلّ واحد من المتضايفين لازم بالنسبة إلى آخر، مع أنّ تعقّلهما في آن واحد، وليس تعقّل الملزوم سابقًا عن تعقّل اللازم، إلّا أن يخصّص التعريف بما إذا لم يكن فهم الملزوم متوقّفًا على فهم اللازم، وفي كلّ من العمى والمتضايفين يكون الأمر كذلك.
ص: 172
والأمر الثاني: في أنّ حصر الدلالات في الأقسام المذكورة غير صحيح؛ لأنّ اللفظ المشترك -كالعين مثلًا- يدلّ على جميع المعاني، مع أنّ هذه الدلالة غير مندرجة تحت شيء من الأقسام الثلاثة؛ أمّا المطابقة والتضمّن فلأنّ اللفظ موضوع لكلّ واحد من تلك المعاني، لا للمجموع، فلا يكون المجموع الموضوع له ولا جزؤه؛ وأمّا الالتزام فلعدم لزومه للموضوع له.
وأيضًا إذا فرض وضع لفظ - كهذا مثلًا - لمتضايفين - كالأبوّة والبنوّة - تكون دلالته على مجموع الجزئين بالمطابقة، وكلّ جزء يستلزم الآخر؛ لامتناع تعقّل البنوّة من دون الأبوّة وبالعكس، فكلّ واحد منهما يفهم بواسطة لزومه للآخر، فلا يكون تضمّنًا لعدم اعتبار الجزئيّة، ولا التزامًا لعدم الخروج، هذا ملخّص ما أورده بعض الأعلام في هذا المقام(1).
ويمكن الجواب أمّا عن الأوّل؛ فلأنّ النقض إنّما كان متوجّهًا إذا فهم مجموع المعاني بصورة وحدانيّة؛ لثبوت الدلالة بالنسبة إليها حينئذٍ، مع عدم اندراجه تحت شيء من الأقسام لما ذكر، لكنّ الأمر ليس كذلك، بل المفهوم كلّ واحد، والدلالة بالنسبة إليه مطابقة؛ لكونه تمام ما وضع له بالنسبة إلى وضعه، وفهم كلّ واحد يستلزم حضور الجميع في الخزانة، فيلتفت إليه إجمالًا، لكن هذا الالتفات من جهة حضور الجميع لدلالة اللفظ على كلّ واحد، لا لدلالته عليه، فتأمّل.
ص: 173
وأمّا عن الثاني: فبأنّه لا شبهة في أنّ اللفظ الدالّ على المجموع دالّ على أجزائه، وإلّا لما تحقّق دلالته على المجموع، وإنكار ذلك مكابرة.
نعم، لو أُورِدَ السؤال على نحو آخر، لكان له وجه-والظاهر أنّه مراد المورد وإن كان في عبارته قصور عن إفادته- بأن يقال: إنّ كلّ لفظ موضوع للمتلازمين له دلالتان على كلّ منهما، إحداهما باعتبار الجزئيّة، ولا كلام في ذلك؛ لاندراجها بهذا الاعتبار تحت التضمّن، والأخرى باعتبار لزوم كلّ منهما للآخر، وهذه الدلالة غير مندرجة تحت شيء من الأقسام المذكورة لما سلف، مضافًا إلى أنّ الالتزام: الدلالة على الخارج اللازم للموضوع له، وهنا يكون اللازم لازمًا لجزء الموضوع له.
إلّا أن يقال: باندراجها تحت الالتزام بأن يكون المراد من الخروج المعتبر فيه عدم حيثيّة العينيّة والجزئيّة، فإنّ المدلول في تلك الدلالة وإن كان جزءًا، لكنّ الدلالة ليست باعتبار الجزئيّة، بل باعتبار اللزوم؛ لكنّه مع ما فيه من شدّة مخالفته للظاهر، بل عدم إمكان إرادته في كثير من كلماتهم، لا(1) يندفع معه العلاوة المذكورة من أنّ الالتزام الدلالة على اللازم للموضوع له، لا لجزئه.
ويمكن الجواب: بأنّ الانتقال إلى اللازم إنّما هو من الجزء، وهو يستدعي أن يكون ذلك دلالة التزاميّة بالنسبة إلى الجزء، لا بالنسبة إلى اللفظ الموضوع لمجموع المتلازمين، وهو مسلّم ولا ضرر فيه أصلًا؛ لكونه انتقالًا إلى الخارج
ص: 174
اللازم للموضوع له، فتأمّل(1).
ص: 175
والأمر الثالث: في أنّ دلالة الألفاظ المجازيّة على المعاني المجازيّة هل تكون من دلالة الالتزام، أو المطابقة(1)؟
فيه خلاف بين الأعلام، فالظاهر من المحقّق العضديّ الأوّل؛ لأنّه حكى اعتبار اللزوم الذهنيّ في دلالة الالتزام عن قوم، ثمّ قال:
ويرد عليهم أنواع المجازات(2).
حيث إنّ مقتضاه أنّ كون الدلالة في المجازات التزامًا مسلّم، واعتبار اللزوم الذهنيّ فيه يستلزم خروجها عنه، بناءً على أنّ اللزوم الذهنيّ هو أن يكون تعقّل الملزوم كافيًا في تعقّل اللازم، وليس الأمر في المجازات كذلك؛ لأنّ تعقّلها متوقّف على وجود القرينة.
ص: 176
والثاني حكاه المحقّق التفتازاني في مطوّله عن الأكثر(1).
وفي كلّ منهما إشكال، أمّا في الثاني فظاهر؛ لأنّ المطابقة دلالة اللفظ على تمام الموضوع له، والمجازُ لفظٌ مستعملٌ في غير الموضوع له، فلو كانت دلالة المجازات مطابقة، لزم اجتماع النقيضين.
وأمّا في الأوّل فمن وجوه:
الأوّل: أنّ دلالة الألفاظ المجازيّة لو كانت التزاميّة، لزم أن يكون الأمر كذلك فيما إذا كان المعنى المجازيّ جزءًا للمعنى الحقيقيّ أيضًا.
أمّا الشرطيّة فظاهرة، وأمّا بطلان التالي فلما تقدّم من أنّ الالتزام دلالة اللفظ على الخارج اللازم للموضوع له، والمعنى المجازيّ فيما نحن فيه لم يكن خارجًا، بل جزء له؛ ومعلوم أنّه ليس بتضمّن أيضًا؛ لما تقدّم من أنّ التضمّن دلالة اللفظ على الجزء في ضمن الكلّ ومفهوم في ضمن فهمه، وأنّها متّحدة مع المطابقة ذاتًا ومختلفة اعتبارًا، وفيما نحن فيه ليس كذلك؛ لوضوح انفهامه مستقلًّا ومخالفة تلك الدلالة
ص: 177
على الدلالة على المعنى الحقيقيّ؛ وكيف لا؟! مع أنّ إحداهما(1) غير متوقّفة على القرينة والأخرى متوقّفة عليها.
لا يقال: إنّ الانتقال من اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أوّلًا إلى الموضوع له، ثمّ بعد الالتفات إلى القرينة الصارفة ينتقل إلى المعنى المجازيّ، فعلى هذا يكون الانتقال من اللفظ المستعمل في الجزء أوّلًا إلى الكلّ، فيصدق على الجزء أنّه مفهوم في ضمن الكلّ بعين دلالة الكلّ.
لأنّا نقول: إنّ هذا وإن كان مسلّمًا، لكنّ الكلام ليس في تلك الدلالة، بل في الدلالة المستقلّة على الجزء والجزء المفهوم مفصّلًا بمعونة القرينة، فتأمّل(2).
لا يقال: إنّ القرينة إنّما هي لكون المعنى المجازيّ مرادًا، لا لكونه مدلولًا؛ لأنّ اختلافهم في أنّ الدالّ في المجازات هل اللفظ بشرط القرينة أو معها، مكذّب لذلك، كما لا يخفى على المتأمّل.
والثاني: أنّ جمعًا من المحقّقين -كالمحقّق التفتازاني وغيره- استدلّوا على عدم توقّف الدلالة على الإرادة بأنّ المعاني التضمّنيّة والالتزاميّة غير مرادة، مع أنّها مدلول عليها(3).
ص: 178
وهذا إنّما يتمّ إذا كانت المعاني الالتزاميّة مفهومة بواسطة فهم الملزوم الّذي هو المراد من الكلام، لا المعنى الالتزاميّ؛ ومعلوم أنّ المراد من الألفاظ المجازيّة المعاني المجازيّة، لا الحقيقيّة، إذ الكلام ليس إلّا في ذلك، فتأمّل(1).
والثالث: هو أنّ دلالة الألفاظ المجازيّة لو كانت التزاميّة، لزم عدم استلزام الالتزام للمطابقة؛ والتالي باطل؛ لإطباقهم ظاهرًا على أنّ كلًّا من التضمّن والالتزام مستلزم للمطابقة؛ أمّا الشرطيّة فلما تقدّم من أنّ المجاز غير مستلزم للحقيقة.
وفيه تأمّل، إذ المطابقة دلالة اللفظ على تمام الموضوع له، والحقيقة: اللفظ المستعمل فيما وضع له؛ والمذكور في بيان الشرطيّة إنّما يتمّ إذا كانت دلالة اللفظ على معنى غير منفكّة عن استعماله فيه، أو عدم الاستعمال مستلزمًا لعدم الدلالة، لكن ليس على شيء منهما دليلٌ ولا على أحد منهما سبيل، فحينئذٍ يمكن أن يكون اللفظ المستعمل في غير الموضوع له دالًا على ما وضع له مع عدم استعماله فيه أبدًا، فهناك تتحقّق(2) المطابقة مع انتفاء الحقيقة، فلا يكون انتفاء الحقيقة مستلزمًا لانتفاء المطابقة، فلا يتمّ المرام.
ص: 179
ويمكن أن يقال في بيانها: إنّ مقتضى استلزام الالتزام للمطابقة مثلًا أنّه كلّما تحقّق الأوّل تحقّق الثاني، وعلى تقدير أن تكون دلالة المجازات على معانيها المجازيّة التزامًا، لا يلزم أن يكون الأمر كذلك؛ لجواز أن يكون المجاز مقترنًا بالقرينة المعيّنة للمراد بحيث يحصل الانتقال إلى المعنى المجازيّ من غير أن يحصل الانتقال إلى المعنى الحقيقيّ، فحينئذٍ يكون الالتزام متحقّقًا مع انتفاء المطابقة، فتأمّل.
فالحقّ: أنّ دلالة الألفاظ المجازيّة مطابقة، والمناقشة المذكورة(1) على تقديرها مدفوعة بحمل(2) الوضع المعتبر فيها على المعنى العامّ؛ وهو على ما سلف مرارًا: تعيين اللفظ للدلالة على المعنى مطلقًا، فعلى هذا كما يتحقّق كلّ من التضمّن والالتزام بالنسبة إلى المعنى الحقيقيّ، كذا يمكن تحقّقهما بالنسبة إلى المعنى المجازيّ أيضًا بأن يكون المعنى المجازيّ مركّبًا أو ملزومًا، فتكون دلالة ذلك المجاز على الجزء تضمّنًا وعلى اللازم التزامًا(3).
ص: 180
والعبارة المحكيّة عن المحقّق العضديّ ممّا لا يعتنى بها بعدما تبيّن فسادها؛ على أنّه يمكن أن لا يكون المراد منها ما سلف، بل يكون المراد: أنّ المعاني المجازيّة مدلولات التزاميّة بالنسبة إلى المعاني الحقيقيّة؛ لما اشتهر بينهم: أنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم(1).
فعلى هذا تكون المعاني المجازيّة بأسرها لوازم للمعاني الحقيقيّة، فلو كان المعتبر في الالتزام اللزوم الذهنيّ، يلزم خروج المعاني المجازيّة عن كونها مدلولات التزاميّة؛ لعدم لزوم تعقّلها مِنْ تعقّل المعاني الحقيقيّة بأنفسها، بل بمعونة القرينة.
فعلى هذا لا يلزم أن تكون دلالة الألفاظ المجازيّة عند استعمالها في المعاني المجازيّة وإرادتها منها، لا المعاني الحقيقيّة التزامًا؛ لوضوح أنّ المعنى الواحد قد يكون مدلولًا التزاميًّا في وقت ومطابقيًّا في آخر، وبالعكس باعتبارات مختلفة(2).
اعلم: أنّه يتوجّه في المقام إشكالان:
الأوّل: أنّه على تقدير أن لا تكون دلالة الألفاظ المجازيّة على المعاني المجازيّة
ص: 181
التزامًا، ينتقض طرد حدّ الالتزام بدخول تلك الدلالة فيه؛ إذ يصدق عليها أنّها دلالة اللفظ على الخارج اللازم للموضوع له.
والثاني: أنّ الحكم بكون الدلالة في المجازات مطابقة، ينافي ما تقدّم من أنّ المطابقة دلالة ابتدائيّة، أي بلا واسطة معنى، وهنا ليس كذلك؛ لأنّ الانتقال إلى المعاني المجازيّة كثيرًا ما يكون بعد الانتقال إلى المعاني الحقيقيّة، فلا يكون الانتقال إليها ابتدائيًّا بالمعنى المتقدّم.
ويمكن الجواب عن الأوّل من وجهين:
الأوّل: أنّا لا نسلّم أنّ مطلق الدلالة على الخارج اللازم التزام، بل فيما إذا كان الخارج غير مراد ومفهومًا بواسطة الملزوم المراد؛ ومعلوم أنّ الكلام في المعاني المجازيّة فيما إذا كان اللفظ مستعملًا فيها ومرادة بخصوصيّاتها، وكلماتهم في مقام التقسيم، حيث لم ينبّهوا على ذلك(1)؛ لعدم كون القصد هناك تعريف الدلالات حتّى يبالغ في ذكر القيود، بل المقصود تقسيمها إلى الأقسام المذكورة بحيث يشعر بالتعريف في الجملة، وما ذكروه فيما مسّت الحاجة إليه ردًّا على من زعم اعتبار
ص: 182
الإرادة في الدلالة على ما سلف قرينةٌ على ذلك.
وأيضًا ذكر في كثير من الكتب: أنّ التضمّن دلالة اللفظ على جزء الموضوع له، مع أنّ مطلق الدلالة على الجزء ليس من التضمّن في شيء، بل إنّما كانت تضمّنًا إذا كان الجزء غير مراد بخصوصه ومفهومًا في ضمن فهم الكلّ المراد كما عرفت، ولهذا يقال لها: التضمّن؛ لكونها في ضمن الدلالة على الكلّ، ومنه يظهر الحال في الالتزام.
والثاني: أنّك قد عرفت ممّا أسلفناه أنّ الوضع المأخوذ في المطابقة الوضع بالمعنى العامّ، فبالمقايسة يظهر أنّ الأمر في كلّ من التضمّن والالتزام أيضًا كذلك؛ فعلى هذا نقول: إنّا لا نسلّم أنّه يصدق على دلالة المجازات على المعاني المجازيّة أنّها دلالة اللفظ على الخارج عن الموضوع له بالمعنى المذكور؛ لوضوح أنّها دلالة على الموضوع له بذلك المعنى كما لا يخفى؛ وإنّما يكون خارجًا عن الموضوع له بالمعنى الخاصّ المختصّ بالحقائق، وليس الكلام فيه.
لكن(1) يتوجّه عليه: أنّه لو كان المراد من الوضع الّذي اعتبر خروج المدلول الالتزاميّ عنه الوضع بالمعنى العامّ، لامتنع تحقّق الالتزام بالنسبة إلى المعاني الحقيقيّة؛ لوضوح أنّ كلّ معنى لازم للمعنى الحقيقيّ يكون ذلك معنًى مجازيًّا بالنسبة إليه، فيتحقّق فيه الوضع بالمعنى العامّ، فلا يصدق في دلالة اللفظ
ص: 183
المستعمل في المعنى الحقيقيّ على لازمه أنّه دلالة على الخارج عن الموضوع له بالمعنى المذكور؛ لكونه موضوعًا له بالمعنى المذكور.
فحينئذٍ يفسد عليك ما أَذعَنْتَ به آنفًا من تحقّق الالتزام بالنسبة إلى المعنى الحقيقيّ ومن(1) أنّ المعاني المجازيّة مدلولات التزاميّة بالنسبة إلى الألفاظ الحقيقيّة، فينحصر إمكان الالتزام بالنسبة إلى المعاني المجازيّة(2)، وفساده ممّا لا يعتريه شكّ وريبة.
ومنه يظهر فساد القول بما تقدّم من أنّ دلالة المجازات على(3) المعاني المجازيّة مطابقة؛ لأنّ المفسدة المذكورة مترتّبة عليه، إلّا أن يراد من الوضع في حدّ المطابقة كلا المعنيين: الخاصّ بالنسبة إلى الحقيقة، والعامّ بالنسبة إلى المجاز، لكن يلزم حينئذٍ إمّا الجمع بين معنيي المشترك، أو بين المعنى الحقيقيّ والمجازيّ، ومع ذلك لا يندفع معه الانتقاض المذكور، بل هو مبنيٌّ عليه.
أو يراد من الوضع في حدّ المطابقة الوضع بالمعنى العامّ، وفي حدّ الالتزام الوضع بالمعنى الخاصّ أو الأعمّ؛ وهو مع تكلّفه وعدم اندفاع الانتقاض معهما، يكون الثاني منهما مستلزمًا لأحد الأمرين المذكورين(4) على التقدير الأوّل.
ص: 184
ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأنّا لا نسلّم لزوم المفسدة المذكورة من امتناع تحقّق الالتزام بالنسبة إلى المعاني الحقيقيّة على تقدير أن يكون المراد من الوضع في حدّي المطابقة والالتزام الوضع بالمعنى العامّ؛ لوضوح عدم التنافي بين المعنيين للوضع؛ لعدم منافاة العامّ للخاصّ؛ لعدم انفكاكه عنه.
فعلى هذا نقول: إنّ اللفظ المستعمل في المعنى الحقيقيّ يصدق على دلالته عليه أنّها دلالة على تمام الموضوع له بالوضع العامّ، لكنّ الوضع بالمعنى العامّ فيه في ضمن الوضع بالمعنى الخاصّ ومتّحد معه في الوجود ومتحقّق بتحقّقه؛ والالتزام بالنسبة إلى كلّ معنى يكون الوضع فيه تابعًا لوضع ذلك المعنى، فلو كان ذلك المعنى معنًى حقيقيًّا للّفظ، يكون الوضع بالمعنى العامّ فيه ما كان متحقّقًا بتحقّق الخاصّ وموجودًا بوجوده، فالالتزام بالنسبة إليه دلالة اللفظ على الخارج عن الموضوع له بالوضع بالمعنى العامّ الّذي يكون متحقّقًا فيه، فلا ينافي ثبوت الوضع بالمعنى العامّ الّذي لم يكن(1) كذلك بالنسبة إلى اللازم.
فعلى هذا لا يلزم انتفاء مطلق الوضع بالمعنى العامّ في المعاني الالتزاميّة مطلقًا، بل اللازم انتفاء الوضع بالمعنى العامّ المتحقّق في ضمن الخاصّ والموجود بوجوده في المعنى الالتزاميّ الّذي يكون بالنسبة إلى المعنى الحقيقيّ، وانتفاء الوضع بالمعنى
ص: 185
العامّ مطلقًا في المعنى الالتزاميّ الّذي يكون بالنسبة إلى المعنى المجازيّ، فلا يلزم امتناع تحقّق الالتزام بالنسبة إلى المعاني الحقيقيّة، مع كون المراد من الوضع الّذي اعتبر خروج المدلول الالتزاميّ عنه الوضع بالمعنى العامّ.
فاندفعت المفسدة المذكورة، مع عدم لزوم الجمع بين المعنيين للمشترك، أو المعنى الحقيقيّ والمجازيّ، لكن لم يندفع معه الانتقاض المذكور كما لا يخفى، فيكتفى في دفعه بالجواب الأوّل، فلا تغفل.
والجواب عن الثاني: بأنّ كون(1) المطابقة دلالة أوّليّة، ليس من الأمور الاتّفاقيّة حتّى يقاس(2) في المخالفة، وإنّما هو شيء ذكره بعض، وكيف؟! مع أنّه قد مرّ من المحقّق التفتازانيّ حكاية مطابقيّة المجازات عن الأكثر(3).
على أنّه يمكن أن يقال: إنّ دلالة المجازات على المعاني المجازيّة أيضًا ابتدائيّة بالمعنى المتقدّم؛ لأنّه وإن حصل الانتقال عند استماع اللفظ مع انتفاء ملاحظة القرينة إلى المعنى الحقيقيّ أوّلًا، ثمّ إلى المعنى المجازيّ، لكن لا يبعد أن لا يكون ذلك مُضرًّا بكون الدلالة على المعنى المجازيّ أوّليّة.
ص: 186
أمّا على(1) القول بأنّ الدالّ على المعاني المجازيّة اللفظ مع القرينة فظاهرٌ، إذ قبل ملاحظة القرينة وإن انتقل الذهن إلى المعنى الحقيقيّ، لكن ليس ذلك من الدالّ على المعنى المجازيّ، بل من جزئه قبل العلم بالقرينة الّتي هي الجزء الآخر من الدالّ، وبعد العلم بالمجموع وإن حصل العلم بالدالّ على المعنى المجازيّ، لكن حينئذٍ لا ينتقل الذهن إلى المعنى الحقيقيّ أوّلًا، ثمّ بواسطته إلى المعنى المجازيّ حتّى لا يكون الانتقال إلى المعنى المجازيّ ابتدائيًّا كما لا يخفى.
وأمّا على القول بأنّ الدالّ اللفظ بشرط القرينة فكذلك، إذ الدالّ على المعنى المجازيّ حينئذٍ ليس نفس اللفظ مطلقًا، بل مع ملاحظة القرينة، فقبل الملاحظة ليس علمًا بالدالّ، وبعدها لا يحصل الانتقال إلى المعنى الحقيقيّ أوّلًا، ثمّ بواسطته إلى المعنى المجازيّ، بل الانتقال حينئذٍ إلى المعنى المجازيّ، فتأمّل.
اعلم: أنّ في المقام إيرادًا آخر، وهو أنّ ما تقدّم من أنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم وإن اشتهر فيما بينهم، لكنّه غير صحيح على وجه العموم والإطلاق، بل إنّما يصحّ في قليل من أنواعه، وهو ما إذا كان اللفظ موضوعًا للملزوم واستعمل في لازمه، كما في قولك: «رعينا الغيث»، حيث يكون المراد منه لازمه، وهو النبات؛ وأمّا في غيره من الأقسام المتكثّرة فلا كما لا يخفى.
ص: 187
فكيف مع أنّه قد يكون الحال في المجاز على عكس ما ذكر بأن يكون اللفظ موضوعًا للّازم واستعمل في الملزوم، كما في قولك: «أمطرت السماء نباتًا»، فهناك يكون الانتقال من اللازم إلى الملزوم، فكيف يصحّ الحكم بأنّ مبنى المجاز على الانتقال من الملزوم إلى اللازم على الإطلاق؟!
وهذا لا دخل لكون الدلالة في المجازات مطابقة في ذلك، بل هو يؤكّده ويفسد القول بأنّها التزام، إذ الالتزام انتقال من الملزوم إلى اللازم، وليس الأمر في جميع المجازات كذلك كما عرفت، والفارق مفقود.
ويمكن الجواب عن ذلك: بأنّ كلّ مجاز لا بدّ له من العلاقة بينه وبين الموضوع له، وقد عرفت فيما سبق أنّ العلاقة اتّصال ما للمستعمل فيه بالموضوع له، والمراد باللزوم المعتبر عند علماء العربيّة هو اللزوم في الجملة، ولعلّ المقدار المذكور في تعريف العلاقة يكفي لتحقّق هذا اللزوم؛ وهذا مراد من قال: إنّ مرجع جميع العلاقات إلى اللزوم(1).
والحاصل: أنّ اللزوم المعتبر في هذا المقام اللزوم في الجملة، وهو أعمّ من أن يفهم الخارج بمحض حصول الموضوع له في الذهن، أو بعد الاطّلاع والتأمّل في القرائن كما في المجازات.
ص: 188
في واضع اللغات
الأوّل: توقيفيّة الجميع، بمعنى أنّ الوضع في جميع الألفاظ مستند إلى الله تعالى، وعلم العباد به إنّما هو بتوقيفه وإعلامه سبحانه؛ ولذا يسمّى هذا المذهب توقيفيًّا. وهو المنقول عن أبي الحسن الأشعريّ وابن فورك(1) وجماعة من الفقهاء(2).
والثاني: اصطلاحيّة الجميع، أي الواضع في الجميع مِنْ المخلوقين واحدٌ أو متعدّدٌ، فتكون اللغات على هذا التقدير من اصطلاحاتهم؛ ولهذا يقال: إنّها اصطلاحيّة، أي اصطلاح من المخلوقين؛ لافتقارهم في أمر معاشهم ومعادهم إلى المحاورات والمخاطبات، وذلك لا يتمّ إلّا بتعيين ألفاظ مخصوصة لمعاني معهودة.
ص: 190
وهو المحكيّ عن أبي هاشم(1) وأصحابه وجماعة من المتكلّمين(2).
والوضع على هذا التقدير إمّا من واحد من أهل كلّ لغة، أو من جماعة كذلك تواطئوا على وضعها لمعانيها، أو من واحد أو جماعة(3) بالنسبة إلى كلّ اللغات.
إن قلت: لا شبهة على القولين إنّما يكون علم غير الواضع باللغات من إعلام الواضع وإيقافه، فهلّا سمّي القولان توقيفيًّا مع اشتراك مقتضى التسمية بينهما؟
قلنا: التوقيفيّة اللغويّة وإن اشتركت بينهما، إلّا أنّها غير مقتضية للتسمية في الاصطلاح؛ لجريانه في تسمية التوقيف فيما إذا كان من قبل الشرع، فالمتحقّق على القول الثاني - وهو مطلق التوقيف - غير مقتض للتسمية، والمقتضى - وهو التوقيف الخاصّ - غير متحقّق.
والقول الثالث: التوزيع بأن يكون بعض اللغات توقيفيًّا والآخر اصطلاحيًّا.
ص: 191
وأرباب هذا القول قد افترقوا فرقتين، فبعضهم ذهب(1) إلى أنّ القدر الضروريّ المفتقر إليه في تعريف الاصطلاح توقيفيّ والباقي اصطلاحيّ، وهو ما ذهب إليه الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائنيّ(2) على ما حكاه بعضهم(3)، لكن صرّح جمعٌ بأنّ مذهبه في القدر المفتقر إليه في التعريف هو ما ذكر، وأمّا الباقي فيحتمل الأمرين من التوقيف والاصطلاح(4).
والفرقة الأخرى ذهبوا إلى عكس ذلك بأنّ القدر المفتقر إليه في التعريف اصطلاحيّ والباقي توقيفيّ(5).
ص: 192
والقول الرابع: التوقّف في ذلك؛ لعدم ما يوجب العلم ببعضها معيّنًا مع إمكان الجميع عقلًا، وهو المحكيّ عن القاضي أبي بكر والغزّالي(1)، واختاره العلّامة في النهاية بعد حكايته عن جمهور المحقّقين(2).
والقول الأوّل هو المختار، والمستند في ذلك وجوه:
منها: قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(3)، وجه الاستدلال: أنّه لا يجوز أن يكون المراد من الاسم في الآية ما هو المعروف بين النحاة؛ لأنّه عرفٌ خاصٌّ حادثٌ، فلا يجوز أن يكون محملًا لكلام الله سبحانه.
وأيضًا أنّ العلم بخصوص الاسم المصطلح عليه عندهم لا يصلح أن يكون
ص: 193
سببًا لتفضيل آدم على الملائكة كما يقتضيه سوق الآية.
ولأنّه لا شبهة في أنّ مِن فوائد تعليم الأسماء استعمالها في المخاطبات والمحاورات؛ والاقتصار بالأسماء في المحاورات من غير الاستمداد من الأفعال والحروف ممّا يتعسّر، بل ربّما يمكن دعوى تعذّره.
بل المراد منه إمّا ما يفهم منه في العرف العامّ، وهو على ما صرّح به جمع من المحقّقين كالفاضل البيضاويّ وغيره(1): اللفظ الموضوع لمعنى، أو معناه اللغويّ بناءً على اشتقاقه من «السمة»، أي العلامة، أو ما يعمّ الألفاظ وغيرها من أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات؛ لبعد أن يكون العلم بخصوص اللغات سببًا لتفضيله (علیه السلام) على الملائكة، وعلى جميع التقادير يثبت المرام(2).
واعترض عليه من وجهين:
الأوّل: بالنسبة إلى لفظ «التعليم»، تقريره: أنّ الاستدلال مبنيٌّ على كون المراد من التعليم التفهيم، وهو غير لازم؛ لجواز أن يكون المراد منه الإلهام، كما في قوله
ص: 194
تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾(1)، فحينئذٍ يكون المعنى: وألهم الله تعالى آدم بأن يضع الأسماء؛ أو الإقدار، أي: أقدره على وضعها(2).
سلّمناه، لكنّه غير مستلزم للمطلوب؛ لجواز أن يكون تعالى علّمه ما اصطلح عليه غيره قبل آدم، ويستفاد من النصوص الواردة عن أهل الخصوص وجود الخلق في الأرض قبل آدم (علیه السلام) وقد روى عليّ بن إبراهيم في تفسيره في الصحيح أو الحسن مثله عن مولانا الصادق (علیه السلام) أنّه قال:
إنّ الله تبارك وتعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم، فدخل في أمر(3) الملائكة إبليس، وإنّ(4) إبليس كان مع(5) الملائكة في السماء يعبد الله وكانت الملائكة تظنّ أنّه منهم ولم يكن منهم، فلمّا أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم، أخرج ما كان في قلب إبليس من الحسد، فعلم الملائكة عند ذلك أنّ إبليس لم يكن منهم(6).
فقيل له (علیه السلام): فكيف وقع الأمر على إبليس وإنّما أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم؟ فقال: كان إبليس منهم بالولآء(7) ولم يكن من جنس الملائكة؛ وذلك أنّ الله
ص: 195
خلق خلقًا قبل آدم وكان إبليس فيهم(1) حاكمًا في الأرض، فعتوا وأفسدوا وسفكوا الدماء، فبعث الله الملائكة، فقتلوهم وأسروا إبليس ورفعوه إلى السماء، فكان(2) مع الملائكة يعبد الله إلى أن خلق الله تبارك وتعالى آدم(3).
والنصوص الدالّة على وجود الجنّ والنسناس قبل آدم (علیه السلام) كثيرة(4).
أو علّمه تعالى ما وقع من ولده بعده من الاصطلاحات واللغات؛ لأنّ المستقبل والحال والماضي بالنسبة إليه تعالى سواء.
والحاصل: أنّ غاية ما يلزم بعد حمل «التعليم» على المعنى المذكور أن يكون(5) الأسماء ممّا علّمه الله تعالى آدم (علیه السلام) وهو أعمّ من أن يكون من موضوعاته تعالى أو موضوعات غيره، والعامّ لا دلالة له على الخاصّ، فلا يثبت المرام.
وعلى تقدير تسليم أن يكون الوضع مستندًا إلى الله تعالى، إنّما يجدي إذا ثبت أنّ الأسماء الّتي علّمها(6) الله تعالى آدم (علیه السلام) هي الأسماء المتداولة عندنا، وأنّى لكم إثبات ذلك؟!
وكيف؟! مع أنّه قد شاع وذاع حتّى خرق الأسماع أنّ اللغة العربيّة إنّما حدثت
ص: 196
في زمان إسماعيل (علیه السلام) وأنّ العرب من ولده(1)، ومعلوم أنّ النزاع إنّما هو في الألفاظ المستعملة في هذه الأزمان.
ويمكن الجواب: بأنّ حمل التعليم على ما ذكر مجاز والأصل في الاستعمال الحقيقة، فلا يصار إلى التجوّز إلّا مع القرينة الصارفة، وهي في المقام منتفية، وحمله على الإلهام في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ﴾(2) مع القرينة لا يوجب الحمل فيما نحن فيه عليه؛ لوضوح أنّ التجوّز لموجب لا يوجبه مع انتفاء الموجب.
على أنّ الحمل على الإلهام مطلقًا غير منافٍ للمرام؛ لجواز أن يكون الله تعالى واضعًا للألفاظ وألقى موضوعاته تعالى على آدم (علیه السلام) بالإلهام؛ وإنّما يكون منافيًا إذا كان التقدير: وألهم آدم أن يضع الأسماء، فيتعدّد التجوّز، والتجوّز الواحد مرجوح بالنسبة إلى ما لم يلزم فيه ذلك، فضلًا عن المتعدّد، فحمل التعليم على ظاهره أولى.
وأمّا حكاية الاصطلاح السابق أو اللاحق فبعيد.
أمّا أوّلًا: فلبعد استناد الله تعالى أفضليّة آدم من الملائكة إلى علمه بما اصطلح عليه غيره تعالى، وسيجيء ما يؤكّد ذلك.
وأمّا ثانيًا: فلأنّ التعليم في قول الملائكة فيما بعد ذلك في مقام الاعتذار:
ص: 197
﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا﴾(1)، الظاهر أنّه ليس في الاصطلاح السابق أو اللاحق، بل من الله سبحانه، فالمناسب أن يكون فيما نحن فيه أيضًا كذلك كما لا يخفى.
وأمّا ثالثًا: فلأنّ الظاهر من سوق الآية أنّ العلم بالأسماء صار سببًا لأفضليّة آدم من الملائكة -كما مرّت إليه الإشارة وسنتعرّض إليه مع بسط في العبارة- فلو كان ذلك التعليم تعليم اصطلاح سابق أو لاحق، يلزم أن يكون أهل ذلك الاصطلاح أيضًا أفضل من الملائكة؛ لتحقّق موجبه، وهو غير صحيح، فتأمّل.
وأمّا احتمال التغاير بين الأسماء الّتي علّمها الله تعالى آدم (علیه السلام) وبين المتداولة بيننا، فمدفوع بالأصل.
وحكاية حدوث لغة العرب في زمان إسماعيل (علیه السلام) وإن اشتهرت في الألسنة وصرّح به بعض الأجلّة(2)، إلّا أنّها من الأكاذيب المشهورة والأغاليط المعروفة؛ لأنّ الحميريّين والعمالقة(3) وقوم ثمود وعاد كلّهم من العرب، وقد كانوا قبل إسماعيل (علیه السلام) بمدّة متطاولة، ووردت في
ص: 198
النصوص(1): أنّ أوّل من تكلّم بالعربيّة آدم (علیه السلام) (2).
نعم، آل عدنان -وهم طائفة من العرب- من ولد إسماعيل (علیه السلام) (3).
ويمكن أن يكون الوجه في اشتهار تلك الحكاية هو أنّ ذرّيّة آدم (علیه السلام) كانوا عالمين بجميع تلك اللغات إلى زمن نوح، فلمّا أهلك الله الناس إلّا نوحًا (علیه السلام) ومَن معه في
ص: 199
الفلك، كانوا هم العارفين بتلك اللغات، فلمّا تفرّقوا اختار كلّ قوم منهم لغة، فتكلّموا بها وكان ما اختاروه غير لغة العرب، فبقيت غير مشهورة إلى زمان إسماعيل (علیه السلام) ثمّ اشتهرت في زمانه وتكلّم أولاده بها؛ ولذا اشتهرت حكاية حدوثها في زمانه (علیه السلام) .
والثاني: بالنسبة إلى لفظ (الأسماء)، وهو أنّ الاستدلال المذكور مبنيّ على كون المراد من الأسماء في الآية الألفاظ واللغات؛ وهو غير مسلّم؛ لجواز أن يكون المراد منها المسمّيات والحقائق، بل الظاهر ذلك لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملَائِكَةِ﴾(1)، بناءً على أنّه لو كان المراد منها الألفاظ لقيل: عرضها؛ لئلّا يلزم ارجاع الضمير المختصّ بذوي العقول إلى غيرهم.
والجواب عنه: أنّ حمل(الأسماء) على المعنى المذكور غير صحيح.
أمّا أوّلًا: فلأنّه معنى مجازيّ لا يصار إليه إلّا بعد قيام القرينة على ذلك، واحتمال إرادة المعنى المجازيّ من اللفظ لو كان مضرًّا بالاستدلال انسدّ باب الإفادة والاستفادة من الألفاظ، والضمير في (عرضهم) غير صالح لذلك؛ لرجوعه إلى المسمّيات، لكن لا لحمل(الأسماء) عليها، بل لكونها دالّة عليها التزامًا
ص: 200
كما لا يخفى، فالمرجع حينئذٍ متقدّمٌ معنىً، أو لكون الألف واللام في (الأسماء) عوضًا عن المضاف إليه الّذي هو عبارة عن المسمّيات كما في قوله تعالى: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾(1)، أي رأسه، فكأنّما يكون المرجع موجودًا لوجود عوضه، والمراد من المسمّيات ذوات الأشياء، وتذكير الضمير وكونه من الضمائر العائدة إلى العقلاء للتغليب.
إن قلت: إنّ حمل الاسم على المسمّى كما يكون مخالفًا للظاهر، كذلك ارجاع الضمير إلى غير المذكور في الكلام، فما وجه ترجيح الثاني على الأوّل؟
قلنا: وجهه أكثريّته من الأوّل وأنّ خلاف الظاهر على الأوّل أشدّ، سيّما على تقدير جعل الألف واللام عوضًا لما ذكر وارجاع ضمير(كلّها) في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(2) إليها، وأنّه لا معنى لتعليق التعليم بالمسمّيات إلّا بحذف مضاف(3)؛ مضافًا إلى ما ستقف عليه في الوجه الثاني.
وأمّا ثانيًا: فلقوله تعالى: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾(4)، وقوله تعالى: ﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾(5) إلى آخره، بناء على أنّه لا شبهة في أنّ الظاهر من «الأسماء» المضاف في هذه المواضع: الألفاظ، لا المسمّيات، إذ لو كان المراد
ص: 201
منها تلك(1) لما افتقر إلى ذكر الأسماء، بل يكتفي فيها بقوله: أنبئوني بهؤلاء، وأنبئهم بهم، وأنبأهم بهم كما لا يخفى.
إن قلت: كون المراد من (الأسماء) في المواضع المذكورة الألفاظ وإن كان مسلّمًا، لكن لا يلزم منه أن تكون «الأسماء» في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ﴾ كذلك؛ لإمكان أن يكون المراد هناك المسمّيات مع كون المراد هيهنا الألفاظ، فتكون الأسماء التعليميّة مغايرة للأسماء المنبأ بها، بأن يكون الله تعالى علّم آدم المسمّيات، وهو بنفسه عيّن لها أسماء مخصوصة، ويكون استنباء الله تعالى من الملائكة بالأسماء المعيّنة من آدم (علیه السلام) فحينئذٍ لا يلزم استناد الوضع في الألفاظ واللغات إلى الله تعالى.
قلنا: قد ذكر لفظ (الأسماء) في أربعة مواضع متقاربة، وحيث قد ظهر إرادة الألفاظ في ثلاثة منها، يظهر منه إرادتها في ذلك الموضع أيضًا كما لا يخفى.
وأيضًا أنّه تعالى ذكر أوّلًا أنّه (عزوجلّ) علّم آدم الأسماء، ثمّ عرض وأظهر المسمّيات على الملائكة، ثمّ إنّه استنبأ منهم بأسمائهم، ثمّ ذكر عجز الملائكة عن الإنباء وأمر آدم بإنباء أسمائهم، كما قال سبحانه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ
ص: 202
بِأَسْمَائِهِمْ﴾الآية(1).
والظاهر من سوق الآية بحيث لا يجحده إلّا العادل عن جادّة الإنصاف والسالك مسلك الجور والاعتساف، أنّ الأسماء الّتي أمر الله تعالى آدم بإنبائها هي الّتي علّمها أوّلًا، وإلّا لما [كان] حاجة إلى ذكر أنّه تعالى علّم آدم الأسماء أوّلًا كما لا يخفى، وحيث قد ظهر أنّ الأسماء الّتي أمره تعالى بإنبائها هي الألفاظ، تعيّن إرادتها في: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ﴾ أيضًا، فيثبت المرام.
ومن عجيب ما وقع لبعض(2) في هذا المقام [من] منع تماميّة الاستدلال بالآية بحمل(الأسماء) على أسماء الله الحسنى، وكأنّه غفل عمّا ذكره الله تعالى بعده، وكيف كان لا شبهة في فساده.
وما يدلّ على أنّ المراد من (الأسماء) في الآية الألفاظ واللغات، ما رواه شيخنا أبو الفضل عليّ بن الحسن بن الفضل الطبرسيّ -نوّر الله مرقده- في كتاب «الآداب الدينيّة» عن المعلّى بن الخنيس، عن مولانا الصادق (علیه السلام) في حديث طويل من جملته أنّه (علیه السلام) قال: يابن خنيس، ألا أدلّك على ما هو أبين من هذا؟ قلت: بلى يابن رسول الله، قال: خصّ الله تعالى آدم من تعليم كلّ شيء، قال الله (عزوجلّ) (3): ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ إلى قوله: ﴿فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ﴾(4)؛ وذلك أنّه (عزوجلّ) علّمه اسم كلّ شيء
ص: 203
قبل أن يخلق ذلك الشيء، حتّى علّمه اسم الملح بجميع(1) اللغات(2).
الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة، ودلالته على ما ذكرنا ممّا لا يخفى.
نعم، يمكن الإيراد في المقام من وجه آخر أعضل ممّا سلف، وهو أنّ الظاهر من سوق الآية الشريفة على ما أسلفنا إليه الإشارة أنّ العلم بالأسماء من آدم (علیه السلام) وعدم العلم من الملائكة صار موجبًا لأشرفيّته وأفضليّته منهم؛ وهو إنّما يصلح لذلك إذا كان الوضع فيها مستندًا إلى آدم (علیه السلام) ويكون ذلك من مخترعاته ومبتدعاته، حيث تمكّن من هذا الاختراع الغريب المشتمل على دقائق الحكم والابتداع العجيب المتضمّن للطائف البدع، بخلاف الملائكة.
وأمّا إذا كان الوضع فيها مستندًا إلى الله تعالى وكان علم آدم بها بإيقافه وأعلامه تعالى فلا، إذ الإيقاف والإعلام لو كان متوجّهًا بالنسبة إليهم لعلموها، والفضيلة والشرافة إنّما هو على هذا التقدير لله سبحانه، ومعلوم أنّه على أشرف الأنحاء في الذات والصفات.
نعم، إنّ العلم بالتعليم إنّما يصلح سببًا لأفضليّة العالِم من غيره إذا كان العلم من العالم بجدّه وكدّه وجهل غيره بتقصيره وترك طلبه، وكون المقام من هذا القبيل يدفعه سوق الآية، مضافًا في الثاني إلى الأمور الخارجة.
ص: 204
لا يقال: إنّ ذلك يمكن أن يكون للتفاوت في الاستعداد بأنّ آدم (علیه السلام) كان له استعداد للعلم بتلك المعلومات وبسببه(1) اختصّ بالتعليم، بخلاف الملائكة، فإنّه ليس لهم ذلك الاستعداد، فعلى هذا لا شبهة في صلاحيّة العلم وإن كان بالتعليم للأفضليّة.
لأنّا نقول: إنّ أصل المطلب وإن كان مسلّمًا، لكن كون المقام من هذا القبيل ممنوع؛ لوضوح أنّ اللغات ليس ممّا لا يكون للملائكة استعداد العلم بها.
ويمكن أن يقال: إنّ الإيراد المذكور متوجّه على قوله سبحانه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(2)، سواء كان الوضع مستندًا إليه سبحانه، أم لا؛ لأنّه تعالى نسب تعليم آدم (علیه السلام) إليه (عزوجلّ)، والإيراد متوجّه عليه سواء حمل التعليم على معناه أو الإلهام أو الإقدار، فإن استند إلى التفاوت في الاستعداد يدفع بأنّه كما أنّ العلم باللغات ليس ممّا لا يكون للملائكة استعداد به، كذلك الحال بالنسبة إلى الوضع فيها، فلا يصلح أن يكون وضع اللغات من آدم على تقديره بعد صدور الإلهام به منه سبحانه سببًا لأفضليّته من الملائكة.
نعم، إنّما يصلح ذلك فيما إذا توجّه الإلهام بالنسبة إليهم ولم يتحقّق الوضع منهم، ومن أين يعلم ذلك؟!
والحاصل: أنّ محطّ الإشكال نسبة التعليم إلى الله سبحانه، مع أنّ سوق الكلام يدلّ على أنّ ذلك العلم موجب للأفضليّة، سواء كان الوضع في المعلومات مستندًا
ص: 205
إليه سبحانه، أو إلى آدم (علیه السلام)؛ فهذا الإيراد على التقديرين متوجّه، لكنّ الظاهر ممّا أسلفناه الأوّل، فلا يرفع اليد عنه بالإيراد المتوجّه على تقدير عدمه أيضًا عملًا بمقتضى ما تقدّم، فتأمّل(1).
ويمكن الجواب عن أصل الإيراد: بأنّه تعالى لمّا أخبر الملائكة بأنّه جاعل في الأرض خليفة، هَجَسَ(2) في نفوسهم أنّ الخليفة لو كانت من غيرهم لتحقّق في الأرض الفساد وسفك الدماء؛ لِمَا شاهدوا من الخلق الّذي كان قبل آدم على ما في الحديث السابق، وأنّها لو كانت منهم لما يقع فيها شيء من ذلك مع اعتقادهم باستحقاقهم لخلافة الأرض وكدخدائيّتها(3) والسياسة فيها، فقالوا: ﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾(4)، لا اعتراضًا، بل ترغيبًا لكون الخليفة منهم لفرط رغبتهم في ذلك.
ص: 206
ولمّا كان الله تعالى عالمًا بعدم صلاحيّتهم لكدخدائيّة الأرض وعمارتها والسياسة فيها لافتقارها إلى تدابير وأفعال وأمور لا يمكن صدورها إلّا من بني آدم مع سائر الحِكَم في خلقه الّتي من جملتها ظهور شقاوة إبليس، قال أوّلًا في جوابهم بعنوان الإجمال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾(1) في كون الخليفة من غيركم وعدم كونه منكم.
ثمّ خلق آدم وعلّمه الأسماء -أي جميع اللغات- بأنّ كلّ لفظ معناه ماذا، وخواصّ المسمّيات وما يفتقر إليه في كدخدائيّة الأرض وعمارتها من الصناعات المختلفة وغيرها.
ثمّ عرض المسمّيات على الملائكة فقال: ﴿أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ﴾(2)، ثمّ بعد عجزهم أمر آدم (علیه السلام) بإنبائهم، فلمّا أنبأهم بأسمائهم وخواصّهم وما يفتقر إليه في عمارة الأرض والسياسة فيها من الحِرَف والصنائع ولطائف الحيل والتدابير، ظهر عليهم أنّهم ما كانوا صالحين لكدخدائيّة الأرض وخلافتها.
فعلى هذا لا يكون نفس العلم بتلك الأسماء سببًا للأفضليّة؛ إذ المفروض أنّ العلم بتعليم الله سبحانه، ولو كان التعليم متوجّهًا بالنسبة إليهم أيضًا، لتمكّنوا من العلم، بل العلم بها مع صلاحيّته للكدخدائيّة واستحقاقه للخلافة والسياسة بخلافهم، فلمّا انكشف عليهم حقيقة الحال وتبيّن لهم ما خفي عنهم في مقام
ص: 207
السؤال، قال سبحانه: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾(1).
ومن هنا استبان ثبوت الأفضليّة لآدم (علیه السلام) مع كون الوضع مستندًا إليه تعالى، فاندفع الإيراد، لكن بناءً عليه يتوجّه الاعتراض في بعض المطالب السالفة يظهر(2) للمتأمّل في المباحث السابقة والآتية.
ويمكن أن يجاب أيضًا: بأنّه تعالى لمّا خصّ التعليم بآدم (علیه السلام) دون الملائكة، بل أمر بإنبائه لهم، علم أنّ له مزيّة عليهم، وإلّا لما [كان] وجه لهذا الاختصاص.
والقول بأنّ العلم باللغات وخواصّ المسمّيات ليس ممّا لا يكون للملائكة له استعداد، من قبيل الاجتهاد في مقابلة النصّ والاستبعاد بعد قيام الدلالة، بناءً على أنّ الظاهر من سوق الآية على ما أسلفناه غير مرّة أنّ خصوص العلم موجب للأفضليّة، فتأمّل(3).
ثمّ إنّ هنا إيرادًا آخر، وهو أنّ المفروض أنّه تعالى علّم آدم (علیه السلام) اللغات
ص: 208
بأسرها، فما وجه اختلاف ذرّيّته فيها بحيث إنّ أهل كلّ لغة في الأغلب لا يفهم لغة الآخر(1)؟
والجواب عنه قد ظهر ممّا سلف في وجه اشتهار حدوث لغة العرب في زمان إسماعيل (علیه السلام) وهو أنّه يمكن أن تكون ذرّيّة آدم (علیه السلام) كانوا عالمين بجميع تلك اللغات إلى زمن نوح (علیه السلام) فلمّا أهلك الله الناس إلّا نوحًا ومن تبعه كانوا هم العارفين باللغات بأسرها، لكن لمّا تفرّقوا اختار كلّ فرقة منهم لغة واحدة تسهيلًا للأمر، ثمّ بقيت تلك اللغة في أعقابهم وجهلوا غيرها.
ويمكن أن يكون الأمر كذلك قبل نوح (علیه السلام) أيضًا بأنّ كلّ فرقة في القرن الأوّل اختاروا لغة واحدة مع علمهم بغيرها أيضًا تسهيلًا للأمر؛ إذ التكلّم بلغة واحدة أسهل من التكلّم بلغات مختلفة، فلمّا انقضى القرن الأوّل مثلًا كان لا يعلم أعقاب كلّ واحدة من تلك الفرقة إلّا اللغة الواحدة، فمن هذا السبب اختلفت اللغات.
وأيضًا يمكن استناد الاختلاف إلى آدم (علیه السلام) أيضًا بأنّه لم يكن علّم كلّ واحد من ولده إلّا لغة واحدة، فبقيت تلك الواحدة في أعقاب ذلك الواحد، وهكذا في باقي اللغات(2).
ص: 209
ومنها: قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ﴾(1).
وجه الاستدلال أنّه ليس المراد من الألسنة الجارحة المخصوصة؛ لكون بدائع الصنع في غيرها أشدّ وأكثر، فكان ذكره في جملة الآيات أولى وأجدر، فيحمل على اللغات تسمية للمسبّب باسم سببه(2)، فيكون المعنى: أنّ اللغات المختلفة الّتي عندكم من جملة آيات الله سبحانه، فيكون الوضع فيها مستندًا إليه سبحانه، وهو المطلوب(3).
أورد عليه: أنّ تعذّر حمل الألسنة على الجارحة المخصوصة وإن كان مسلّمًا، لكنّه لا يوجب المصير إلى ما ذكر؛ لإمكان إرادة الإقدار من الآية، والحَمْلان سيّان في كونهما آية، فإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال(4).
ص: 210
ويمكن الجواب عنه: بأنّ الإقدار إمّا يكون ممّا يحمل عليه الألسنة، كما يستفاد من كلام العلّامة حيث قال:
وليس حمل الألسنة على اللغات أولى من حملها على الإقدار عليها(1).
أو لا، بل يقدّر الإقدار في الآية.
وفي كلّ منهما نظر.
أمّا في الأوّل فلأنّ مقتضى حمل اللفظ على معنى إرادته منه، فعلى هذا يكون معنى الآية: ومن آياته اختلاف إقداركم؛ وهذا لا معنى له، إلّا أن يجعل المصدر مضافًا إلى المفعول، والفاعل محذوفًا راجعًا إليه تعالى، وحينئذٍ وإن كان المعنى صحيحًا، لكن يطالب بالعلاقة المصحّحة للتجوّز بينهما.
وعلى فرض تحقّقها نقول: إنّ من القواعد المسلّمة تعيّن الرجوع إلى أقرب المجازات وأرجحها عند تعذّر الحمل على الحقيقة، ولا شبهة في أولويّة حمل الألسنة على اللغات من حملها على الإقدار؛ لأنّ استعمال اللسان في اللغة قد بلغ في الكثرة حدًّا يتوهّم أنّها من المعاني الحقيقيّة، كما يقال: فُلان خاطبني بلسان عربيّ، وما أفهم لسان زيد، ولسان أهل هذا البلد فارسيّ، ولسان الترك ثقيل صعب، وغير ذلك.
لا يقال: إنّ هذا إنّما هو إذا كان المراد مطلق الإقدار، وأمّا إذا أريد الإقدار على
ص: 211
التكلّم باللغات فلا، إذ العلاقة حينئذٍ الحاليّة، أي حاليّة المستعمل فيه للموضوع له، أي الجارحة المخصوصة.
لأنّا نقول: لا معنى لحلول الإقدار على التكلّم في اللسان كما لا يخفى؛ وإنّما الحالّ على فرض التسليم القدرة عليه، وليس الكلام في ذلك، وعلى فرض التسليم إنّما يندفع به المنع الأوّل، وأمّا الثاني فعلى حاله.
ثمّ على تقدير الإغماض عن الجميع لا يكون منافيًا لأصل المطلب؛ لوضوح أنّ الإقدار على التكلّم باللغات لا يستلزم أن لا يكون الوضع فيها مستندًا إليه تعالى كما لا يخفى، فتأمّل.
إلّا أن يحمل الألسنة على الإقدار بوضعها، فحينئذٍ وإن اندفع به الأخير، لكنّ الأوّلين على حالهما؛ إذ الإقدار إنّما هو فعل الله سبحانه، لا فعل الناس، كخلق السماوات والأرض، فلا معنى لحلوله في الجارحة المخصوصة، وعلى تقدير أن يكون المراد القدرة على الوضع، فهو مع منافاته لسوق الآية أيضًا كذلك؛ إذ القدرة على الوضع إنّما هو حالّ في الشخص، لا في الجارحة، والأمر في أقرب المجازات كما تقدّم.
وأمّا في الثاني: فلأنّ التقدير في الآية حينئذٍ يكون: ومن آياته الإقدار على اختلاف ألسنتكم، أو إقداركم على ذلك، أو إقداره إيّاكم عليه، وأيّ ما كان لا بدّ فيه من حمل الألسنة على اللغات؛ لما تقدّم، فالتجوّز في الألسنة بحملها على اللغات مشترك في المقامين مع التضمين والإضمار في الثاني، ولا شبهة في أنّ المصير إلى التجوّز من غير إضمار أولى من المصير إليه معه كما لا يخفى، فيتمّ المطلوب.
ص: 212
إن قلت: لا نسلّم سلامة الكلام من الإضمار على التقدير الأوّل، أي مع عدم حمل الآية على الإقدار أيضًا، إذ [معنى] الكلام حينئذٍ: ومن آياته خلق السماوات والأرض ووضع اختلاف ألسنتكم، أي اللغات المختلفة.
قلنا: هذا الإضمار ممّا لا مخلّص(1) عنه على التقديرين؛ لما عرفت من أنّه بعد إرادة الإقدار من الآية يكون التقدير: ومن آياته إقداركم على التكلّم باللغات، أو على وضعها، بخلاف ذلك، فحمل الألسنة على اللغات على ما ذكر في الاستدلال أولى، بل الأمر في هذه الآية على زعمي القاصر أسهل من الآية السابقة، عكس ما توهّمه جماعة، فيكون المستفاد من الآية حينئذٍ أنّ اللغات المختلفة كخلق السماوات والأرض من آيات الله سبحانه(2)؛ ولمّا كان الخلق في السماوات والأرض مستندًا إليه، يظهر منه بمقتضى السياق أنّ الأمر في اللغات المختلفة أيضًا كذلك، فيتمّ الاستدلال.
وبالجملة: لا شبهة في أولويّة الحمل المذكور في مقام الاستدلال من الاحتمال المذكور آنفًا.
لكن هنا احتمال آخر يمكن أن يكون محملًا للآية، وهو أن يكون المراد اختلاف اللهجة من الأشخاص ولو كانوا من أرباب لغة واحدة، حيث إنّه لا يشتبه
ص: 213
صوتان ولو كانا من أخوين في لفظٍ واحدٍ في لغة واحدة، ففيه من غرائب الصنع وعجائب الفطرة ما لا يخفى على ذي مسكة؛ وهو أدلّ على القدرة؛ لأنّ بدائع الصنع فيه أكثر وغرائب الفطرة فيه أكمل، إذ الاختلاف هنا في كلّ شخص من الأشخاص وهناك في كلّ فرقة من الفرق وطائفة من الطوائف.
فعلى هذا لا دخل للآية فيما نحن فيه، لكنّه مخالف للظاهر، إذ لا شبهة في بُعد إرادة هذا المعنى والتفاوت من الاختلاف في قوله تعالى: ﴿وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ﴾(1)، فلا يقدح مثل هذا الاحتمال في الاستدلال.
ومنها: أنّه لو لم تكن اللغات توقيفيّة؛ لما توجّه الذمّ في التسمية من غير جهة التوقيف، والتالي باطل، أمّا الشرطيّة فظاهرة، وأمّا بطلان التالي فلقوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾(2)، حيث يفهم منه المذمّة في التسمية من قبل أنفسهم، فلو لم تكن توقيفيّة لما توجّه ذلك؛ وبعبارة أخرى: إنّ المذمّة مفهومة من الآية في تسمية مسمّيات معيّنة من غير جهة التوقيف، فلو لم تكن التسمية توقيفيّة لما [كان] وجه لذلك.
ومنها: قوله تعالى: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾(3)، وجه الاستدلال: أنّ كلمة
ص: 214
الموصول للعموم، فمدلول الآية حينئذٍ: أنّ كلّ معلومات الإنسان إنّما هو بتعليم الله سبحانه، فيثبت منه المرام.
ومنها: قوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾(1)، و﴿تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾(2)، والعموم في الآيتين يشمل اللغات أيضًا.
وهذه الآيات الثلاث قد نقل العلّامة في النهاية(3) الاستدلال بها عن أصحاب هذا القول، وفيه من الضعف ما لا يفتقر إلى البيان.
أمّا في الأوّل؛ فلأنّ المراد إمّا مطلق التسمية، أو تسمية خاصّة.
وعلى الأوّل فالشرطيّة مسلّمة، لكن بطلان التالي ممنوع، والآية غير دالّة على ذلك كما ستقف عليه.
وعلى الثاني نمنع الشرطيّة؛ لجواز أن لا يكون مطلق اللغات توقيفيّة، ومع ذلك لم يجز إطلاق بعض الأسماء على بعض المسمّيات كما لا يخفى، والذمّ في الآية الشريفة إنّما هو في إطلاق اسم الإله ونحوه على الأصنام، وأين ذلك من المرام؟!
وعلى تقدير تسليم أن لا يكون المراد من الأسماء في قوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ﴾(4) إلخ ما ذكر، نمنع توجّه المذمّة باعتبار التسمية، بل إنّما هي لعبادة تلك
ص: 215
المسمّيات واعتقاد إلهيّتهم، كما يظهر ذلك من صدر الآية وقبلها، وهو قوله تعالى: ﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا﴾(1). إلخ
وأمّا في الثاني: فلانّا لا نسلّم أنّ مدلوله أنّ كلّ معلومات الإنسان إنّما هو بتعليم الله سبحانه، بل ما لا يعلم من قبل نفسه؛ لوضوح أنّ عموم الموصول إنّما هو في صلته، فالاستدلال إنّما يتمّ إذا علمنا أنّ العلم باللغات ليس ممّا علمه الإنسان بنفسه؛ وكونها كذلك متوقّف على الاستدلال بالآية، بناءً على جعلها دليلًا للمطلوب، فيلزم الدور، فتأمّل.
وأمّا في الثالث: فللقطع بعدم شمول الآيتين للّغات؛ لعدم تحقّق لغة الترك ونحوها في الكتاب، وأيضًا أنّ «الكتاب» في قوله: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ﴾(2) إلخ، عبارة عن القرآن، فلو كانت اللغات داخلة فيه بحيث يثبت التوقيف، يلزم أن لا يكونوا(3) قبل نزول القرآن عالمين بتلك اللغات، وفساده غنيّ عن البيان.
وبالجملة: إنّ ضعف التمسّك بالآيات المذكورة ممّا لا ارتياب فيه ولا شكّ يعتريه.
ص: 216
واستدلّ لذلك أيضًا بأنّ اللغات لو كانت اصطلاحيّة؛ لامتنع العلم بشيء منها، وبطلان التالي ممّا يشهد به الوجدان، وظهوره أغنى عن البيان.
أمّا الشرطيّة فلأنّه على تقدير اصطلاحيّة الجميع لو أريد تعليم بعض منها؛ لافتقر إلى التوصّل بلفظ آخر بأن يقال: إنّ هذا اللفظ موضوع لذلك المعنى، أو وضعته لذلك، أو معناه ذلك، وهذه الألفاظ الّتي قد ذكرت في مقام البيان أيضًا اصطلاحيّة، بناءً على القول ببطلان الدلالة الذاتيّة، ففهم المعاني منها إمّا بواسطة اللفظ الأوّل الّذي ذكرت في بيانه، أو بواسطة لفظ آخر وهكذا إلى غير النهاية، فيلزم إمّا الدور أو التسلسل، وكلاهما مستحيل، والمتوقّف على المستحيل مستحيل(1).
والجواب عنه: أنّ ذلك إنّما يلزم إذا كان طريق الاستفادة والإفادة منحصرًا في الألفاظ، وفساده ممّا لا يخفى؛ لحصولهما بالترديد والتكرير بالقرائن والإشارة، كتعليم الأطفال لغة الآباء.
على أنّ الإيراد على تقدير تسليمه لا اختصاص له باصطلاحيّة اللغات؛ لوروده على التوقيف أيضًا، وتعليم العباد بوضع الألفاظ إمّا بطريق الوحي، أو بخلق الأصوات في بعض الأجسام ليصوّت بذلك، وعلى التقديرين يتوجّه
ص: 217
الإيراد المذكور، فيجاب بما ذكر.
ويمكن التخلّص هنا بنحو آخر أيضًا، وهو أنّه تعالى يخلق علمًا ضروريًّا في قلوبهم ليحصل منه التفاهم.
واستدلّ القائلون باصطلاحيّة اللغات من وجهين: نقليّ وعقليّ.
أمّا الأوّل فهو قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾(1).
وجه الاستدلال أنّ المراد باللسان اللغة، فمدلول الآية كون الرسول -المرسل إلى كلّ قوم- بلغتهم، ومقتضى ذلك سبق لغة كلّ قوم على إرسال الرسول إليهم، فلو كانت اللغات توقيفيّة يلزم أن يكون مسبوقة به؛ لأنّ العلم بالأمور التوقيفيّة لا يتحصّل إلّا بالإرسال، فيلزم أن يكون الشيء الواحد سابقًا على شيء ومسبوقًا به، وهو محال(2).
والجواب عنه: لا نسلّم أنّ مقتضى الآية ما ذكر؛ لوضوح أنّ من جملة الرسل آدم (علیه السلام)؛ ومعلوم أنّه حين الإرسال لم يكن له قوم، فضلًا عن لغتهم المتفرّعة على
ص: 218
وجودهم، فتحمل الآية على أنّ المراد منها انتفاء المغايرة بين لغة الرسول وقومه، سواء كانت تلك اللغة من الأمور التوقيفيّة، أم لا؛ فعلى هذا لا تكون الآية منافية للتوقيف ومثبتة للاصطلاح كما لا يخفى(1).
إن قيل: إنّ في الآية ظاهرين، أحدهما: النكرة الواقعة في سياق النفي، والثاني: أنّ إرسال كلّ رسول مسبوق بلغة قومه؛ وإبقاؤهما على حالهما غير ممكن؛ لما مرّ من أنّ من جملتهم آدم (علیه السلام) وهو حين الإرسال لم يكن له قوم فضلًا عن مسبوقيّته بلغتهم، فلا بدّ لدفع المحذور من صرف أحدهما والحمل على خلاف الظاهر، وهو كما يمكن بما ذكر يمكن بتخصيص الرسول بغير آدم (علیه السلام) أيضًا، بل الثاني أولى لأولويّة التخصيص من المجاز، ولعلّ الاستدلال مبنيّ عليه.
قلنا: هذا وإن كان مسلّمًا، لكنّه لا يجدي في مقام الاستدلال، إذ مع تخصيص الرسول بغير آدم (علیه السلام) وإن أمكن إرادة الظاهر الثاني بأنت تكون لغة كلّ قوم سابقة على إرسال الرسول إليهم، إلّا أنّ اللغات على تقدير توقيفيّتها لا يلزم أن تكون مسبوقة بالنسبة إلى ذلك الرسول المرسل إليهم، بل بالرسول في الجملة، فلا يلزم توقّف الشيء على نفسه.
توضيح ذلك أنّه على تقدير توقيفيّة اللغات يمكن أن يكون قد أوقفها الله تعالى آدم (علیه السلام) كما مرّ في قوله سبحانه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾(2)، ثمّ تعلّم ولده منه
ص: 219
بتعليمه إيّاهم، فتكلّم كلّ طائفة منهم بلغة اختاروها من بين اللغات، ثمّ أرسل الله تعالى رسولًا بلسان القوم المرسل إليهم، فلا يكون إرسال الرسول إلى قوم بلسانهم منافيًا للتوقيف.
والحاصل: أنّ المنافي للتوقيف على فرض التسليم -وهو حمل (رسول) في الآية على عمومه بحيث يشمل آدم وغيره (علیهم السلام) - غير ممكن، والممكن -وهو حمله على غيره- غير منافٍ.
على أنّه يمكن منع التنافي على تقدير العموم أيضًا، أمّا بالنسبة إلى غير آدم (علیه السلام) فقد ظهر، وأمّا بالنسبة إليه فبأن يكون الله تعالى أوقفه على اللغات كلّها، ثمّ خلق الله تعالى حوّا وأولادهما وهم يتكلّمون بتلك اللغات، ثمّ صار رسولًا إليهم، فعلى هذا تكون الآية محمولة على ظاهرها، ومع ذلك لا يثبت منه اصطلاحيّة اللغات ولا بطلان توقيفيّتها.
وأمّا الثاني فهو ما نقله العلّامة - أعلى الله مقامه - في النهاية(1) من أنّ اللغات لو كانت توقيفيّة لكان إيقافه إلى المخلوق إمّا بخلق العلم الضروريّ بأنّه تعالى وضع تلك الألفاظ لمعانيها، أو لا؛ وكلاهما فاسد.
أمّا الأوّل فلأنّ خلق ذلك العلم الضروريّ إمّا في العاقل أو غيره، والأوّل باطل لاستلزامه أن يكون العلم به تعالى ضروريًّا.
ص: 220
أمّا الملازمة فلأنّ وضعه تعالى اللغات وصف له والعلم بالصفة مسبوق بالعلم بالموصوف وفرع له، فالعلم الضروريّ بالوصف يستلزم أن يكون العلم بالموصوف كذلك.
وأمّا بطلان التالي فلاستلزامه أن لا تكون المعرفة مكلّفًا بها، وبطلانه ممّا يشهد به العيان وضرورته كفت عن إقامة البرهان؛ وكذلك الثاني لامتناع أن يخلق في غير العاقل علمًا ضروريًّا بالألفاظ ومناسبتها وتراكيبها العجيبة.
وأمّا الثاني فلافتقار السامع حينئذٍ في كون ما سمعه موضوعًا بإزاء معناه إلى طريق وننقل الكلام إليه، فإمّا أن يدور، أو يتسلسل، وكلاهما فاسد.
ولعمري إنّ هذا الاستدلال أوهن من بيت العنكبوت وإنّه لأوهن البيوت؛ لأنّا نختار أنّ إيقافه تعالى بخلقٍ علمٌ ضروريٌّ في العاقل.
قوله: «إنّه يستلزم العلم الضروريّ بالله تعالى»، إن أريد استلزامه العلم الضروريّ بحقيقة الله تعالى وكنه ذاته الأقدس، ففساده ممّا لا يفتقر إلى البيان ووضوحه يعوق أن ينعطف إليه صوب العنان؛ وإن أريد استلزامه العلم الضروريّ بوجوده تعالى وتحقّقه سبحانه، فهو مسلّم، وما ذكر في إبطاله مغالطة منشؤها الخبط في الحيثيّات والخلط في اختلاف الجهات.
وإن أردت أن يظهر لك حقيقة الحال فاعلم: أنّا نقول بناءً على التوقيف: إنّ آدم (علیه السلام) علم اللغات بإيقافه سبحانه، ولو سلّم أنّ علمه بها بخلق علم ضروريّ فيه
ص: 221
بأنّ واضعها الله سبحانه واستلزامه العلم الضروريّ بوجوده سبحانه، فغاية ما يلزم من ذلك العلم الضروريّ لآدم (علیه السلام) بوجوده تعالى، وهو مسلّم.
قوله: «إنّه يستلزم انتفاء التكليف بالمعرفة»، إمّا أن يكون المراد استلزامه انتفاء التكليف بالنسبة إلى غير آدم (علیه السلام) أو بالنسبة إليه.
والأوّل ضروريّ البطلان بديهيّ الفساد؛ ضرورة أنّ العلم الضروريّ لآدم (علیه السلام) بوجوده سبحانه لا يستلزم أن لا يتوجّه الأمر بالمعرفة إلى غيره ممّن لا يحصل لهم معرفة أصلًا كما لا يخفى؛ نعم، إنّ ذلك إنّما يتوجّه إذا قيل بخلق العلم الضروريّ في كلّ أحد، لكنّه ممّا لا يقول به أحد.
والثاني لا يخلو إمّا أن يكون المراد انتفاء التكليف بالنسبة إلى غير الوجه المعلوم، فكذلك أيضًا؛ لوضوح أنّ العلم على الوجه المعلوم إنّما يكون مستلزمًا لانتفاء التكليف بالنسبة إلى ذلك الوجه، لا بالنسبة إلى غيره، أو انتفاؤه بالنسبة إلى ذلك الوجه، فهو مسلّم حذرًا عن تحصيل الحاصل، ولا مفسدة فيه أصلًا ولا خصوصيّة له بالنسبة إلى هذا المقام؛ لتحقّقه في كلّ ما كان على هذا المنوال.
والحاصل: أنّ المحذور - وهو انتفاء التكليف بالمعرفة بالنسبة إلى كلّ أحد - غير لازم، واللازم - وهو انتفاؤه بالنسبة إلى من خلق فيه العلم الضروريّ - غير محذور.
على أنّه يمكن منع الملازمة مطلقًا؛ لأنّه بناءً على أنّ اللازم على تقدير كون الإيقاف بخلق علم ضروريّ؛ ضروريّة كون هذا المعنى معنى لهذا اللفظ واللفظ موضوعًا له، ويمكن حصول ذلك مع عدم الالتفات إلى الواضع، فضلًا عن العلم به، فضلًا عن كونه ضروريًّا كما لا يخفى؛ ثمّ نختار أنّ إيقافه تعالى بغير
ص: 222
علم ضروريّ.
قوله: «إنّه يفتقر السامع حينئذٍ في كون ما سمعه موضوعًا بإزاء معناه إلى طريق وننقل الكلام إليه»، قلنا: لا اختصاص له بالتوقيف؛ لوروده على القول بالاصطلاح أيضًا كما علمت ممّا أسلفناه؛ والجواب عنها واحد، وهو ما تقدّم من إمكان حصول التعريف بالقرائن والإشارة كما في الأطفال.
والمستند للقول بالتفصيل على الوجه الأوّل من كون الضروريّ المفتقر إليه في التعريف توقيفيًّا والباقي اصطلاحيًّا، أمّا بالنسبة إلى ذلك المقدار، فهو أنّه لو لم يكن ذلك توقيفيًّا، بل يكون الجميع اصطلاحيًّا، يلزم الدور؛ إذ معرفة الباقي متوقّفة على معرفة ذلك المقدار، ومعرفته على تقدير اصطلاحيّته متوقّفة على الباقي، فيلزم توقّف الشيء على نفسه.
وأمّا بالنسبة إلى الباقي، فلعلّه الدليل(1) الأوّل للقول الثاني، وهو قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ﴾(2)، وهو وإن كان أعمّ يشمل الجميع، لكن استثنى ذلك المقدار لما مرّ في بيانه، لكنّك قد عرفت ممّا ذكر ضعف الوجهين، فلا حاجة إلى الإعادة.
وعلى الوجه الثاني من كون المفتقر إليه في التعريف اصطلاحيًّا والباقي توقيفيًّا،
ص: 223
أمّا بالنسبة إلى ذلك المقدار فهو أنّه لو لم يكن ذلك المقدار اصطلاحيًّا، بل يكون توقيفيًّا أيضًا لزم الدور أو التسلسل، إذ العلم بالجميع حينئذٍ يكون بالوحي، والعلم بذلك الوحي لكونه بطريق الألفاظ يفتقر إلى وحي آخر، وهكذا إمّا أن يعود أو يذهب إلى غير النهاية، فيدور أو يتسلسل.
وأمّا بالنسبة إلى توقيفيّة الباقي فلما ذكر في القول الأوّل؛ وهو وإن كان شاملًا للجميع، لكنّه استثني ذلك المقدار لما مرّ في بيانه، وحيث قد عرفت ممّا قدّمنا الجواب عن وجه الإستثناء، ظهر لك ضعفه، فلا بدّ من القول بتوقيفيّة الجميع، وهو القول الأوّل(1).
وأمّا المستند للقول بالتوقّف، فقد ظهر ممّا تقدّم في تقريره؛ وهو أنّ المذكور في بيان الأقوال الثلاثة غير مفيد للعلم مع إمكان الجميع عقلًا، فيجب التوقّف في ذلك.
ويتوجّه عليه: أنّ المراد من العلم في هذا المقام إمّا معناه الظاهر، وهو المانع عن(2) النقيض، فعدم استفادته من الأدلّة المذكورة وإن كان مسلّمًا لما تقدّم من قيام الاحتمالات المتكثّرة فيها، لكنّ الافتقار(3) إليه في أمثال المقام ممنوع، وكما أنّه
ص: 224
يكتفى في وضع اللفظ لمعنى بالظنّ ولا يقدح في ذلك قيام الاحتمال وغيره، فكذلك في الواضع، والفرق تحكّم.
وإن أريد معناه الأعمّ الشامل للظنّ أيضًا، فعدم استفادته ممّا ذكر في غير القول الأوّل وإن كان مسلّمًا، لكنّه لما ظهر مشروحًا لا يوجب عدم المصير إلى القول الأوّل، إذ ما ذكر في بيانه أوّلًا يستفاد منه الظنّ بصحّته، وقد علم وجهه فيما سلف، ويؤيّد ذلك بعد اهتداء الناس إلى هذه الاختراعات الغريبة واللغات المختلفة المتكثّرة.
إن قلت: إنّ الوضع في اللغات لو كان مستندًا إلى الله تعالى؛ لكانت جميعها حقائق شرعيّة، فلا معنى للنزاع في ثبوتها وعدمها في جملة من الألفاظ العربيّة، وكذا تقسيم الحقائق إلى الأقسام الثلاثة الّتي هي اللغويّة والشرعيّة والعرفيّة، للزوم تقسيمها حينئذٍ إلى الشرعيّة والعرفيّة(1).
لا يقال: إنّه يمكن أن يكون النزاع في ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه مبنيًّا على النزاع في هذه المسألة بأن يكون المثبتون للحقيقة الشرعيّة هم الّذين ذهبوا إلى أنّ
ص: 225
واضع اللغات هو الله تعالى، والنافون لها هم الّذين ذهبوا إلى خلافه، وأنّ تقسيم الحقائق إلى الأقسام المذكورة أيضًا مبنيٌّ على ذلك.
لأنّا نقول: هذا فاسد، أمّا أوّلًا: فلعدم صحّته في نفسه؛ إذ من النافين متوقّفٌ في المسألة، وكذا بعض المثبتين، بل اختار بعضٌ منهم اصطلاحيّة اللغات، فلو كان الأمر كما ذكر، لما [كان] وجهٌ للتوقّف لكلّ من النافي والمثبت في هذه المسألة؛ لتعيّن المصير إلى الاصطلاحيّة للأوّل والتوقيفيّة للثاني، ولا يمكن للمثبت القول باصطلاحيّة اللغات.
وأمّا ثانيًا: فلأنّ النزاع في مسألة الحقيقة الشرعيّة إنّما هو في جملة من الألفاظ العربيّة، وهذه المسألة إنّما هي في جميع اللغات، فلو كان النزاع في الحقيقة الشرعيّة مبنيًّا على هذا النزاع، لزم القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة لأرباب التوقيف في جميع الألفاظ العربيّة، بل في جميع اللغات، مع أنّه لم يتفوّه به أحد(1).
وأيضًا أنّ تقسيم الحقائق إلى الأقسام الثلاثة ممّا اتّفقت عليه الآراء، ولا أحد خالف في ذلك، فلو كان الأمر كما ذكر، لا يكون عند كلّ طائفة من القائلين بالتوقيف والاصطلاح إلّا قسمان: الحقيقة الشرعيّة والعرفيّة عند القائلين بالتوقيف، واللغويّة والعرفيّة عند القائلين بالاصطلاح، وفساده ممّا لا يكاد يلتبس على من له أدنى اطّلاع بمباحث الفنّ(2).
ص: 226
قلنا: قد علمت فيما أسلفناه في الحقيقة الشرعيّة أنّ الشارع الّذي يستند إليه الوضع في الحقيقة الشرعيّة في اصطلاحهم هو النبيّ (صلی الله علیه و آله)؛ والّذي يستند إليه الوضع في هذه المسألة بناءً على التوقيف هو الله تعالى، فلا ارتباط لإحدى المسألتين بالأخرى، فلا معنى لجعل إحداهما مبنى الأخرى(1).
وعلى تقدير أن يكون الوضع في الحقيقة الشرعيّة مستندًا إلى الله تعالى ويكون هو المراد من الشارع في تلك المسألة أيضًا، يمكن الجواب بأنّ الحقيقة الشرعيّة في الاصطلاح عبارة عن الألفاظ الخاصّة الّتي نقلها الشارع الحقيقيّ عن معانيها الأصليّة إلى المعاني المعلومة، فعلى هذا لا يلزم أن تكون جميع اللغات حقائق شرعيّة بالمعنى المذكور وإن كان الوضع فيها مستندًا إلى الله تعالى، فتكون الحقائق اللغويّة في الاصطلاح الألفاظ المستعملة في معانيها الابتدائيّة مطلقًا ولو كان واضعها الله سبحانه.
ص: 227
ذكر كلام لإفضاح مقال(1)
ومن العجائب ما صدر من بعض في هذا المقام من تفريعه على(2) هذه المسألة المسألة المعروفة بمسألة مهر السرّ والعلانية؛ وهي ما إذا تزوّج رجل امرأة بألف درهم مثلًا واصطلحا على تسمية الألف بالألفين، قال:
فهل الواجب ألف، وهو ما يقتضيه الاصطلاح اللغويّ، أو ألفان نظرًا إلى الوضع الحادث؟ فيه وجهان، مبنيّان(3).
وفيه ما لا يخفى، أمّا أوّلًا: فلأنّ التفريع على فرض صحّته على عكس ما ذكره، فينبغي أن يقال: فهل الواجب ألفان؛ نظرًا إلى الوضع اللغويّ، أو ألف نظرًا إلى الوضع الحادث؟ كما لا يخفى على المتأمّل؛ ولعلّه لهذا عدل بعضهم عنه فقال:
واصطلحا على تسمية(4) الألفين بالألف(5).
فبناءً على التوقيف يلزم الألف ولا مدخليّة لاصطلاح المتعاقدين في ذلك، وعلى القول بالاصطلاح تصير المسألة خلافيّة، بناءً على أنّ المناط هل الاصطلاح
ص: 228
اللغويّ السابق فيلزم الألف أيضًا، أو الاصطلاح اللاحق فيلزم الألفان؟
وأمّا ثانيًا: فلوضوح أنّ النزاع في انّ المعتبر في الألفاظ الصادرة من أهل اصطلاح خاصّ هل المعاني اللغويّة أو الاصطلاحيّة؟ أعمّ من أن تكون اللغات توقيفيّة أو اصطلاحيّة؛ إذ على التقديرين تكون الألفاظ حقائق لغويّة كما عرفت، والنزاع في أنّ المعتبر المعاني اللغويّة أو الاصطلاحيّة، فلا وجه لهذا التفريع أصلًا.
وأمّا ثالثًا: فلأنّ النزاع في المسألة إنّما هو عند عدم معلوميّة قصد المتكلّم من أهل الاصطلاح، فهناك يقال: هل المحمل في كلامه المعنى اللغويّ أو الاصطلاحيّ؟ وأمّا عند المعلوميّة، فلا معنى للنزاع أصلًا؛ لوضوح أنّه بعد معلوميّة قصده ومخالفته للوضع(1) اللغويّ كيف يمكن احتمال حمله على المعنى اللغويّ الّذي يقطع بعدم إرادته؟!
وما نحن فيه من هذا القبيل، إذ المفروض إرادة المتعاقدين الألف من الألفين وتسميته به(2)، فلا وجه للنزاع، بل ينبغي الحكم بتعيّن الألف؛ لوضوح أنّ العقود تابعة للقصود.
وأنت إذا أحطت خبرًا بما ذكرناه تعلم أنّه لا وجه لهذا التفريع، بل الحقّ أنّ المسألة من المسائل العلميّة الّتي لا يترتّب عليها ثمرة مهمّة في شيء من الفروع
ص: 229
والمطالب العلميّة؛ لأنّ اللازم في الألفاظ الّتي ثبتت فيها الحقائق الشرعيّة الحمل على معانيها الشرعيّة دون اللغويّة، سواء كان الوضع في اللغات مستندًا إلى الله تعالى، أو البشر كما يظهر وجهه ممّا سلف،؛ وفي غيرها الحمل على المعاني اللغويّة مطلقًا فيما إذا لم يكن لها معانٍ عرفيّة، ومعها يرجع إلى النزاع المعروف الآتي في تقديم اللغة أو العرف.
وكذا فيما إذا كانت لها معانٍ شرعيّة وتعذّرت إرادتها لقيام القرينة؛ ولا يختلف الحال في شيء من ذلك، سواء كان الوضع مستندًا إلى الله تعالى أو البشر، كما لا يخفى على من لاحظ(1) مباحث الفنّ وتدبّر.
ص: 230
والثالث: أنّها اللفظ المستعمل في غير المعنى الأصليّ الابتدائيّ بوضع طارٍ له، بشرط أن لا يكون الواضع فيه الواضع الأوّل ولا الشارع.
تحقيق الحال في إظهار المختار من هذه الأقوال يستدعي بيان الفرق بينها ليظهر حقيقة المقال، فنقول: إنّ النسبة بين هذه الوجوه: أمّا بين الأوّل والثاني فعموم مطلقًا؛ لوضوح أنّ كلّما يصدق عليه التعريف الثاني يصدق عليه الأوّل ولا عكس كلّيّة؛ لصدق الأوّل في الموضوعات الطارئة المهجورة، بل الموضوعات الأصليّة المهجورة أيضًا فيما إذا استفيد منها المعنى في العرف ثمّ هجر كما لا يخفى.
وأمّا بينه وبين الثالث فكذلك، فكلّما يصدق عليه الثالث يصدق عليه الأوّل من غير عكس؛ لصدق الأوّل على الحقيقة اللغويّة، كالماء والنار والبارد والحارّ وغيرها ممّا يكون على هذا المنوال، بخلاف الثالث.
وأمّا بين الأخيرين فعموم من وجه؛ لتصادقهما في الموضوعات الطارئة غير المهجورة وتفارق الثاني عن الثالث في الموضوعات الابتدائيّة غير المهجورة، والثالث عنه في الموضوعات الطارئة المهجورة.
وممّا ذكر ظهر النسبة بين العرفيّة بالتفاسير الثلاثة وبين اللغويّة بأنّ النسبة بينها وبين العرفيّة بالتفسير الأوّل عموم مطلقًا؛ لأنّه كلّما يصدق عليه اللغويّة يصدق عليه العرفيّة بهذا التفسير ولا عكس؛ لصدقه على الموضوعات الطارئة دونها، مع احتمال العموم من وجه؛ لاحتمال أن يكون بعض اللغويّة ممّا لم يستفد منه المعنى في العرف.
ص: 232
وبينها وبين العرفيّة بالتفسير الثاني عموم من وجه؛ لتصادقهما في الموضوعات الابتدائيّة الغير المهجورة وتفارق اللغويّة عن العرفيّة بهذا التفسير في الموضوعات الابتدائيّة المهجورة والعرفيّة عن اللغويّة في الموضوعات الطارئة الباقية، وبينهما وبين العرفيّة بالتفسير الثالث تباين كما لا يخفى.
وكذلك يظهر النسبة بين الشرعيّة والعرفيّة بتلك التفاسير بأن يكون النسبة بينهما وبين العرفيّة بالتفسير الأوّل عمومًا مطلقًا؛ إذ كلّما يصدق عليه الشرعيّة يصدق عليه العرفيّة بهذا التفسير ولا عكس؛ لما عرفت من صدقه على الموضوعات الابتدائيّة والطارئة الّتي يكون الوضع فيها مستندًا إلى غير الشارع، وعدم صدق الشرعيّة عليهما بيّن؛ وهكذا الحال بينها وبين العرفيّة بالتفسير الثاني.
هذا إن أريد بالعرف المأخوذ في هذين التفسيرين أعمّ من العامّ وغيره؛ وأمّا إذا أريد منه الأوّل، فيكون بينهما تباين؛ إذ استفادة المعاني الشرعيّة في الألفاظ الشرعيّة إنّما هي بالنسبة إلى المتشرّعين بشريعة نبيّنا (صلی الله علیه و آله) لا بالنسبة إلى كلّ أهل اللسان، فتأمّل.
وأمّا النسبة بينها وبين العرفيّة بالتفسير الثالث، فتباين كما لا يخفى.
وأنت بعد اطّلاعك على ما ذكرنا يظهر لك أنّ الحقّ هو التفسير الثالث، إذ كما تكون الحقيقة اللغويّة الألفاظ الّتي تكون استفادة المعاني منها بمعونة وضع واضع اللغة، والشرعيّة الألفاظ الّتي تكون استفادة المعاني منها بمعونة وضع الشارع على
ص: 233
ما مرّ الكلام في كلّ منهما بما لا مزيد عليه، ينبغي أن يكون الحال في الحقيقة العرفيّة أيضًا كذلك بأن تكون الألفاظ الّتي تكون استفادة المعاني منها بمعونة وضع العرف، لا أهل اللغة والشارع.
ومعلوم أنّ مقتضى ذلك مباينتها لكلّ منهما وأنّ محض فهم المعنى من بعض الألفاظ في العرف تبعًا لوضع أهل اللغة لا يقتضي أن يكون ذلك حقيقة عرفيّة كما لا يخفى؛ ولمّا لم تكن النسبة بين العرفيّة بغير التفسير الثالث واللغويّة والشرعيّة مبائنة كلّيّة، ظهر أنّ الحقّ بين التفاسير المذكورة هو الثالث.
وأيضًا قد اتّفقوا على تقسيم الحقائق إلى الأقسام الثلاثة، ومقتضى ذلك أن يكون كلّ واحد منها قسيمًا لآخر، وهو إنّما يتحقّق على التفسير الثالث، لا غير.
إن قلت: إنّ الحقائق العرفيّة لو كانت موضوعات طارئة؛ لما كانت الألفاظ المخترعة من ذلك.
قلنا: إنّ الكلام في الحقيقة العرفيّة المتحقّقة، ومعلوم أنّها من الموضوعات الطارئة، لا المخترعة؛ وعلى فرض تحقّقها نقول باندارجها تحت العرفيّة بناءً على استناد الوضع في الحقائق اللغويّة إلى الله سبحانه وتحت اللغويّة بناءً على اصطلاحيّة اللغات، ويمكن القول باندراجها تحت العرفيّة على الحالين، ولا يتفاوت الحال في ذلك على التقديرين.
ص: 234
في تقسيم الحقيقة العرفيّة إلى العامّة والخاصّة
والمبحث(1) الثاني: في تقسيمها إلى العامّة والخاصّة
فنقول: قد عرفت ممّا سلف أنّ الحقيقة العرفيّة هي الموضوعات الطارئة، أي الّتي تكون استفادة المعاني منها بوضع طارٍ.
قالوا(2): إنّ ذلك الوضع إمّا يتعيّن فيه الواضع كالفقيه والأصوليّ والمنطقيّ والنحويّ والصرفيّ وغيرهم، كالطهارة والنجاسة والخلع والمبارات بناءً على عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة، والحقيقة والمجاز والعلاقة وتنقيح المناط والصغرى والكبرى والموضوع والمحمول والفاعل والمفعول والحال والتميز والصحيح والمعتلّ والمضاعف والأجوف، وغيرها من الاصطلاحات المتكرّرة في أنواع العلوم وأنحاء الرسوم الّتي قد عيّنت لغير معانيها الأصليّة قطعًا.
أو لا يتعيّن فيه الواضع، كالدابّة والقارورة والغائط وغيرها من الألفاظ الّتي عيّنت في غير معانيها اللغويّة من غير أن يكون التعيين فيها مستندًا إلى طائفة مخصوصة، فالأوّل يسمّى بالعرف الخاصّ والعرفيّة الخاصّة، والثاني بالعرف العامّ والعرفيّة العامّة، فتقسيمها(3) إلى القسمين باعتبار تعيين الواضع وعدمه.
ص: 235
اعلم: أنّه يتوهّم في المقام إيرادان:
الأوّل: أنّ مقتضى ما ذكر في هذا المقام في وجه تقسيم العرفيّة إلى القسمين المذكورين أن تكون الحقيقة الشرعيّة من العرفيّة الخاصّة، فكيف يجعل فرد الشيء قسيمًا له؟!
والثاني: أنّ الوضع مع عدم تعيين الواضع فاسد؛ لأنّ الوضع عبارة عن تعيين اللفظ للدلالة على المعنى، والتعيين لا يتصوّر من غير معيّن؛ لوضوح أنّ التعيين فعلٌ لا يمكن اجتماع قاطبة أهل اللسان عليه كما لا يخفى.
والجواب: أمّا عن الأوّل: فهو أنّ الأمر وإن كان كذلك، إلّا أنّهم أفردوا ذلك النوع من العرفيّة الخاصّة بالذكر؛ لاختصاصه بمزيد الأحكام بالنسبة إلى الأنواع(1) الأخر كما لا يخفى.
على أنّه يمكن أن يقال بمنع كون الحقيقة الشرعيّة من الحقيقة العرفيّة؛ لجريان الاصطلاح في تسمية العرفيّة ما لا يكون واضعه الشارع وتسمية الشرعيّة ما يكون كذلك، فعلى هذا لا تكون الحقيقة الشرعيّة نوعًا من العرفيّة الخاصّة حتّى يورد أنّه كيف جعل قسم الشيء قسيمًا له، بل هو قسم آخر مقابل لكلٍّ من اللغويّة والعرفيّة، ولهذا قيّدنا العرفيّة بما لا يكون واضعه الشارع.
وأمّا عن الثاني: فهو أنّ الحقائق العرفيّة بأسرها منقولات، والإيراد إنّما يتوجّه
ص: 236
إذا كان طريق النقل منحصرًا في التعيينيّ منه، وهو غير مسلّم؛ لما عرفت في مقدّمة الكتاب من أنّه كما يكون بالتعيين كذا يكون بالتعيّن، وهو أن يكون اللفظ مستعملًا في غير معناه الأصليّ مجازًا، ثمّ غلب استعماله فيه بحيث يفهم منه ذلك المعنى من غير افتقار إلى قرينة وهجر المعنى الأوّل بحيث تكون إرادته متوقّفة على القرينة؛ ولمّا كان البلوغ إلى هذا الحدّ لكثرة الاستعمال الّذي صدر من كثير من المستعملين، فلا يمكن الاستناد إلى بعض معيّن، فلذا يقال: إنّ الواضع فيه غير معيّن، ومقتضى ذلك انحصار طريق الحقيقة العرفيّة في النقل التعيّني.
ويمكن أن يقال: إنّ القول بكون الواضع فيها غير معيّن في مقابلة العرفيّة الخاصّة، حيث إنّ الواضع فيها طائفة مخصوصة مشخّصة وتكون تلك الألفاظ حقائق في تلك المعاني بالنسبة إلى مكالماتهم ومكالمات من يخاطب باصطلاحهم دون غيرهم، بخلاف العرفيّة العامّة، فإنّها حقائق في مخاطبات قاطبة أهل اللسان.
فعلى هذا يمكن أن يكون الناقل فيها معيّنًا، لكن لمّا تبعه قاطبة أهل اللسان في ذلك ويكون اللفظ حقيقة في ذلك المعنى المنقول إليه عند الجميع، يقال: إنّ الواضع فيه غير معيّن، أي حقيقيّته(1) في ذلك المعنى غير مختصّة عند طائفة دون أخرى، كما في العرفيّة الخاصّة، أو يقال: معنى كون الواضع فيها غير معيّن، أنّها مجهولة الواضع في الأنظار وإن كان معيّنًا في نفس الأمر، لكن فيه تأمّل لا يخفى على المتأمّل.
ص: 237
في ثبوت الحقيقة العرفيّة
فنقول: أمّا الخاصّة منها فثبوتها في العيان بحيث لا يفتقر إلى البيان ولم ينازع فيها أحد من الأعلام، والاصطلاحات المتداولة في أنواع العلوم والرسوم شاهد صدق على هذا المرام.
وأمّا العامّة منها فالّذي يظهر من تصريح جماعة ممّن عثرنا على كلامهم في هذا المقام أنّها أيضًا كذلك، لكنّ الّذي يظهر من العلّامة - رفع مقامه - في النهاية تحقّق الخلاف في ذلك، حيث قال ما حاصله:
أنّه لا نزاع في إمكان الحقيقة العرفيّة، وإنّما الخلاف في الوقوع(1).
وربّما ترقّى بعض من لا يعتنى بمقالته عن عدم الوقوع وادّعى الاستحالة في ذلك(2)، وكيف كان، والحقّ أنّ ثبوتها ممّا لا ينبغي النزاع فيه؛ للقطع بأنّ ههنا ألفاظًا متكثّرة يستفاد(3) منها المعاني المغايرة للمعاني اللغويّة من غير افتقار في ذلك إلى قرينة، ولا يتفاوت الحال فيه عند طائفة دون طائفة، وهذا هو شأن الحقيقة، كالدابّة، فإنّها موضوعة في اللغة لكلّ ما يدبّ على الأرض، واختصّت(4) في العرف ببعض
ص: 238
البهائم؛ والقارورة فإنّها اسم لكلّ ما يستقرّ فيه الشيء، واختصّت فيه بالزجاج؛ والملك فإنّها مأخوذة من الألُوكَة، وهي الرسالة(1)، واختصّ فيه ببعض الرسل؛ والخابية فإنّها موضوعة لما يخبّأ فيه، واختصّت بالبعض، وغيرها(2).
وهذه الألفاظ المذكورة إمّا عيّنت للمعاني المسطورة في أوّل الأمر والبداية، أو استعملت في بداية الأمر فيها مجازًا، ثمّ بكثرة الاستعمال صار الأمر فيها على الوجه المذكور، أو الأمر في بعضها على النحو الأوّل وفي الآخر منها على النحو الثاني، وأيّ منها كان يثبت المرام؛ إذ على الأوّل تكون الألفاظ كلّها منقولات بالنقل التعييني، وعلى الثاني بالنقل التعيّني، وعلى الثالث بالوجهين، وعلى جميع التقادير يثبت المرام.
إن قيل: إنّ وضع الألفاظ لإبراز ما في الضمائر والقلوب وإظهار الحوائج والمطلوب، وهذا يحصل باللغة، فما الداعي لتغييرها حتّى تثبت الحقيقة العرفيّة؟
قلنا: لا شبهة في أنّ إحاطةَ الألفاظ لجميع المعاني بأن يكون بإزاء كلّ معنى لفظ غيرُ ثابتة، وكيف؟ مع أنّ الألفاظ متناهية؛ لتركّبها من الحروف المتناهية، والمعاني غير متناهية، وامتناع إحاطة المتناهي لغير المتناهي بيّن.
فعلى هذا قد تكون الحاجة ماسّة إلى التعبير عن بعض المعاني الّتي لم يتحقّق لها
ص: 239
وضع، وذلك المعنى إمّا أن يكون من المعاني المناسبة لما وضع له في اللغة، أم لا، وعلى التقديرين إمّا أن يكون التعبير عن ذلك المعنى المفتقر إليه باللفظ المخترع، أو بالموضوع لغة، فهنا احتمالات أربعة.
لكنّ اختراع اللفظ غير معهود منهم؛ لكراهتهم مخالفة اللغة والخروج عن قانونها مطلقًا، فبقى من الاحتمالات اثنان: التعبير عن المعنى غير الموضوع له في اللغة ولا المناسب له؛ والمعنى غير الموضوع له في اللغة المناسب له باللفظ اللغويّ.
وعلى الأوّل: يمكن أن يكون ذلك على طريق المجاز؛ لانتفاء العلاقة كما هو المفروض، فتعيّن أن يكون ذلك بتعيين اللفظ له، وهذا ممّا سمّاه أئمّة الأصول والبيان بالمرتجل.
وعلى الثاني: يمكن أن يكون الاستعمال حقيقة، كما يمكن أن يكون مجازًا، لكن فرط الحاجة إلى التعبير عنه صار موجبًا لكثرة استعماله فيه حتّى بلغ إلى حدّ الحقيقة، فهذا هو الداعي لتغيير اللغة وثبوت الحقيقة العرفيّة.
لا يقال: إنّ كثيرًا من الحقائق العرفيّة بقسميها تكون لبعض أفراد مسمّياتها اللغويّة، والمذكور لا يصلح وجهًا(1) إلّا لثبوتها في المعاني المغايرة لمسمّياتها كما لا يخفى.
لأنّا نقول: إنّ ذلك إنّما هو لشدّة الحاجة إلى التعبير عن ذلك البعض دون الآخر، وهي موجبة لكثرة استعمال اللفظ هناك دونه، أو لتعيينه في أوّل الأمر
ص: 240
للأوّل، وهو ما تقدّم.
هذا، واستدلّ القائل باستحالة الحقيقة العرفيّة بأنّه يمتنع اتّفاق الخلق الكثير على نقل اللفظ(1)، وكأنّه توهّم انحصار طريق ثبوت الحقيقة العرفيّة في التعيين، وإلّا فالحكم بامتناع تحقّق غلبة الاستعمال من الكثير ممّا لا وجه له ولا برهان عليه، وكيف؟ مع أنّ تحقّق الغلبة من الكثير أظهر من تحقّقها من القليل، كما لا يخفى على من ليس له حظّ من العلم إلّا قليل، ولا يكاد يشتبه على من لا يكون له نصيب من الدرك إلّا يسير.
على أنّا نقول: إنّ استحالة التعيين من الكثير على فرض التسليم إنّما تكون(2) مسلّمة عند استناده إلى جميعهم في نفس الأمر، وأمّا إذا استند إلى بعض وتبعه الباقي في ذلك ويكون الاستناد إلى الجميع لذلك فلا، كما ظهر حقّيّته لك ممّا أسلفناه.
ص: 241
ذكر كلام لختم مقام
بقي الكلام في هذا المقام في أنّ حصر الحقائق في هذه الأقسام هل يكون صحيحًا، فلا توجد حقيقة إلّا وقد اندرجت تحت واحد منها، أو لا بل هنا قسم آخر غير مندرج تحت شيء منها؟
ظاهر(1) جماعة(2) بل صريحهم: الثاني؛ لأنّ الأعلام الشخصيّة غير مندرجة تحت شيء من الأقسام المذكورة مع كونها حقائق؛ لاستعمالها فيما عيّنت لها وإفادتها إيّاها من غير افتقار إلى قرينة، أمّا عدم اندراجها تحت الشرعيّة واللغويّة، فلظهوره غنيّ عن البيان؛ وكذلك الحال بالنسبة إلى العامّة من العرفيّة؛ وأمّا عدم اندراجها في العرفيّة الخاصّة، فلتصريحهم بأنّ الوضع فيها من فريق أو قوم، والأعلام ليست كذلك؛ لاختصاص الوضع فيها بواحد.
وأفرط بعضٌ في هذا المقام، فادّعى أنّها ليست بحقائق ولا مجازات، قال العلّامة في النهاية:
ص: 242
الأعلام ليست حقيقة ولا مجازًا؛ لكونها من الألقاب، والحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له، والمجاز في غير ما وضع له، وذلك(1) يستدعي كونهما قد وضعا قبل هذا(2) الاستعمال لغة، وأسماء الأعلام ليست كذلك؛ فإنّ مستعملها لم يستعملها فيما وضعها(3) أهل اللغة له(4) ولا في غيره؛ لأنّها لم تكن من وضعهم، فلا تكون(5) حقيقة ولا مجازًا(6).
وفساد هذا الاستدلال ممّا لا يفتقر إلى البيان؛ إذ المراد من الموضوع له في قوله: «إنّ الحقيقة إنّما تكون عند استعمال اللفظ فيما وضع له»(7)، إمّا أن يكون الموضوع له اللغويّ أو الأعمّ.
وعلى الأوّل نقول: إنّ انتفاء ذلك بالنسبة إلى المعنى العَلَميّ وإن كان(8) مسلّمًا، لكنّ الّذي يلزم من ذلك أن لا تكون الأعلام حقيقةً لغويّةً بالنسبة إلى المعاني العَلَميّة، وهو مسلّم ولا يلزم منه انتفاء الحقيقيّة(9) مطلقًا، ضرورة أنّ نفي
ص: 243
الأخصّ غير مستلزم لنفي الأعمّ.
وعلى الثاني نقول: إنّ ذلك وإن كان مسلّمًا، لكن استلزامه أن لا تكون الأعلام حقائق بالنسبة إلى المعاني العَلَميّة ممنوع، وكيف؟ مع أنّها قد عيّنت بإزاء تلك المعاني وليس المراد من الوضع إلّا ذلك.
وقوله: «وذلك يستدعي كونهما قد وضعا قبل هذا الاستعمال لغة» إلخ، لا يخفى ما فيه؛ لأنّه على التقدير الأوّل وإن كان مسلّمًا، ضرورة أنّ استعمال اللفظ في الموضوع له اللغويّ مسبوقٌ بالوضع اللغويّ، لكن على تقدير تسليم انتفاء ذلك في الأعلام لا يلزم أن لا تكون(1) حقيقة مطلقًا كما تقدّم، وعلى التقدير الثاني نمنع الملازمة، ضرورة أنّ استعمال اللفظ في الموضوع له غير اللغويّ إنّما يستدعي تحقّق ذلك الوضع، لا الوضع اللغويّ كما لا يخفى.
وقوله: «لأنّها لم تكن من وضعهم»، إن أريد أنّ الأعلام ليست من الموضوعات اللغويّة بالنسبة إلى المعاني العَلَميّة، فهو مسلّم، لكن لا اختصاص له بالأعلام، بل كلّ من الحقائق العرفيّة والشرعيّة كذلك، فكما لا يمنع ذلك من اتّصافهما بوصف الحقيقة، فليكن غير مانع بالنسبة إلى الأعلام لانتفاء الفارق.
وإن أريد أنّها ليست من موضوعاتهم مطلقًا، فهو ممنوع، وكيف؟ مع أنّ عَمرًا وزيدًا ونحوهما من الأسماء المتكثّرة موضوعةٌ في اللغة لغير المعاني العَلَميّة، وذلك ممّا لا يرتاب فيه ولا شكّ يعتريه، فالحقّ أنّها في المعاني العَلَميّة حقائق
ص: 244
بالنسبة إلى مكالمات واضعها ومن يخاطب باصطلاحه؛ لصدق حدّ الحقيقة عليه، وإنكاره ممّا لا وجه له.
بقي الكلام في أنّها هل تكون مندرجة تحت واحد من الأقسام المذكورة، أو لا بل هي قسم آخر على حدة، فلا يصحّ حصر الحقائق في الأقسام المتقدّمة؟
فنقول: الظاهر اندراجها تحت العرفيّة الخاصّة، والظاهر أنّ مرادهم من كون الوضع فيها(1) من فريقٍ أو طائفةٍ أنّها حقيقة عندهم، لا لزوم صدور الوضع منهم؛ لبعد أن تكون الاصطلاحات المتكرّرة في العلوم وغيرها بأسرها ممّا اتّفق عليه طائفة، ثمّ عيّنوا بإزاء معانيها، بل الظاهر صدوره من بعض، ثمّ تبعه غيره ممّن دخل معه في فنّه، سواء كان ذلك البعض واحدًا أو متعدّدًا.
والأمر في الأعلام أيضًا كذلك؛ لأنّها حقيقة في المعاني العَلَميّة عند كلّ من يوافق الواضع في ذلك، على أنّ دعوى حصر الوضع في الأعلام من واحد ممنوعة، إذ ربّما يتّفق مشاركة جمع في تعيين اسم لبعض المسمّيات، والحمد لخالق الأرضين والسماوات.
اعلم: أنّ الأقسام المتصوّرة للنقل بملاحظة أقسام الحقائق من اللغويّة
ص: 245
والشرعيّة والعرفيّة والاصطلاحيّة ستّة عشر، يحصل من ملاحظة كلّ من الأقسام معه ومع الآخر: نقل اللغويّة من اللغويّة والشرعيّة والعرفيّة والاصطلاحيّة؛ ونقل الشرعيّة من الشرعيّة واللغويّة والعرفيّة والاصطلاحيّة؛ ونقل العرفيّة من العرفيّة واللغويّة والشرعيّة والاصطلاحيّة؛ ونقل الاصطلاحيّة من الاصطلاحيّة واللغويّة والشرعيّة والعرفيّة.
لكنّ بعضًا من هذه الأقسام معلومُ التحقّق وبعضها معلوم العدم وبعضها محتمل الأمرين، والتفصيل يظهر بعد الإحاطة بما ذكرنا في هذه الأقسام الثلاثة، فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين.
ص: 246
وفيه مباحث:
والرابع: التفصيل بأنّ الألفاظ في الجزئيّات الخارجيّة موضوعة للأشخاص الخارجيّة، وفي الجزئيّات الذهنيّة للأشخاص الذهنيّة، وفي الكلّيّات للماهيّات من حيث هي، فهو قول بالأقوال الثلاثة كلٌّ في مورد(1).
واستدلّ من ذهب إلى الأوّل بأنّها لو لم تكن موضوعة للحقائق الخارجيّة؛ لما كانت متبادرة منها عند الإطلاق، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.
أمّا الشرطيّة فلأنّها حينئذٍ لم تكن من المعاني الحقيقيّة، والتبادر على ما تقدّم تحقيقه من خواصّ الحقيقة، وخاصّة الشيء ما لا يوجد في غيره وإلّا لم تكن خاصّة له.
وأمّا بطلان التالي فلظهور أنّ المتبادر من قولك: دخلت السوق، وبعت العبد، وأخذت الدراهم، واشتريت الإدام، ودخلت الدار، وأكلت الخبز، وشربت الماء وغير ذلك، الحقائق الخارجيّة بحيث لا يمكن إنكاره، فلو لم تكن الألفاظ موضوعة بإزائها لم يكن الأمر كذلك(2).
ص: 248
ويمكن الجواب عنه بالمعارضة والمناقضة، أمّا الأوّل فمن وجوه:
الأوّل: أنّ الألفاظ لو كانت بأسرها موضوعات للأمور الخارجيّة؛ لامتنع إطلاق شيء منها حقيقة على المعدومات في الخارج(1). والشرطيّة ظاهرة، أمّا بطلان التالي فللقطع بأنّ شريك الباري والمعدوم والمنفي وما ضاهاها حقيقة في معانيها المفهومة منها، مع أنّه لا تحقّق لشيء منها في الخارج، وكذا الكلام في الألفاظ المستعملة في المعاني الكلّيّة والصور الذهنيّة الجزئيّة.
والثاني: أنّها لو كانت كذلك، لزم امتناع الكذب في الأخبار؛ وبطلان التالي غنيّ عن البيان، إذ الضرورة قاضية بانقسامها إلى الصادقة والكاذبة، أمّا الشرطيّة فلأنّه بناءً على هذا التقدير يلزم أن يكون كلّ خبر موضوعًا للموجود في الخارج ودالًّا عليه، فالتكلّم ب: «زيد قائم» الموضوع لقيام زيد الموجود في الخارج إنّما يمكن عند تحقّق القيام له في الخارج، وحينئذٍ لا يكون الكلام إلّا صادقًا(2).
ص: 249
أجيب عن ذلك: بأنّ ذلك إنّما يتوجّه إذا كانت دلالة الألفاظ على معانيها عقليّة، إذ حينئذٍ يمتنع تخلّف المدلول عن الدالّ، فيلزم من الدالّ على النسبة الخارجيّة - وهو الخبر - تحقّقها في الخارج، كما يلزم من اللفظ المسموع وجود لافظه، لكنّه فاسد، بل دلالتها وضعيّة، وتخلّف المدلول عن الدالّ بالدلالة الوضعيّة ممّا لا شبهة فيه، فحينئذٍ لا يلزم من قولنا: «زيد قائم» الدالّ على تحقّق النسبة في الخارج تحقّقها فيه، فعلى هذا نقول: إنّ تقسيم الخبر إلى الصدق والكذب باعتبار تحقّق النسبة في الخارج وعدمه.
ويمكن أن يقال: إنّه بناءً على القول بكون الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني الخارجيّة، استعمال الخبر في الموضوع له إنّما يكون عند تحقّق النسبة في الخارج، وحينئذٍ لا يحتمل الكلام غير الصدق.
وحكاية جواز تخلّف المدلول لا تنفع، وعند الاستعمال في غير الموضوع له وإن كان محتملًا، لكنّ القسمة حينئذٍ غير واردة على مقسم واحد؛ لكون الأخبار المستعملة فيما وضعت له صادقة أبدًا، والأخبار المستعملة في المعاني المغايرة لما وضعت لها كاذبة كذلك.
ويمكن أن يجاب عن المعارضة بنحوٍ آخر، وهو أنّها إنّما تكون متوجّهة لو كان القائل بكون الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني الخارجيّة قائلًا بكونها موضوعة
ص: 250
للمعاني الخارجيّة المطابقة لنفس الأمر بحسب الواقع، وليس الأمر كذلك؛ لما ستقف عليه في حكاية تغيّر التسمية بتغيّر الصور الذهنيّة من كونها موضوعة للمعاني الخارجيّة المطابقة لنفس الأمر بحسب اعتقاد المتكلّم.
فعلى هذا نقول: إنّ «زيد قائم»، موضوعٌ عنده لقيام زيد الموجود في الخارج باعتقاده، فعند مطابقة الاعتقاد للواقع يكون صادقًا وعند مخالفته يكون كاذبًا، ويمكن حمل الجواب المذكور على ذلك(1).
والثالث: أنّ الألفاظ بأسرها لو كانت موضوعة للمعاني الخارجيّة، لزم امتناع تحقّق الوضع في المركّبات والحروف؛ لأنّ معانيها أمور نسبيّة والنسبة لا وجود لها في الخارج، والتالي باطل؛ للقطع بتحقّقه في الجميع، كما حقّقناه في المقدّمة بحيث لا يبقى معه شكّ وريبة، ومنه يظهر أنّ المعارضة المذكورة مبنيّة على التسليم وغمض العين عن الحقيقة.
ويمكن الجواب عن ذلك بأنّ الظاهر أنّ من قال بكونها موضوعة للمعاني الخارجيّة، أراد ما يكون موجودًا في الخارج بنفسه، أو بواسطة الغير؛ والمنتفي في النسبة الوجود على الطرز الأوّل لا الثاني.
ص: 251
وأمّا الثاني: فهو أنّا لا نسلّم تبادر المعاني الخارجيّة عند انتفاء القرينة، واستفادتها من الألفاظ المذكورة في الأمثلة المتقدّمة وإن كانت مسلّمة، لكنّها مقرونة بالقرائن الدالّة على الخارجيّة، كالدخول والبيع والشراء والأكل والشرب؛ والفهم الّذي له مدخليّة في إثبات الحقيقة إنّما هو الفهم من غير معونة القرينة.
لكنّه خلاف الإنصاف، أمّا أوّلًا: فلأنّه لا شبهة في تبادر المعاني الخارجيّة من الألفاظ المتقدّمة وإن تجرّدت عن القرائن المذكورة، وأمّا ثانيًا: فلأنّ الألفاظ المذكورة إنّما تصلح للقرينة لاستفادة المعاني الخارجيّة منها؛ لوضوح أنّه لو أريد منها المعاني الذهنيّة لا تكون صالحة لذلك، واستفادتها إنّما هو لتبادرها منها، فلا يكون ذلك إلّا لوضعها، فالحقّ الّذي لا محيص عنه تسليم تبادرها منها، لكن غاية ما يلزم من ذلك كونها حقيقة في تلك المعاني.
وكذا الكلام فيما يكون الأمر فيه على تلك المثابة ولا يثبت منه الكلّيّة الّتي ادّعاها المستدلّ من وضع الألفاظ بأسرها للمعاني الخارجيّة، وستعرف حقيقة الحال وتفصيل المقال عند إبراز الحقّ من بين الأقوال.
واستدلّ القائلون بالثاني بما حاصله: أنّها لو لم تكن موضوعة للصور الذهنيّة لما
ص: 252
دارت معها وجودًا وعدمًا، وبعبارة أخرى: وهي أنّها لو لم يكن كذلك، لما تغيّرت تسمية الشيء الواحد الخارجيّ بتغيّر الصور الذهنيّة، والتالي باطل(1).
أمّا الملازمة؛ فلأنّ الصور الذهنيّة حينئذٍ إمّا معانٍ مجازيّة للألفاظ، أو ليست هي أيضًا، وعلى التقديرين لا وجه لعدم إمكان الإطلاق عند انتفائها، أمّا على الثاني فغير مفتقر إلى البيان، وأمّا على الأوّل فلأنّ المعاني الحقيقيّة للألفاظ حينئذٍ غير الصور الذهنيّة، أي الأمور الخارجيّة، والضرورة قاضية بأنّ انتفاء المعاني المجازيّة غير صالح لسلب إطلاق الألفاظ على المعاني الحقيقيّة، وكيف؟! مع أنّه يؤكّد ذلك، وأنّ وضع الألفاظ للاستعمال في المعاني الحقيقيّة وانتفاء غيرها كيف يصير مانعًا عن ترتّب تلك(2) الفائدة، وكذا إطلاق اللفظ على المعنى المجازيّ لا يسلب صحّة إطلاقه على معناه الحقيقيّ بالضرورة.
وأمّا بطلان التالي؛ فلأنّ مَن رأى شبحًا من بعيد وظنّه حجرًا ترتسم الصورة الحجريّة في ذهنه فسمّاه به، فإذا تغيّر ذلك بظنّه شجرًا ترتسم صورته الشجريّة في ذهنه فسمّاه به، وإذا تغيّر ذلك بظنّه إنسانًا ترتسم صورته في ذهنه فسمّاه به، ولا يطلق عليه لفظ «الحجر» و«الشجر» وإن كان هو في نفس الأمر واحدًا منهما.
فانتفاء المعنى المجازيّ - وهو الصورة الحجريّة مثلًا وتغيّره - صار سببًا لعدم
ص: 253
صحّة إطلاق لفظ «الحجر» على معناه الحقيقيّ على فرض وضعه للمعنى الخارجيّ، وكذا إطلاق اللفظ على المعنى المجازيّ - وهو الصورة الإنسانيّة - صار سببًا لعدم إطلاق اللفظ الموضوع له - وهو الحجر مثلًا - عليه.
فنقول: تغيّر التسمية بتغيّر الصور الذهنيّة مع كون المسمّى في الخارج واحدًا، وكذا عدم تغيّرها لعدم تغيّرها مع كون المسمّى فيه مختلفًا، دليلٌ ظاهر على كون الوضع للصور الذهنيّة، لا الأمور الخارجيّة، أمّا الأوّل: فقد ظهر، وأمّا الثاني: فلأنّ مَن رأى أشباحًا مختلفة في نفس الأمر كالشجر والحجر والإنسان، وظنّ الجميع إنسانًا مثلًا، لا يرتسم في ذهنه إلّا الصورة الإنسانيّة ولا يصحّ عنده الإطلاق على الجميع إلّا لفظ «الإنسان».
فعلى هذا فالمناسب(1) أن يُقرّر الدليل هكذا:
لو لم يكن(2) الألفاظ موضوعة للصور الذهنيّة؛ لما تغيّرت التسمية بتغيّر الصورة مع كون المسمّى في الخارج واحدًا، وكذا لما اتّحدت التسمية لأشياء متعدّدة عند وحدة الصورة مع كون المسمّى مختلفًا؛ واللزوم وكذا بطلان التالي قد ظهر ممّا ذكر.
ص: 254
في إبطال(1) حجّة القول بكون الألفاظ موضوعة للمعاني الذهنيّة والجواب عنه بالمنع والمعارضة، أمّا الأوّل فلأنّا لا نسلّم [أنّ] تغيّر التسمية إنّما هو بتغيّر الصورة ودوران الألفاظ معها، بل إنّما هو لتغيّر الشيء الخارجيّ باعتقاده، فلمّا اعتقد ذلك الشيء الخارج حجرًا سمّاه به، ثمّ لمّا تبيّن له فساد ذلك الاعتقاد باعتقاد كونه شجرًا سمّاه به وهكذا؛ فتسميته حجرًا إنّما هو باعتقاده حجرًا في الخارج، وكذا الحال في الشجر، فدوران الألفاظ إنّما هو مع الشيء الخارجيّ باعتقاده(2).
إن قلت: إنّ الشيء(3) الخارج في الواقع ونفس الأمر غير مختلف، فلو كان اللفظ موضوعًا بإزائه لما [كان] وجهٌ لاختلافه.
قلنا: إنّ اللفظ بناءً على هذا القول وإن كان موضوعًا للشيء الخارجيّ النفس الأمريّ، لكن الشيء الخارجيّ النفس الأمريّ الّذي يكون باعتقاد المستعمل كذلك، وحيث اعتقد أنّه الحجر النفس الأمريّ أطلق عليه اللفظ الموضوع للشيء النفس الأمريّ، ثمّ لمّا تبيّن له فساده ظهر أنّه ما أصاب نفس الأمر وأخطأ في التسمية.
نعم، إنّ ذلك إنّما يتوجّه لو قلنا بأنّ اللفظ موضوع للشيء الخارج(4) النفس
ص: 255
الأمريّ بشرط مطابقته للواقع، لكنّه فاسد، إذ لا شبهة في أنّ وضع الألفاظ للاستعمال في المعاني؛ ولو كان الأمر على ما ذكر؛ لما أمكن ذلك إلّا بعد العلم بمطابقته للواقع بحيث لا يحتمل المخالفة، وهو ممّا يقطع بفساده، بل ربّما يمكن دعوى استحالته؛ لاحتمال الاشتباه وتطرّق الغلط إلى الحواسّ.
على أنّه لا يتفاوت الحال في ذلك بين كونه موضوعًا للشيء الخارجيّ والصورة الذهنيّة؛ لأنّ مقتضاه أن يكون موضوعًا للصورة الذهنيّة النفس الأمريّ بشرط مطابقتها للواقع، فحينئذٍ ينبغي أن لا يطلق عليه إلّا اللفظ الموضوع بإزاء الصورة الواحدة المطابقة.
واحتمال هذا الاشتراط في الشيء الخارجي(1) دون الصورة من الأمور التحكميّة الّتي لا يرضى التفوّه بها إلّا مَن لم يكن له من العقل حظّ ومن الفهم نصيب.
وأمّا الثاني فمن وجوه:
الأوّل: هو انّه لا يجوز أن يكون الألفاظ بأسرها موضوعة بإزاء الصور(2) الذهنيّة، إذ لو كان الأمر كذلك لما أمكن استعمال شيء من الألفاظ في المعاني الخارجيّة إلّا على وجه المجاز دون الحقيقة، والتالي باطل.
ص: 256
أمّا الشرطيّة فظاهر، إذ على هذا التقدير لا يكون الموضوع له إلّا الصور الذهنيّة، فيكون المعاني الخارجيّة غير الموضوع لها، فاستعمال الألفاظ فيها لا يكون في الموضوع له، فلا يكون حقيقة.
وأمّا بطلان التالي فللقطع بتحقّق أمارة الحقيقة من التبادر وعدم صحّة السلب والاطّراد في كثير من الألفاظ بالنسبة إلى الخارجيّة كما مرّت إلى جملة منها الإشارة.
وكيف لا؟! مع أنّ إرادة الصور الذهنيّة في كثير منها غير ممكنة، كما في قولك: زيد مريض، وعمرو شاعر، وبكر فاضل، ونحوها، واحتمال استعمالها في المعاني الخارجيّة مجازًا لعلاقة المشاكلة ممّا لا يحتمله مَن له أدنى اطّلاع على مباحث الفنّ، وقد عرفت وجهه.
وبالجملة: إنّ الحكم بمجازيّة الألفاظ بأسرها في المعاني الخارجيّة ممّا يقطع بفساده، بل خلاف الضرورة.
والثاني: هو انّه لو كانت الألفاظ بأسرها موضوعة للصور(1) الذهنيّة؛ لوجب الانتقال عند سماع الألفاظ إليها، والتالي باطل، والملازمة بيّنة، أمّا بطلان التالي فللقطع بأنّ من سمع لفظ «زيد» مثلًا، لا ينتقل منه إلّا إلى زيد المعلوم المرتسم صورته في الذهن من غير التفات إلى تلك الصورة، بل مع إنكارها، كما للمتكلّمين النافين للصور الذهنيّة.
ص: 257
والثالث: هو أنّه لا يمكن أن يكون الألفاظ بأسرها موضوعة للصور الذهنيّة، إذ من الألفاظ ما لا صور ذهنيّة لمفاهيمها، كلاشيء واللاموجود ونحوهما، ضرورة أنّ كلّ ما يفرض في الذهن فهو شيء وموجود فيه، فتأمّل.
ثمّ على تقدير غمض العين عمّا يرد في البين نقول: إنّ غاية ما يلزم من الدليل المذكور انتفاء الوضع في الألفاظ للمعاني الخارجيّة، ولا يلزم من ذلك أن يكون الوضع فيها للصور الذهنيّة؛ لاحتمال الواسطة بأن يكون الوضع للماهيّة من حيث هي.
إن قلت: إنّ هذا الإيراد ونحوه إنّما يتوجّه إذا كان هذا القول ممّن قال بحصول الأشياء بأشباحها في الذهن، وأمّا إذا كان ممّن يقول بحصول الأشياء بأنفسها فيه فلا، إذ المراد بالصورة بناءً عليه الماهيّة.
قلنا: نعم، لكن لا الماهيّة المطلقة، بل الماهيّة باعتبار الوجود في الذهن، فلا ينتهض الدليل لإثبات المدّعى أيضًا؛ لوضوح أنّه لا يلزم من عدم وضع اللفظ للمعاني الخارجيّة وضعه للماهيّة الموجودة في الذهن؛ لاحتمال الوضع للماهيّة من حيث هي مع قطع النظر عن تحقّقها في أحد الطرفين، كما هو القول الثالث في المسألة.
ص: 258
ثمّ إنّ الفاضل الباغنوي في حاشيته على متعلّقات الأمور العامّة من التجريد، جعل النزاع في هذه المسألة مبنيًّا على النزاع المعروف بين أرباب المعقول في المعلوم بالذات من أنّه: إمّا(1) الصورة الذهنيّة، بناءً على أنّها الحاصلة في الذهن حقيقة، وذا الصورة إنّما يحصل فيه بواسطتها، فتكون(2) تلك الصور معلومة بالذات وذو الصور معلومًا بالتبع، أو الأمر الخارجيّ - كما ذهب إليه أفضل الحكماء المحقّق الطوسيّ والإمام الرازيّ والمحقّق الشريف ومن يحذو حذوهم(3) - بناءً على أنّه هو الملتفت إليه بالذات، وأنّ الصورة إنّما هي مرآة لملاحظته وآلة لدركه، ولذا قد يحصل الالتفات إلى الأمر الخارجيّ من دون شعور بالصورة، بل مع إنكارها، كما للمتكلّمين النافين للوجود الذهنيّ.
فعلى هذا من قال بالأوّل في تلك المسألة -كالشيخين الفارابيّ والرئيس وأضرابهما- يلزمهم القول بوضع الألفاظ للصور الذهنيّة فيما نحن فيه، ومن قال بالثاني كمن تقدّم ذكرهم، يلزمهم القول بوضعها للأمور الخارجيّة.
حيث قال في الحاشية المذكورة:
ص: 259
أنّهم قد اختلفوا أنّ الألفاظ إمّا موضوعة للصور الذهنيّة، أو للمعلوم الخارجيّ؟ وقد اختلفوا أيضًا في أنّ المعلوم بالذات هل هو الصورة الذهنيّة، أو المعلوم الخارجيّ؟ والظاهر أنّ الخلاف الأوّل يتفرّع على الخلاف الثاني، إذ لا شكّ أنّ الألفاظ موضوعة لما هو معلوم بالذات، انتهى(1).
والظاهر أنّ الأمر كذلك، إذ لا بدّ للواضع حين الوضع من العلم بالموضوع له، واختصاص المعلوم بالتبع بالوضع وإهمال المعلوم بالذات بعيد جدًّا، فتأمّل.
والمستفاد من كلام صاحب المحاكمات في مسألة المعلوم بالذات أنّ المعلوم بالذات في الموجودات الخارجيّة هو الموجود الخارجيّ، وفي غيرها الصور الذهنيّة(2).
والظاهر أنّ هذا التفصيل هو مراد المحقّق الطوسيّ ومشاركوه وإن كانت كلماتهم مطلقة، إذ كيف يتوهّم في شأن أمثالهم أنّ المعلوم بالذات في غير الموجودات الخارجيّة أيضًا هو الموجود الخارجيّ عندهم، مع أنّ ذلك ممّا لا يتفوّه به مَن له أدنى فطنة، فضلًا عن هؤلآء الأجلّة.
فعلى هذا ما ذكره الفاضل الباغنوي في حاشيته على المحاكمات(3) بعد نقل القولين في المعلوم بالذات: «أنّه لم يذهب أحدٌ إلى أنّ المعلوم في الموجودات
ص: 260
الخارجيّة هو الموجود الخارجيّ وفي غيرها هو الصور الذهنيّة، كما يستفاد من كلام صاحب المحاكمات»، ممّا لا وجه له، منشؤه إطلاق القولين في بادي الأمر.
ثمّ على البناء المذكور من كون النزاع فيما نحن فيه مبنيًّا على النزاع في مسألة المعلوم بالذات، يكون وضع الألفاظ عند هؤلاء الأعلام للأمور الخارجيّة في الموجودات الخارجيّة، والذهنيّة في الموجودات الذهنيّة، فهذا القول إمّا يكون قولًا خامسًا في المسألة، أو لا، بل يرجع إطلاق القول الأوّل إليه، وهو الظاهر؛ لأنّ احتمال وضع اللفظ للأمر الخارجيّ في غير الموجودات الخارجيّة ممّا لا يصدر من عاقل، فحينئذٍ يندفع عنه بعض ما أوردنا عليه سابقًا.
إن قيل: إنّ عدم إمكان إرادة الإطلاق من مقالة القائلين بأنّ المعلوم بالذات هو الأمر الخارجيّ، إنّما هو إذا حمل الأمر الخارجيّ في كلامهم على معناه المعلوم لما تقدّم، لكنّه ليس بلازم؛ لجواز أن يكون المراد بالأمر الخارجيّ مقابل الصورة -أي الماهيّة من حيث هي- أو الموجود في نفس الأمر، بناءً على أنّ جميع المفهومات موجودة في نفس الأمر؛ لأنّها تصلح أن تصير موضوعات لقضايا إيجابيّة صادقة.
قلنا: هذا مع ما فيه من شدّة مخالفته للظاهر، إنّما يصحّ في الكلّيّات، وأمّا الأشخاص فلا؛ لوضوح أنّه ليس المعلوم في «زيد» ونحوه الماهيّة الإنسانيّة، بل شخصه، والموجود في نفس الأمر يصدق على الماهيّة والصورة، فجعله في مقابل(1) الصورة لما عرفت من أنّ المعلوم بالذات بناءً على القول الأوّل الصور غيرُ
ص: 261
صحيح، بل لا يصحّ جعله في مقابل(1) شيء أصلًا؛ لأنّ كلّ شيء موجود في نفس الأمر بالمعنى المذكور.
نعم، يمكن أن يكون مرادهم بالأمر الخارجيّ ذا الصورة، فيشمل الماهيّة من حيث هي والشخص الخارجيّ والذهنيّ، فمرجع القولين حينئذٍ أنّ المعلوم بالذات إمّا الصور(2) الذهنيّة، أو ذو الصور؛ وهو في الكلّيّات والجزئيّات الذهنيّة الماهيّة الّتي يلتفت إليها في ضمن الصورة الحاصلة في الذهن وفي الجزئيّات الخارجيّة نفسها.
فعلى البناء المذكور يكون وضع الألفاظ عند أرباب هذا القول لذي الصور، فعلى هذا يمكن إرادة هذا المعنى من الأمر الخارج في القول الأوّل فيما نحن فيه؛ وهو أنّ الألفاظ موضوعة للأمور الخارجيّة، فلا يكون القائل بالقولين في المسألتين(3) مختلفًا، بل يكون القول الأوّل حينئذٍ بالمآل هو القول الرابع، فيقلّ النزاع في المسألة.
والفاضل المحقّق الخوانساريّ(4) جعل النزاع بين القولين المذكورين فيما نحن فيه وفي مسألة المعلوم بالذات لفظيًّا عند صحّة البناء المذكور من كون النزاع في
ص: 262
هذه المسألة مبنيًّا على النزاع في تلك، بناءً على أنّ مراد المحقّق الطوسيّ ومشاركوه من كون الأمر الخارجيّ معلومًا بالذات إنّما هو في الموجودات الخارجيّة، وأمّا في غيرها فالصور الذهنيّة.
فمقتضى البناء المذكور أن يكون الوضع في الأوّل للأمر الخارجيّ، وفي الثاني للصور، ومقتضاه أيضًا أنّ الشيخ الرئيس والفارابيّ ممّن ذهب(1) إلى أنّ الوضع للصور الذهنيّة؛ ولمّا استبعد من مثلهما المصير إلى وضع اللفظ للصورة في الموجودات الخارجيّة أيضًا، يجعل مذهبهما أنّ الوضع للصورة في غيرها، وأمّا فيها فلها، وهو التفصيل المذكور.
ولمّا كان المفروض أنّ هذا النزاع متفرّع على النزاع في مسألة المعلوم بالذات، يلزم أن يكون مذهبهما فيها التفصيل المذكور في كلام المحقّق الطوسيّ، فرجع مآل القولين في مسألة الوضع إلى شيء واحد؛ وهو أنّ الوضع في الموجود الخارجيّ للأمر الخارجيّ، وفي الموجود الذهنيّ للصورة؛ وهو مآل القولين في مسألة المعلوم بالذات، فجعل فساد الحكم بكون المعلوم بالذات الأمر الخارجيّ بعنوان الإطلاق دليلًا على التفصيل المتقدّم، ومنه اهتدي بمعونة البناء المذكور إلى تشخيص المذهب في مسألة الوضع.
ولمّا علم مذهب الشيخين أنّ المعلوم بالذات هو الصور، علم بمعونة البناء أنّ وضع الألفاظ للصور؛ ولمّا كان القول بوضعها للصور مطلقًا ولو في الموجودات
ص: 263
الخارجيّة فاسدًا، جعل ذلك دليلًا على أنّ مذهبهما ليس الإطلاق، بل التفصيل، ومنه اهتدي بمعونة البناء المذكور أنّ ما يفهم من ظاهر كلامهما من كون المعلوم بالذات هو الصور مطلقًا، ليس ممّا يقولان به، بل المراد ما عدا الموجودات الخارجيّة، فيصير النزاع بين الفريقين لفظيًّا في كلتا المسألتين.
وأنت خبير بأنّه لو فتحت أبواب أمثال التكلّفات المذكورة لرفع النزاع في المسائل الخلافيّة؛ لأمكن رفعه(1) في كثير من المواقع المختلفة لو لم يمكن في جميعها.
وكيف كان أنّ القول بكون الألفاظ بأسرها موضوعة للصور الذهنيّة ممّا لا شبهة في فساده ما دام محمولًا على ظاهره.
ويمكن أن يكون مرادهم التنبيه على ما أشرنا إليه سابقًا من أنّها لم يكن موضوعة للمعاني النفس الأمريّة الخارجيّة الّتي غير محتملة للمخالفة، بل للمعاني الخارجيّة الّتي علم في الذهن أنّها كذلك، فالفرس مثلًا ليس موضوعًا لما هو فرس في الخارج ونفس الأمر بحيث لا يحتمل المخالفة، بل للفرس الّذي علم بعنوان الفرسيّة وتمثّلت منه صورة الفرسيّة في الذهن ولو مع مخالفته للواقع، فيكون مآل هذا القول على هذا التقرير: أنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الخارجيّة الّتي علمت انّها كذلك، لا المعاني الخارجيّة الّتي طابقت للواقع غير محتملة للمخالفة.
وحمل مقالتهم على هذا المعنى وإن كان مخالفًا للظاهر في نفسه، لكن لا يبعد أن يجعل ما تمسّكوا به في إثبات المرام من تغيّر تسمية الأشباح عند تغيّر الصور على ما
ص: 264
تقدّم مؤيّدًا لإرادة هذا المطلب ومؤكّدًا في إعانة هذا المقصد، فيكون مرامهم على هذا أنّه ليس وضع الألفاظ للمعاني الخارجيّة الواقعيّة، وإلّا يلزم أن لا يمكن(1) التسمية في الشيء الخارج(2) عند تخيّلنا إيّاه خلاف ما هو في الواقع، وأن لا يتغيّر التسمية بتعقّلنا إيّاه أمورًا متغايرة، بل هي موضوعة للأمور المعلومة.
وحينئذٍ لا يرد عليه إلّا أمران:
الأوّل: مطالبة اطّراد هذا المعنى في جميع الألفاظ، مع أنّ من الألفاظ ما لا خارج لمسمّياتها، كالألفاظ الموضوعة للأمور الكلّيّة، وبالجملة: الألفاظ الموضوعة للمعاني المعدومة.
ويمكن أن يتصدّى في إثباته بأن يقال: إنّ مرامهم من وضع الألفاظ للصور الذهنيّة أنّه للأمور المعلومة، لا للأمور المطابقة في الواقع، فعلى هذا لا شبهة في إمكان اطّراده في جميع الألفاظ، أمّا في الموجودات الخارجيّة فقد عرفت، وأمّا في غيرها فبأن يقال: إنّ ألفاظ الكلّيّات موضوعة لما علمناه كلّيًّا، لا لما يكون كلّيًّا في نفس الأمر والواقع(3)، وهكذا في الجزئيّات الذهنيّة.
فعلى هذا الاحتمال يمكن رجوع النزاع بين القولين من وضع الألفاظ للأمور الخارجيّة والأمور الذهنيّة لفظيًّا بأن يكون المراد من(4) الأمور الخارجيّة خلاف
ص: 265
الصور الذهنيّة من حيث إنّها علم، ومن(1) الصور الذهنيّة الأمور المعلومة، فتأمّل.
والثاني: عدم انتهاض حجّتهم في إثبات هذا المرام؛ وهذا حقّ قد أومأنا إليه فيما سلف ونصرف زمام الكلام إليه فيما غبر مع زيادة تحقيق بمعونة فيّاض التحقيق وربّ التوفيق.
والقول الثالث: - وهو أنّ الألفاظ بأسرها موضوعة للماهيّة من حيث هي، مع قطع النظر عن تحقّقها في أحد الظرفين(2) - مختار جماعة من المتأخّرين(3)، منهم: الفاضل الباغنوي، لتوهّمه أنّ ما ذكر في إثبات القول الثاني إنّما يتمّ إذا كان المراد من الصورة الذهنيّة الماهيّة من حيث هي، فإنّه قد يطلق(4) الصورة على الماهيّة على ما ذكره في حاشيته على الإشارات(5)، بخلاف ما إذا كان المراد من الصورة الذهنيّة معناها الظاهر، فإنّه لا يلزم من عدم كونها موضوعة للأمور الخارجيّة وضعها
ص: 266
للصور الذهنيّة؛ لجواز وضعها للماهيّة من حيث هي.
وربّما استدلّ عليه بأنّه لمّا لم يكن القول بوضع الألفاظ للموجودات الخارجيّة ولا للصور الذهنيّة، تعيّن القول بوضعها للماهيّة.
وفي كليهما نظر، أمّا في الأوّل: فلانّا لا نسلّم أنّ مقتضى ما ذكر في إثبات القول الثاني الوضع للماهيّة من حيث هي(1)؛ وعلى فرض التسليم نمنع أن يكون مقتضاه انحصار الوضع في الألفاظ للماهيّة من حيث هي؛ لتماميّته ولو بوضع بعض الألفاظ لها، كما يظهر وجهه للمتأمّل(2).
ثمّ إنّ إطلاق الصورة الذهنيّة على الماهيّة من حيث هي لا يخفى ما فيه، والّذي يظهر من كلام صاحب المحاكمات(3) في مسألة الوجود الذهنيّ إطلاق الصورة على
ص: 267
الماهيّة المعلومة، أي باعتبار وجودها الذهنيّ، لا إطلاقها على الماهيّة من حيث هي.
وأمّا في الثاني: فهو أنّ الّذي ظهر من المباحث السالفة فساد القول بوضع الألفاظ بأسرها للموجودات الخارجيّة أو الذهنيّة، ولا يلزم منه انحصار الوضع للماهيّة من حيث هي؛ لجواز أن يكون الوضع في البعض للموجود الخارجيّ، وفي بعض للموجود الذهنيّ، وفي آخر للماهيّة من حيث هي، كما هو القول الرابع في المسألة.
وكيف مع أنّ وضع الألفاظ للماهيّة من حيث هي إنّما يكون مسلّمًا في الكلّيّات، وأمّا في الأشخاص فلا؛ لوضوح أنّ اللفظ الدالّ على الشخص -كزيد مثلًا- لو كان موضوعًا للماهيّة من حيث هي؛ لكانت تلك الماهيّة إمّا ماهيّة الإنسان، أو غيرها، وكلاهما بيّن الفساد ضروريّ البطلان، والملازمة بيّنة.
أمّا بطلان الشقّ الأوّل من التالي، فلأنّه حينئذٍ يكون المفهوم من لفظ «زيد» مثلًا عين المفهوم من لفظ «الإنسان»، وفساده من فرط الظهور كالنور في ليلة الديجور؛ لاستلزامه أن يكون «زيد» الجزئيّ الحقيقيّ كلّيًّا ويلزم منه انحصار الألفاظ في الكلّيّات، وهو ممّا يشهد اتّفاقهم، بل الضرورة على خلافه، وكيف مع أنّ نفس تصوّر مفهومه يمنع عن الشركة بين كثيرين، ومفهوم الإنسان غير مانع عنها.
وأمّا بطلان الشقّ الثاني منه فكذلك، إذ لا ماهيّة لزيد غير ماهيّة الإنسان مع قطع النظر عن وجوده في الذهن أو في الخارج حتّى يكون هي الموضوع لها، بل ماهيّته هي ماهيّة الإنسان، إذ الحقّ عند أرباب التحقيق أنّه ليس في هويّة كلّ شخص سوى ماهيّته الكلّيّة، فإنّها إذا وجدت في أيّ من الظرفين المعلومين صارت متشخّصة بدون انضمام شيء إليها، فإن كان الخارج كانت شخصًا
ص: 268
خارجيًّا، وإن كان الذهن كانت شخصًا ذهنيًّا، وتشخّص كلّ شخص بنحو وجوده الخاصّ به.
والقول بأنّه يدخل في هويّة كلّ شخص أمرٌ سوى الماهيّة الكلّيّة، يكون نسبته إلى الماهيّة النوعيّة نسبة الفصل إلى الجنس، خلاف التحقيق كما بيّن في محلّه، فظهر ممّا ذكر أنّه ليس للأشخاص ماهيّة سوى ماهيّاتها الكلّيّة، وقد علمت أنّ الألفاظ الدالّة على الأشخاص ليست موضوعة بإزاء تلك الماهيّات، وبالجملة: إنّ القطع حاصل بأنّ الأعلام الشخصيّة موضوعة لمسمّياتها الخارجيّة، فالحكم بوضع الألفاظ بأسرها للماهيّات من حيث هي فاسد.
إن قلت: إنّ العَلَم لو كان موضوعًا للشخص، لزم أن لا يصدق على ذلك المسمّى في غير حالة الوضع؛ لعدم بقاء ذلك الشخص بعينه، فينبغي أن يكون موضوعًا للمعنى العامّ الصادق عليه حين الوضع وبعده، وهو الماهيّة.
قلنا: إنّه موضوع لذلك الشخص على وجه يمتاز به عن ما عداه، بمعنى أنّه لوحظ منه في الوضع بالميزة(1) عن غيره، وهذا المعنى متحقّق معه في جميع الحالات.
وممّا يؤكّد المرام أنّ زيدًا لو كان موضوعًا للماهيّة من حيث هي، لزم صدقه على كلّ ما تحقّقت فيه الماهيّة، بل عليها نفسها، وبطلانه غنيّ عن البيان.
لا يقال: إنّه موضوع للماهيّة مع ذلك التشخّص، فلهذا لا يصدق على غيره؛ لأنّ الوضع حينئذٍ ليس للماهيّة من حيث هي، والماهيّة مع التشخّص هو الشخص.
ص: 269
فالحقّ بين الأقوال هو القول الرابع، وهو أنّ الوضع في الجزئيّات الخارجيّة للموجودات الخارجيّة، وفي الذهنيّة للذهنيّة، وفي الكلّيّات للماهيّة من حيث هي، وممّا ذكر في الأقوال المذكورة من النقض والإبرام، يظهر الوجه في ذلك، فلاحظه بعين البصيرة حتّى يظهر لك حقّيّة(1) المقال.
وممّا يؤكّد ذلك ما سيجيء من أنّ الوضع في الضمائر وأسماء الإشارة والمبهمات عامّ والموضوع له خاصّ، والأدلّة الدالّة على ذلك وفساد القول بأنّ الموضوع له فيها عامّ أدلّة على فساد القول بأنّ وضع الألفاظ للماهيّة من حيث هي كما لا يخفى.
ثمّ إنّ تنقيح المقام يستدعي بيان أمور:
أمّا الإيراد فهو أنّه لو كانت الألفاظ في الجزئيّات الخارجيّة موضوعة للأمور الموجودة، لما صحّ الحكم عليها بالوجود والعدم الخارجين(2)؛ ولما جاز التردّد في كونها موجودة في الخارج أو لا، والتالي باطل.
ص: 270
أمّا الملازمة فلأنّه يلزم بناءً على هذا التقدير.
أن لا يكون قولنا: «زيد موجود في الخارج» مفيدًا أصلًا؛ لكونه بمنزلة قولك: «زيد الموجود في الخارج موجود في الخارج».
والتناقض في قولنا: «زيد ليس بموجود في الخارج»، إذ هو بمنزلة قولك: «الموجود في الخارج ليس بموجود فيه».
والتردّد في الشيء المعلوم الوجود بين وجوده وعدمه.
وكذا لما جاز الاستفهام عن وجود «زيد» وعدمه في قولك: «زيد هل موجود أم لا؟»؛ لكونه استفهامًا فيما علم وجوده عن وجوده وعدمه.
وأمّا بطلان التوالي فمعلوم بالوجدان وغنيّ عن البيان.
ولو كان الوضع في الكلّيّات للماهيّات من حيث هي؛ لما كانت عند استعمالها في الجزئيّات حقيقة، والملازمة ظاهرة؛ لكون المستعمل فيه غير الموضوع له والموضوع له غير المستعمل فيه.
وأمّا بطلان التالي فلوضوح أنّ: «دخلت الدار» و«أكلت الخبز» و«شربت الماء» وما ضاهاها مع استعمالها في الجزئيّات حقائق كما عرفت سابقًا.
وأيضًا أنّ كثيرًا من أشباه تلك الألفاظ - كالصلاة والزكاة والصوم وأشباهها - قد علّق طلب الشارع بها، والماهيّة من حيث هي غير مقدور عليها، فلو كان الوضع فيها للماهيّات من حيث هي، لزم أن يكون متعلّق طلب الشارع ما لا
ص: 271
يكون مقدورًا عليه.
وأمّا الدفع عن الإيراد الأوّل، فيمكن من وجهين:
الأوّل: أنّ غاية ما يلزم من وضع اللفظ للموجود في الخارج أن يكون الخارج ظرفًا لوجوده، ومن المعلوم أنّه لا يلزم من ظرفيّة شيء لآخر دوامها واستمرارها؛ لعدم كون المظروف واجب الوجود الّذي امتنع انتفاؤه، فيكون انقطاع الظرفيّة في كلّ آنٍ محتملًا.
فعلى هذا يكون الإخبار عمّا وضع للموجود في الخارج بالوجود فيه إنّما هو لرفع هذا الاحتمال والتنبيه على بقاء الظرفيّة حال الخطاب، وبالعدم إنّما هو لتحقّق الاحتمال وانقطاع الظرفيّة، ولا شبهة أنّه فائدةٌ عظيمةٌ لم تكن حاصلة للمخاطب، وكلّ من التردّد في الوجود والعدم والاستفهام عنهما إنّما هو لذلك، ومن الأمور المعتبرة في التناقض وحدة الزمان، وهي منتفية في المقام، إذ معنى قولنا: «زيد ليس بموجود» الموجود في الخارج في الماضي ليس بموجود في الحال.
والثاني: أنّ المحذور إنّما يتوجّه إذا كان الوجود الخارجيّ مثلًا جزءًا للموضوع له، فإنّ العلم بالموضوع له حينئذٍ يستلزم العلم بجزئه، فيلزم أن لا يكون قولنا: «زيد موجود» مفيدًا، والتناقض وهكذا إلى آخر ما قدّمناه؛ أو كان وصفًا محقّقًا له،
ص: 272
فإنّ الحكم بالوجود حينئذٍ في قولنا: «زيد موجود» يستلزم أن يكون لغوًا وغير مفيد، وبالعدم يوجب التناقض والتردّد بينهما، والاستفهام عنهما بمنزلة التردّد والاستفهام عن اللازم مع القطع بوجود الملزوم.
لكنّه ليس كذلك، بل هو وصف تقديريّ، بمعنى أنّ وضع الألفاظ للذوات المعيّنة الّتي لو وجدت لكانت موجودة في الخارج، فعلى هذا يمكن أن يكون اللفظ موضوعًا للمعنى الخارجيّ ولا يكون موجودًا في الخارج، إمّا بأن لم يوجد أصلًا، أو وجد وطرأ عليه العدم؛ وحينئذٍ يمكن الإخبار بالوجود والعدم والتردّد بينهما والاستفهام عنهما كما لا يخفى.
والجواب الأوّل أولى، يظهر وجهه للمتأمّل فيهما.
وأمّا عن الإيراد الثاني فبالمعارضة والمنع، أمّا الأوّل فبأن يقال: لو لم يكن الوضع في الكلّيّات للماهيّات، لزم أن لا يكون استعمالها فيها على وجه الحقيقة، والملازمة ظاهرة، وبطلان التالي أظهر.
وأمّا الثاني: فهو أنّ ذلك إنّما يكون متوجّهًا إذا لم يمكن استعمال اللفظ الموضوع للماهيّة في أفرادها إلّا على وجه المجاز، وهو غير صحيح؛ لأنّ المسلّم عند أئمّة الأصول والعربيّة أنّ لفظ العامّ والكلّي إذا أُطلق على الخاصّ والجزئيّ لا باعتبار الخصوصيّة والجزئيّة، بل باعتبار العموم، فهو ليس من المجاز.
ص: 273
وتحقيقه على ما لا مزيد عليه يُطلب من حواشينا على معالم الأصول(1).
وهنا نقول: إنّ هذا الحكم بناءً على القول بوجود الكلّيّ الطبيعيّ وأنّ وجوده بعين وجود أفراده بأن يكونا موجودين بوجود واحد، ظاهرٌ، وأمّا على القول بعدم وجوده فمشكل؛ إذ الموضوع له - وهو المعنى العامّ - غير موجود في ضمن الفرد وبوجوده؛ وحينئذٍ لا يكون المستعمل فيه إلّا الفرد، وهو غير الموضوع له، فلا يمكن حينئذٍ أن يكون الاستعمال في الفرد إلّا على وجه المجاز.
فعلى هذا لا يندفع أصل الإيراد من أنّ الوضع في الكلّيّات لو كان للماهيّات لما كان استعمالها في الأفراد إلّا على وجه المجاز، وهو باطل لما تقدّم، فلا يكون الوضع فيها بإزائها.
ويمكن أن يقال: إنّ إمكان الاستعمالين مبنيٌّ على القول الأوّل، وهو الصحيح، فلمّا كان القول الثاني -وهو نفي الوجود الطبيعيّ مطلقًا- فاسدًا، فلا يلتفت إليه.
ولقائل أن يقول: سلّمنا ذلك، لكن مقتضاه إمكان كلّ من الاستعمالين، وفيما نحن فيه ليس الاستعمال إلّا على الحقيقة، إذ لا يمكن استعمال لفظ «الخبز» و«الماء» و«الدار» وما ضاهاها في الفرد على وجه المجاز؛ لتحقّق أمارة الحقيقة في كلّ موضع.
وبالجملة: إنّ مقتضى ما ذكر أنّه لو استعمل الكلّيّ وأريد منه المعنى العامّ في
ص: 274
ضمن الفرد كان حقيقة، ولو استعمل في خصوص الفرد كان مجازًا؛ ومن المعلوم أنّ الألفاظ الّتي كلامنا فيها حين استعمالها في الخصوص تحقّقت فيها أمارة الحقيقة من التبادر وعدم صحّة السلب والاطّراد، فاستعمالها(1) في خصوص الأفراد لا يكون إلّا على وجه الحقيقة، فلا يتمّ الجواب.
ويمكن أن يقال في دفع الإيراد: إنّ المراد(2): أنّ وضع الألفاظ في الجزئيّات الخارجيّة لها إلخ، وهذه الأفراد الخارجيّة هي الجزئيّات المذكورة، إذ كلّ واحد منها يمتنع صدقه على غيره فضلًا عن صدقه على كثيرين، فتكون تلك الألفاظ موضوعة بإزائها، كما أنّها موضوعة للمعاني الكلّيّة أيضًا، فعدم كون الاستعمال في تلك الأفراد إلّا على وجه الحقيقة غير منافٍ للمطلوب، بل يؤكّده.
لكن يتوجّه عليه شيئان:
الأوّل: أنّه بناءً على ذلك لا معنى للحكم بأنّ استعمال الكلّيّ في الفرد يكون على وجهين؛ لما عرفت من أنّ استعمال اللفظ حينئذٍ في الفرد على وجه الحقيقة أبدًا، كما أنّ استعماله في الماهيّة من حيث هي كذلك.
ص: 275
والثاني: أنّه يلزم بناءً على ما ذكر أن تكون الألفاظ الموضوعة للماهيّات الّتي لها أفراد خارجيّة أو ذهنيّة مشتركة، فيلزم اشتراك أكثر الألفاظ، وهو غير صحيح؛ لأنّ تتبّع الكتب المصنّفة في اللغة مكذّب إيّاه، وانتفاء أمارة الاشتراك فيها من عدم الحمل إلّا على البعض المدلول عليه بالقرينة مبطل له، وقضيّة أكثريّة المجاز من الاشتراك كما صدرت من فحول الأعلام مفسدة فيه.
والحقّ في الجواب هو ما تقدّم، بأن يقال: إنّ تلك الألفاظ عند استعمالها في الأفراد إنّما تكون حقيقة في الصورة المفروضة، وأمّا عند استعمالها في خصوص
-الأفراد ويكون الخصوصيّة مرادة منها بأن يكون الدالّ واحدًا والمدلول متعدّدَ المعنى العامّ والخصوصيّة- فلا.
ودعوى تحقّق خواصّ الحقيقة فيها ممنوعة.
تحقيق ذلك: هو أنّ دعوى تبادر الجزئيّات الخارجيّة من لفظ «الخبز» و«الدار» ونحوهما، إمّا أن يكون عند اقترانها بالقرائن الدالّة عليها، كما في قولك: «أكلت الخبز» و«شربت الماء» و«دخلت الدار» وهكذا، أو مطلقًا حتّى يكون المتبادر من «الدار» و«الخبز» ونحوهما الأفراد الخارجيّة.
وعلى الأوّل: وإن كان التبادر مسلّمًا، لكنّه ليس من خواصّ الحقيقة؛ لاستلزامه انسداد باب المجاز بالمرّة؛ لوضوح أنّ المعاني المجازيّة بأسرها متبادرة عند الاقتران بالقرائن الدالّة عليها، وقد مرّ تحقيق الحال في ذلك مشروحًا في بحث التبادر، من أراد أن يظهر له حقيقة الحال ولِمُّ المقال، فعليه بتدقيق النظر في ذلك.
ص: 276
وعلى الثاني: نمنع(1) دعوى تبادر الخصوصيّات عند انتفاء العهديّة، فالتبادر المعتبر في إثبات الحقيقة غير متحقّق فيها، والمتحقّق غير معتبر.
وأمّا الاطّراد: فهو وإن كان مسلّمًا؛ لوضوح أنّ استعمال «الخبز» في الفرد(2) المعهود إنّما هو لتحقّق المعنى المعلوم فيه، وهو يصحّ في كلّ ما يتحقّق فيه ذلك؛ وهكذا الحال في «الماء» و«الدار» ونحوهما، لكن قد عرفت ممّا أسلفناه في بحثه أنّه غير ناهض في إثبات الحقيقة.
وأمّا السلب: فهو وإن لم يكن صحيحًا؛ لظهور أنّه لا يصحّ في أفراد «الخبز» مثلًا أن يقال: إنّها ليست بخبز، ولمن يأكله: أنّه ما يأكل خبزًا، وهكذا في أمثاله، لكنّه لم يثبت منه كون اللفظ حقيقة في خصوص الفرد.
تحقيق ذلك يستدعي أن يقال: إنّ المعنى الكلّىّ -بناءً على التحقيق- لمّا كان موجودًا بوجود الفرد بأن يكونا موجودين بوجود واحد، صحّ حمل العامّ عليه بحمل هو هو، بأن يقال: هذا خبز، وهذه دار، وزيد إنسان، وما ضاهاها، مع أنّ المعتبر في الحمل: الاتّحاد الذاتيّ والتغاير الاعتباريّ، فلو لم يكونا متّحدين بالذات لما صحّ الحمل، وصحّة الحمل الإيجابيّ مستلزمة لأن لا يصحّ الحمل السلبيّ بأن يقال: «إنّه ليس بخبز»، أو: «زيد ليس بإنسان» ونحوهما؛ لاستلزامه اجتماع النقيضين.
ولمّا كان الوجه في الحمل كونهما موجودين بوجود واحد، فسلب الحمل يستلزم
ص: 277
سلبه، فيلزم اجتماع النقيضين، لكنّ الّذي يلزم من ذلك أنّ انتفاء السلب إنّما هو بالنسبة إلى المعنى العامّ الّذي بتحقّقه في ضمن الخاصّ وبوجوده صحّ حمله عليه.
ومن المعلوم أنّ عدم السلب إنّما يقتضي حقيقيّة اللفظ فيما لا يصحّ سلبه عنه، وهو فيما نحن فيه المعنى الكلّيّ، وحقيقيّة اللفظ بالنسبة إليه ممّا لا تنكر، وهو ما قدّمنا من أنّه إذا استعمل لفظ الكلّيّ في الخاصّ باعتبار العموم لا باعتبار الخصوص لا يكون مجازًا، ولا يلزم منه أن يكون لفظ الكلّيّ حقيقة في خصوص الجزئيّات، إذ عدم السلب لم يثبت بالنسبة إليها، بل خلافه متحقّق.
ألا ترى أنّه يقال: «زيد ليس بإنسان فقط»، وكما يصدق ذلك فليصدق: «هذه ليست بدار فقط»، و«هو ليس بخبز كذلك»، إذ لا افتراق بينهما من هذه الجهة؛ غاية ما في الباب أنّ الفرد الإنسانيّ عيّن له اسم بخصوصه وراء الإنسان، بخلاف أفراد «الخبز» بالنسبة إليه، وهو لا يصلح فارقًا فيما نحن بصدد بيانه، بل ذلك إنّما هو لتحقّق الدواعي في ذلك التعيين من المخاطب(1)، وغيره هناك وانتفائها فيما نحن فيه.
وممّا ذكر ظهر أنّ المراد من كون الوضع في الجزئيّات الخارجيّة للموجودات الخارجيّة إنّما هو بالنسبة إلى الألفاظ الّتي عيّنت لها بخصوصها، كزيد وعمرو ونحوهما من أيّ نوع كان، لا بالنسبة إلى اللفظ الكلّيّ عند استعماله في الجزئيّات من حيث إنّها جزئيّاته.
ص: 278
هذا كلّه بالنسبة إلى الإيراد الأوّل على تقدير كون الوضع في الكلّيّات للماهيّات من حيث هي.
وأمّا الإيراد الثاني، فهو أنّا نقول: إنّ الماهيّة غير المقدورة إنّما هي الماهيّة بشرط لا، لا الماهيّة اللابشرطيّة(1)؛ لظهور إمكان إيجادها في ضمن بعض الأفراد، وما نحن فيه من هذا القبيل، فامتناع تعلّق طلب الشارع بمطلق الماهيّات غير مسلّم.
وممّا يتوهّم(2) تفريعه على هذه المسألة هو النظر إلى صورة الأجنبيّة للرجل(3) والأجنبيّ للمرأة المرتسمة في الماء والمرآة والجدار والخشب ونحوها، فإنّه بناءً على القول بأنّ وضع الألفاظ للأمور الخارجيّة ينبغي أن يجوز النظر إليها، بخلافه على القول بأنّ وضعها للصور؛ وكذلك الحال في الأدعية والأذكار الموظّفة وغيرها، فإنّه على القول بوضع الألفاظ للصور ينبغي أن يتأتّى الامتثال بتخيّلها، بخلافه على القول الآخر.
لكنّه غير صحيح، إذ القائل بأنّ وضع الألفاظ للصور لم يقل بوضعها لها مطلقًا، بل للصور الذهنيّة، والصور المنقوشة فيما ذكر ليست منها.
ص: 279
نعم، ربّما يتخيّل له وجه، بناءً على القول بحصول الأشياء بأشباحها في الذهن، فإنّ تلك الصور أيضًا أشباح، لكنّه أيضًا ليس بشيء؛ إذ له أن يقول: إنّ الصور الذهنيّة ما كانت مرتسمة في الذهن، مضافًا إلى أنّه منبئٌ أنّ ذلك القائل ممّن يقول بحصول الأشياء بأشباحها في الذهن، وهو غير معلوم، وأمّا حكاية الأدعية والأذكار فلا بأس بها(1).
لا يقال: يمكن أن يقال من قِبَله: إن كان المراد من الأذكار ممّا كان مستنده مثل أن يقال: «من ذكر فله كذا»، فنلتزم ذلك، وما الدليل على بطلانه؟! وإن كان المراد ممّا يكون مستنده مثل من قال: «كذا فله كذا»، فلا نسلّم أنّه يلزم بناءً على القول المذكور ما ذكر؛ لوضوح أنّ القول لا يتحقّق إلّا باللسان.
لأنّا نقول بعد غمض العين عن الأوّل: إنّ المفروض أنّ الألفاظ بأسرها موضوعة للصور الذهنيّة، ومنها لفظ «القول»، فيلزم المحذور، بل يلزمه الحكم بعدم الامتثال فيما إذا قرأها مع الغفلة عن صورها الذهنيّة.
ولك أن تقول أيضًا: إنّه يلزم بناءً على ظاهر القول المذكور جواز النظر إلى المرأة الخارجيّة، إذ مقتضى كون الأصل في الاستعمال الحقيقة حمل الألفاظ على معانيها الحقيقيّة، والمفروض أنّ الموضوع له الصورُ الذهنيّة، لا الأمور الخارجيّة، فبعد حمل الأدلّة الدالّة على الحرمة على حقيقتها يلزم ما ذكر، وهكذا الحال في أمثاله، بخلافه على القول بوضعها للأمور الخارجيّة إمّا مطلقًا، أو على التفصيل المتقدّم.
ص: 280
وبالجملة: لا بدّ لهذا القائل إمّا أن يلتزم ما ذكر، أو يقول بمجازيّة الألفاظ بأسرها، وشيء منهما ممّا لا يلتزم؛ وهو دليل آخر على فساد القول المذكور -ما حمل على ظاهره- أظهرُ ممّا سلف كما لا يخفى على من تدبّر وتفطّن.
والأمر الثاني: هو أنّ وضع الألفاظ للمعاني ما كانت معانٍ باعتقاد المستعمل والمكلّف، أو(1) في نفس الأمر والواقع
وهذا المبحث(2) من أهمّ المباحث في الباب، وكم قد يتفرّع عليه من الثمرات، مثلًا أنّ الشارع أمر بإيقاع الصلوات في مواقيتها وإلى القبلة، واجتناب النجاسات فيها، وترك المحرّمات، وغير ذلك ممّا يكون على هذا المنوال.
فلو قلنا: إنّ المعاني الموضوع لها هي ما يكون باعتقاد المكلّف، يلزم صحّة الصلاة فيما إذا اعتقد الوقتيّة ما لم يكن كذلك، والفساد فيما إذا أوقعها في الوقت النفس الأمريّ مع اعتقاد خلافه، بل مع عدم الاعتقاد، وصحّة الصلاة فيما إذا أتاها مع النجاسة النفس الأمريّة مع عدم اعتقادها، وفسادها فيما إذا أتاها مع اعتقاد النجاسة ما لم يكن كذلك في نفس الأمر؛ وجواز النظر إلى امرأة يعتقدها من محارمه وإن لم تكن(3) كذلك في الواقع، وعدمه فيما إذا اعتقد خلافه كذلك.
ص: 281
والتحقيق في هذا المقام هو ما أومأنا إليه سابقًا من أنّها موضوعة للمعاني الواقعيّة النفس الأمريّة، وذلك ممّا لا ينبغي التأمّل فيه؛ لوضوح أنّ الواضع حين الوضع لا بدّ له من تعقّل المعنى وملاحظته ثمّ يضع اللفظ بإزائه، والقطع حاصل بأنّه لا التفات له إلى ما يعتقده المخاطب والمستعمل وإن كان مخالفًا للواقع، وإنّما التفاته إلى ما يكون في الواقع ونفس الأمر، وذلك معلوم بالعيان ويشهد له الرجوع إلى الوجدان.
ألا ترى أنّ من استعمل لفظًا في مورد على اعتقاد أنّه معناه وتبيّن مخالفته للواقع ومغايرته لنفس الأمر، يقال له: إنّك خابط في ذلك، ويحكم عليه بأنّه غالط هنالك، ولا أحد يتأمّل في ذلك، وليس ذلك إلّا لعدم إصابته بالواقع؛ فلو كان وضع الألفاظ لما يعتقده المستعمل أنّه معناه، لما كان له وجه.
وهذا يعمّ اللغويّة والشرعيّة والعرفيّة، لكن لمّا كان المقصود من وضع الألفاظ استعمالها في المحاورات والداعي لإيرادها في الخطابات الامتثال لتحصيل القربات، يجوز الاستعمال لكلّ مستعمل فيما اعتقد أنّه معناه في نفس الأمر.
وكذا الأخذ في الامتثال فيما اعتقد ذلك، ثمّ بعد الإتيان لا يخلو إمّا أن يظهر عليه المطابقة للواقع، أو المخالفة، أو لا هذا ولا ذاك؛ وفي الأوّل والثالث لا ينبغي التأمّل في حصول الامتثال؛ أمّا على الأوّل فظاهر، وأمّا على الثالث فلأنّه لم يثبت من الأدلّة المقرّرة للتكاليف أزيد من ذلك؛ على أنّ العلم بالمطابقة في كثير من الموارد من الأمور المستحيلة، فالتكليف بها خارج عن حدّ الطاقة.
ص: 282
وفي الثاني: يفتقر إلى النظر في الأدلّة الدالّة على اعتباره، فإن دلّ عليه جزئيّة كانت أو شرطيّة على العموم والإطلاق، كأركان الصلاة والطهارة والوقت مثلًا، ينبغي الحكم بالبطلان، فلا يحصل له الامتثال؛ وإلّا فلا، كالنجاسة، فإنّ ما دلّ على لزوم الاجتناب عنها في الصلاة إنّما هو بعد العلم بها.
وبالجملة: إنّ ما دلّ على بطلان الصلاة بها إنّما هو بعد العلم بها، فمطلق مصاحبة النجاسة لم يثبت إفسادها للصلاة، وهكذا الحال في غيرها ممّا يكون بهذا المنوال، وهذه قاعدة متقنة، وكم يترتّب عليها من الفروعات الجليلة، والتفرقة بين الموارد لا يكون إلّا بالنظر في الأدلّة.
فعلى هذا التقرير لا يلزم صحّة الصلاة مثلًا فيما إذا أتاها في الوقت النفس الأمريّ مثلًا مع اعتقاده خلافه؛ لأنّه منهيٌّ عن الصلاة إلّا إذا اعتقد الوقتيّة، فمع عدمه يكون الأخذ بها منهيًّا عنه، والنهي في العبادة(1) يستدعي الفساد، وهكذا الكلام في القبلة وأشباههما، فلاحظ وتتبّع وتأمّل ولا تختبط ولا تخلط بعض الأقسام بالآخر.
في أنّه هل يجوز الرجوع في الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة إلى الحقيقة العرفيّة أو اللغويّة، أم لا؟
ص: 283
فنقول: لا شبهة في أنّ اللازم حمل الألفاظ الصادرة من الشارع على مراده، فإن تبيّن ذلك فلا كلام فيه، سواء كان ذلك معنى حقيقيًّا أم مجازيًّا، وهو ظاهر.
وأمّا إذا لم يعلم ذلك، فهل يجوز الرجوع في تشخيصه(1) إلى العرف أو اللغة، فيحمل على الحقيقة العرفيّة أو اللغويّة؟ فيه تفصيل معروف، وهو أنّ ذلك اللفظ إن كان من أسام العبادات(2) -أي ما يتوقّف صحّتها على النيّة، كالوضوء والغسل والتيمّم والصلاة وأشباهها- فلا، وإن كان من المعاملات -أي ما لا يتوقّف صحّتها عليها- فنعم.
تحقيق الحال في هذا المرام يستدعي بسطًا في الكلام، فنقول: المعروف -بل قيل: لا خلاف- أنّ المرجع في نفس الأحكام الشرعيّة، سواء كانت تكليفيّة، وهي الوجوب والحرمة والندب والكراهة والإباحة، أي إثباتها لموضوعاتها، أم وضعيّة، ككون الشيء نجسًا وطاهرًا وشرطًا وسببًا ومانعًا وصحيحًا وفاسدًا وجزءًا، هو الشارع.
وأمّا موضوعاتها فقد اشتهر أنّها إن كانت من نفس العبادات بالمعنى المذكور
ص: 284
فكذلك، وإلّا فيرجع فيه إلى العرف أو اللغة، سواء كانت من المعاملات أم لا.
وكذا الحال في الألفاظ المستعملة في كلام الشارع لإفادة الأحكام، كلفظ الوجوب والحرمة وغيرهما، وبيان ماهيّة العبادات كما يقال مثلًا: إنّ الوضوء غَسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين، وغيرهما.
وبالجملة: إنّ المرجع في الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة بأسرها العرف أو اللغة، إلّا الألفاظ الّتي [هي] أسامٍ لنفس العبادات.
والوجه في كون الشرع المرجع في الأحكام يظهر من الإضافة؛ لأنّ الشيء ما لم يحكم به الشارع لا يكون حكمًا شرعيًّا، فإطلاق الحكم الشرعيّ على شيء إنّما يمكن بعد حكم الشارع بذلك، فالتوصّل إليه من غير جهته غير ممكن.
والأولى أن يقال في بيان ذلك: إنّ الواجب ما أوجب فعله الثواب والفوز بمعارج الرضوان، والإخلال به العقاب والوصلة إلى درك النيران، والحرام على عكس ذلك، وكذلك الحال في المندوب والمكروه والمباح، والإخبار بتلك الغايات إنّما يمكن في حقّ العالِم بعواقب الأمور والمطّلع بحقائق الأشياء البري عن رين الجهول.
وكذلك الحال في جعل الشيء مانعًا، أو جزءًا، أو شرطًا، أو سببًا، ونحوها؛ ومعلوم انحصاره في الشارع العليم، ولا يمكن التوصّل بذلك إلّا بإيقافه وإعلامه، فلذلك(1) يكون(2) الأحكام بأسرها توقيفيّة، وفي الموضوعات الّتي هي
ص: 285
العبادات وأنّها كيفيّات وحقائق محدثة من الشارع، فلا تكون معلومة إلّا له، فالتوصّل إليها من(1) غير إيقافه وإعلامه غير ممكن أيضًا، ولذا تراهم يقولون: إنّ الأحكام الشرعيّة والعبادات توقيفيّة.
ولا يخفى عليك أنّ الحكم المذكور من توقيفيّة ماهيّات العبادات غيرُ متوقّف على القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة، ولذا قال بها مَن لم يقل بها، إذ الظاهر أنّ الحكم المذكور اتّفاقيٌّ بينهم، والنزاع في الحقيقة الشرعيّة معلوم، بل متوقّف على استعمال الشارع الألفاظ المعهودة في المعاني المغايرة للمعاني اللغويّة، وهو ممّا لا شكّ فيه ولا ريب يعتريه إلّا على القول المعزى إلى القاضي(2)، ويلزمه عدم تسليم ذلك، لكنّه ممّا لا شبهة في فساده، وقد مرّ الكلام عليه في مباحث الحقيقة الشرعيّة، فلاحظ.
لكن يتوجّه في المقام وجوه من الإيرادات:
الأوّل: أنّ العقل عندهم معدودٌ من أدلّة الأحكام الشرعيّة، ومقتضاه كون الحكم المستند إليه شرعيًّا كما لا يخفى.
ص: 286
والثاني: أنّ من جملة الأحكام الوضعيّة الصحّة والفساد، والعلم بهما لا يتوقّف على الشرع؛ لوضوح أنّ المأمور به إذا أُوقع على الوجه المطلوب يكون صحيحًا وإلّا فاسدًا، فلا يصحّ إطلاق القول بكون الأحكام تكليفيّة أم وضعيّة توقيفيّة.
في توقيفيّة العبادات دون المعاملات
والثالث: أنّ الوجه المذكور في توقيفيّة العبادات يستدعي توقيفيّة المعاملات أيضًا، إذ القول بالمعاني الشرعيّة غير مختصّ بالعبادات كما لا يخفى.
فعلى هذا نقول: إنّ مقتضى القول بذلك أنّ الشارع(1) جعل تلك الألفاظ أسامي(2) لمعانٍ معلومة عنده، أو(3) استعملها فيها، ومن المعلوم أنّ العلم بوضع الألفاظ مثلًا لا يتيسّر إلّا من جهة الواضع، وهذا لا اختصاص له بموضوعات الشارع؛ لوضوح عدم إمكان الاطّلاع بأيّ اصطلاح كان إلّا من أهله، سواء فيه الشارع وغيره، ولهذا يقال: إنّ اللغات توقيفيّة وأنّها لا تثبت(4) بالترجيح.
ص: 287
ويمكن الجواب عن الأوّل بأنّ الأحكام الشرعيّة لها إطلاقان، الأوّل: ما حكم الشارع، والثاني: ما ينبغي أن يؤخذ من الشارع، ومرادهم من الأحكام الشرعيّة في هذا المقام المعنى الأوّل، وفيما عدّ العقل من أدلّتها المعنى الثاني؛ لوضوح أنّ حكم العقل بشيء لا يجعله ممّا حكم به الشارع كما لا يخفى، ونحن قد حرّرنا في حاشيتنا على المعالم(1) في تعريف الفقه ما ينفعك ملاحظته في المقام، فلا تنافي، فتأمّل.
وعن الثاني: بأنّ الصحّة لها معنيان: موافقة الأمر، وإسقاط القضاء، ويطلب تحقيق الحال في التفسيرين من حاشيتنا على تهذيب الأصول(2)، وسنتعرّض لهما فيما بعد إن شاء الله سبحانه.
والإيراد إنّما يتوجّه على الأوّل دون الثاني؛ ولعلّ بناء مَن عدّ الصحّة والفساد من الأحكام الوضعيّة على الثاني، فلا يكونان منها(3) على الأوّل، وستقف على مزيد تحقيق في ذلك.
ص: 288
وأمّا الجواب عن الثالث(1): فلا يمكن في بادي الرأي إلّا بتخصيص القول بالحقيقة الشرعيّة بالعبادات، إذ لو عمّ المعاملات تكون ألفاظها كالعبادات منقولات عن المعاني اللغويّة والعرفيّة إلى المعاني المستحدثة، فتكون معانيها الشرعيّة مغايرة لهما جميعًا كالعبادات، فلا وجه للرجوع في تشخيصها وتعيينها إليهما قطعًا، أو بدعوى توافق الوضع الشرعيّ مع واحد منهما في المعاملات، فحيث لم يعلم المعنى الشرعيّ يرجع إلى العرف أو اللغة لثبوت الموافقة كما هو المفروض، فبالعلم بأحد الأمرين المتوافقين يعلم الآخر المجهول.
ينافيه(1) قول الفقهاء في كتبهم الفقهيّة مطلقًا ولو في المعاملات: إنّ هذا اللفظ لغةً كذا وشرعًا كذا.
فيعلم منه أنّ معناه الشرعيّ مقابل للمعنى اللغويّ، بل العرفيّ أيضًا، سواء كان استعمال الشارع على سبيل الحقيقة كما هو الظاهر من هذا التعبير ومقتضى القول بالحقيقة الشرعيّة، أو على سبيل المجاز كما يقتضيه القول بعدمها.
فكيف يمكن اختصاص القول بالحقيقة الشرعيّة بالعبادات، مع أنّ قولهم في بيان المعنى الشرعيّ وجعله مقابلًا للمعنى اللغويّ مشترك بين القسمين على حدّ سواء، بل كيف يمكن الرجوع إلى العرف واللغة في تشخيص المعنى الشرعيّ؟!
وأمّا على الثاني: فمضافًا إلى ما ذكر والتكلّف والتعسّف الظاهرين منافاته لقولهم في كتبهم الأصوليّة: إنّ الحقائق الشرعيّة منقولات، من غير تفرقة بين العبادات والمعاملات.
ويمكن الجواب: بعد تعميم القول بالحقيقة الشرعيّة في القسمين كما هو الظاهر: إنّ الألفاظ المعهودة في المعاملات مستعملة عند الشارع في معانيها اللغويّة مثلًا، لكن لا مطلقًا، بل مقيّدة بالقيود والشروط المعتبرة المعهودة، فيتحقّق النقل في الألفاظ بأسرها وصحّت المقابلة بينهما من حيث العموم والخصوص، كما هو
ص: 290
المعروف عن القاضي في العبادات، حيث نقلوا عنه: أنّ ألفاظ العبادات مستعملة في معانيها اللغويّة، والأمور المعتبرة فيها شرعًا ليست بداخلة في المستعمل فيه، بل زوائد خارجة وشرائط معتبرة، والشرط خارج عن المشروط(1).
وقد أسلفنا المقال فيه وفي ردّه(2)، فيكون مناط الفرق بين العبادات والمعاملات عدم تسليم ذلك في الأوّل، بل هي مستعملة فيها في المعاني المحدثة من الشارع، ولهذا لا يمكن الرجوع في تشخيصها إلى اللغة، بل يقال: إنّها توقيفيّة كما عرفت، وتسليمه في المعاملات(3)، ولهذا يتوصّل في مقام التشخيص إلى اللغة، وكلّما ظهر اعتباره من الشارع يكون ذلك تقييدًا للمعنى اللغويّ وشرط الصحّة للمعنى الشرعيّ.
والثمرة بين الاحتمالين من كون الألفاظ المتردّدة في المعاملات مستعملة في معانيها اللغويّة أو غيرها، تظهر فيما لم يظهر اعتباره شرعًا مع احتماله، فإنّه على الأوّل يدفع بالأصل، للشكّ في اشتراط المكلّف به بشيء خارج، فما لم يثبت يدفع بالأصل، بخلافه على الثاني فيما احتمل أنّه من جزء المستعمل فيه والمكلّف به، فإنّ الأصل عدم حصوله إلّا بإتيان جميع الأمور المحتملة، فلا يحصل الامتثال إلّا
ص: 291
بذلك، وقد أسلفنا المقال في مثله في الحقيقة الشرعيّة، وستقف على مزيد تحقيق في نظير المسألة إن شاء الله سبحانه.
لكنّه أيضًا غير صحيح؛ لأنّ الحكم بأنّ ألفاظ المعاملات بأسرها مستعملة في معانيها اللغويّة ممّا يشهد على فساده العيان وينطق بخلافه البرهان؛ لظهور أنّ الظهار والخلع والمباراة والإيلاء واللعان والتدبير والمكاتبة وأشباهها لم تكن(1) موضوعة في اللغة بإزاء معانيها المعهودة من الشارع، وكذلك الحال في لفظ: الإيمان والكفر والعدالة والفسق والطهارة والنجاسة والحدث، بل معانيها المعهودة معيّنة في الكلّ من الشارع، فلا يمكن التوصّل إليها إلّا من قبله، فالحكم بأنّ الموضوعات بأسرها في المعاملات مرجعها العرف أو اللغة، فاسد.
بل ربّما يمكن أن يقال: كما لم تصحّ هذه الدعوى على الإيجاب الكلّيّ في المعاملات، كذا لم تصحّ على السلب الكلّىّ في العبادات، بل القدر المسلّم الجزئيّ في كليهما إيجابًا في الأوّل وسلبًا في الثاني، بل كلاهما في كليهما، أمّا في الأوّل فلما عرفت، وأمّا في الثاني فلأنّ الظاهر أنّ لفظ: الركوع والسجود والطواف ونحوها، لم تنقل عن معانيها اللغويّة مطلقًا، بل التغاير بينهما من حيث الإطلاق والتقييد على نحو ما مرّ الكلام في المعاملات، فالحكم بعدم جواز الرجوع في موضوعات(2) العبادات إلى اللغة على الإطلاق غير صحيح أيضًا.
ص: 292
ويمكن التخلّص عن ذلك بوجوه:
الأوّل: أنّ محلّ الكلام(1) على ما أومأنا إليه فيما إذا لم يظهر مخالفة اصطلاح الشارع فيه للّغة، وأمّا إذا ظهرت فلا يكون المرجع فيه إلّا الشرع، وهو ظاهر غير مفتقر إلى البيان.
فالمحصّل: أنّ الألفاظ الواردة في كلام الشارع ممّا لم يظهر فيه اصطلاحه إن كانت من العبادات فلا يجوز الرجوع في تشخيص معانيها إلى غير الشرع، بخلافه إن كانت من المعاملات.
إن قلت: قد ظهر ممّا أسلفت أنّ مخالفة اصطلاح الشارع للّغة وعدمها قد ثبت في كلّ من النوعين، فما لم تظهر فيه المخالفة كما يمكن أن يكون في العبادات ممّا ثبتت وفي المعاملات ممّا لم تثبت، كذا يمكن العكس، وكذا يمكن أن يكون في كلّ منهما ممّا ثبتت، كما يمكن أن يكون فيهما ممّا لم تثبت، فالاحتمالات أربعة، مقتضى الأوّل الحمل على ما ثبتت المخالفة في العبادات وعلى ما لم تثبت في المعاملات، فتعيّن الرجوع في الأوّل إلى الشرع دون الثاني، ومقتضى الثاني عكسه؛ والثالث: تعيّن الرجوع في النوعين إلى الشرع، والرابع عدمه كذلك إليه؛ والمدّعى إنّما يتمّ على الأوّل، دون الثلاثة الباقية، فما وجه ترجيحه عليها؟
ص: 293
قلنا: وجهه(1) إلحاقُ الظنِّ الشيءَ المشتبهَ بالأغلب؛ ولمّا كان الغالب في ألفاظ العبادات كونها من المنقولات عن المعاني اللغويّة إلى المعاني المحدثة المخترعة الّتي لا يتوصّل إليها إلّا ببيان الشارع، يلحق غيره به؛ ولمّا كان الغالب في المعاملات خلاف ذلك، يلحق غيره به أيضًا؛ وهذا أولى من الحمل في الكلّ على غير الغالب كما في الثاني، أو في البعض عليه كما في الأخيرين، فتأمّل.
والثاني: أنّ الحكم المذكور من الإيجاب والسلب الكلّيّين إنّما هو بالنظر إلى الأغلب في النوعين، فلمّا كان الغالب في العبادات توقّف العلم بماهيّاتها على بيان الشرع دون المعاملات -فإنّ الغالب فيها خلاف ذلك- أطلقوا القول بأنّ العبادات توقيفيّة دون المعاملات.
والفرق بين الجوابين مع كونهما متقاربين يظهر بعد التأمّل في البين.
والثالث: أمّا بالنسبة إلى مثل: الركوع والسجود، فبالمنع من اتّحاد المنع الشرعيّ مع اللغويّ؛ لوضوح اعتبار الإخلاص في مطلق العبادات، فالإخلاص داخل في المعنى الشرعيّ، بخلاف اللغويّ، فهما متغايران؛ لأنّ السجود مثلًا على الأوّل عبارة عن الفعل مع الإخلاص، وعلى الثاني عن الفعل فقط، فلا يمكن تشخيص السجود الشرعيّ بالرجوع إلى اللغة، بل يتوقّف على بيان الشارع، فلا انتقاض.
ص: 294
وأمّا بالنسبة إلى لفظ: الخلع والإيلاء وأشباههما، فبأنّ(1) مرادهم: أنّ الموضوعات في المعاملات يُرجع فيها إلى العرف أو اللغة ليس الإيجاب الكلّيّ، أي كلّ الموضوعات في المعاملات كذلك، بل الظاهر من قولهم: «إنّ العبادات توقيفيّة دون المعاملات»، أنّ المراد رفع الإيجاب الكلّيّ، أي ليس كلّ الموضوعات في المعاملات توقيفيًّا كالعبادات، فلا ينافيه توقيفيّة بعض الموضوعات منها(2)، كما عرفت.
والحاصل: أنّ المراد تعيّن الرجوع في العبادات إلى الشارع، بخلاف المعاملات، فأنّه لم يتعيّن فيها ذلك، ومقتضاه إمكان الرجوع فيها إلى غير الشرع في الجملة، لا إمكانه مطلقًا، فلا ينافيه عدم الإمكان في البعض كما لا يخفى.
لكن هذا الجواب لا بأس به بالنسبة إلى النقض في المعاملات.
وأمّا بالنسبة إلى العبادات فإنّه مبنيٌّ على القول بدخول الإخلاص في حقيقة العبادة؛ وأمّا على القول بالعدم فلا؛ لأنّه حينئذٍ يكون شرطًا لها، ومعلوم أنّ الشرط خارج عن المشروط، فيكون المعنى الشرعيّ واللغويّ متّحدًا، فلا تفاوت بينهما إلّا بالإطلاق والتقييد.
هذا كلّه مبنيٌّ على تعميم القول بالحقيقة الشرعيّة في العبادات والمعاملات بأسرها، كما هو الظاهر من قولهم فيهما: هذا اللفظ في اللغة كذا وفي الشرع كذا على نهج واحد؛ ويظهر من المحقّق في الشرائع والعلّامة في القواعد وغيره والشهيدين -أعلى الله مقامهما- في القواعد والمسالك، وستقف على عباراتهم إن
ص: 295
شاء الله تعالى.
ويمكن التفصيل في المعاملات بأن يقال بثبوتها فيما علم التغاير بين المعنى اللغويّ والشرعيّ، كما تقدّم من لفظ: الظهار والخلع والمباراة وأشباهها؛ وبالعدم فيما لم يعلم ذلك؛ أو علم عدمه وهو الأكثر، كالبيع والصلح والإجارة والدين والهبة والرهن والوديعة والعارية والغصب والميراث والرضاع والقصاص وغيرها.
ويحمل قولهم المذكور في القسم الأوّل على ظاهره، وفي الثاني على أنّ المراد بيان المعاملات الصحيحة شرعًا المترتّبة عليها الآثار الثابتة في الشرع، أو المراد من(1) الشرع في ذلك المقام أعمّ من الشارع وأهل الشرع، فيحمل على أنّ المراد فيما نحن فيه أنّ اصطلاح المتشرّعة كذا، أو أنّ المراد المستعمل فيه أعمّ من أن يكون حقيقة بناءً على القول بالحقيقة الشرعيّة، أو مجازًا بناءً على القول بالعدم.
وفي الجميع نظر، أمّا في الأوّل: فلأنّه لو كان المراد تحديد المعاملات الصحيحة شرعًا، لزم استقصاء الشرائط في تعريفاتها مع أنّه ليس كذلك قطعًا، بل لم يتعرّضوا فيها إلّا للقليل.
وأمّا في الثاني: فلأنّه مع ما فيه من البعد، سيّما بعد إرادة معناه في العبادات وفي بعض المعاملات، يتوجّه عليه: أنّ للمتشرّعة اصطلاحات كثيرة، فما وجه إطلاق الشرع في أمثال هذه المقامات دون غيرها؟! مضافًا إلى ما يأتي في الثالث.
وأمّا في الثالث: فلأنّه إنّما يصحّ بعد المغايرة بين المعنى اللغويّ والشرعيّ،
ص: 296
والمفروض خلافه، وإلّا كانت المعاملات توقيفيّة كالعبادات.
ويمكن اختيار الثالث والتزام التغاير على النحو المتقدّم من الإطلاق والتقييد، فالمغايرة على هذا النحو لا تنافي الرجوع في تشخيص المعاني إلى العرف أو اللغة كما عرفت، نعم، يتوجّه عليه ما مرّ في الأوّل من أنّه لو كان المراد ذلك؛ لكان اللازم استقصاء الشروط المعتبرة شرعًا.
ويمكن الجواب هنا بمنع اللزوم؛ إذ الاقتصار في البعض يكفي للتنبيه على التغاير في الجملة؛ على أنّه يمكن أن يقال: إنّ التعبير على النحو المذكور في مجموع أبواب المعاملات ليس بمجمع عليه، بل ولا ما أطبق عليه الأكثر وإنّما ذكره البعض، ويمكن أن يكون منشؤه الغفلة، أو بناؤه(1) على ثبوت الحقيقة الشرعيّة على النحو الّذي سبقت إليه الإشارة.
لكن يتوجّه في المقام إيراد آخر، وهو أنّ هذا التغاير متحقّق في العبادات أيضًا؛ لما تقدّم من مثل الركوع والسجود؛ ولما ذكر في بعض كتب الأصول وغيرها من أنّ لفظ «الصوم» في اللغة لمطلق الإمساك وفي الشرع لإمساك مخصوص، ولفظ «الحجّ» في اللغة لمطلق القصد وفي الشرع لقصد مخصوص، ونحوهما من لفظ «الخمس» وغيره، فعلى التوجيه السالف يمكن الرجوع في تشخيص بعض العبادات أيضًا إلى العرف أو اللغة، فلا يصحّ الحكم بتوقيفيّة العبادات بأسرها
ص: 297
دون المعاملات، مع اشتراكهما فيما ذكر.
ويمكن الجواب عنه: إمّا بما أومأنا إليه من أنّ الحكم المذكور أغلبيٌّ لا كلّي؛ ولمّا كان الغالب في العبادات تحقّق المعاني الحادثة الملتئمة من الأجزاء الشرعيّة المخترعة من الشارع دون المعاملات، حكموا بذلك، وإلّا فقد عرفت تحقّق المعاني المغايرة المذكورة في بعض المعاملات أيضًا وعدم إمكان الرجوع فيها إلى غير الشرع، ومن اعتبار الإخلاص في المعنى الشرعيّ دون اللغويّ، مع ما عرفت ممّا فيه.
أو يقال: إنّ أُسّ العبادات وركنها وأصل الطاعات وعمدتها كالصلاة لمّا كان كذلك، حكموا بعنوان الإطلاق، أو بمنع كون المعاني المذكورة للألفاظ السابقة شرعيّة، لكنّه بالنسبة إلى لفظ «الحجّ» لا بأس به؛ لإمكان أن يكون معناه الشرعيّ الأفعال المعهودة على النهج المقرّر كما هو الظاهر، وعرّفه بها بعض المحدّدين لمعناه الشرعيّ، وإليه أشار العلّامة -أعلى الله مقامه- في النهاية، حيث قال: «الحجّ في الشرع(1) للأفعال المخصوصة عند البيت»(2).
وفي التهذيب: «الحجّ الموضوع في اللغة للقصد، ونقله الشارع إلى المناسك المؤدّاة في المشاعر»(3).
ص: 298
وكذا كثير من العلماء الأعلام؛ وأمّا في نحو الصوم والخمس فمستبعد جدًّا، فالتعويل على ما سلف.
فالمحصّل ممّا ذكر: توقيفيّة الأحكام الشرعيّة وماهيّات العبادات على بيان الشارع، دون المعاملات بالمعنى المتقدّم.
ومن المهمّ في هذا المقام البحث عن ثلاثة مطالب:
إنّ لفظ «العبادة» يطلق على معنيين، الأوّل: ما يتوقّف صحّته على النيّة كما مرّ، والثاني: ما يترتّب الثواب عليه، وهو أعمّ من الأوّل؛ إذ كلّ ما يتوقّف صحّته على النيّة يترتّب الثواب عليه، ولا عكس؛ إذ جميع الأفعال المباحة إذا قصد به التقرّب يترتّب الثواب عليه، مع أنّ عند انتفاء الخلوص والقربة لم ينتف عنها وصف الصحّة.
وكذا لفظ «المعاملة»، فإنّها تطلق على معنيين أيضًا، الأوّل: ما هو المعروف بين الناس من المعاوضات الجارية بينهم، والثاني: ما يقابل العبادة بالمعنى الأوّل، أي ما لا يتوقّف صحّته على النيّة كما تقدّم، وهي أيضًا بالتفسير الثاني أعمّ من الأوّل كما لا يخفى.
والمراد من العبادة فيما نحن فيه معناها الأخصّ، ومن المعاملة الأعمّ، فلا يرد
ص: 299
أنّ حكمهم بتوقيفيّة العبادات غير صحيح على الإطلاق(1)، بناءً على أنّ كلّ فعل إذا قصد به التقرّب إليه سبحانه يكون عبادة(2)، مع أنّ كثيرًا منها لم يتوقّف بيانه على الشرع قطعًا؛ لأنّ مبناه على حمل العبادة في قولهم: «إنّ العبادات توقيفيّة» على المعنى الثاني.
وهو مع فساده في نفسه ينافيه تصريح جماعة منهم، وأنّ المتبادر من العبادة ما يكون كذلك بالذات، فيخرج(3) العبادة العرضيّة الّتي يعرضها وصف العبادة بسبب قصد القربة.
وقولهم في مقابله بعدم توقيفيّة المعاملات، إذ لا يبقى حينئذٍ لهذا القول مصداق؛ لعدم إمكان حملها على شيء من المعنيين المذكورين، أمّا على المعنى الأعمّ فظاهر، وأمّا على الأخصّ فلأنّه أيضًا عند قصد التقرّب مندرج(4) تحت العبادة؛ والحمل على الأعمّ بتخصيصه فيما إذا لم ينو التقرّب يفسده عدم معقوليّة توقّف ماهيّة معيّنة على بيان الشارع تارةً وعدم توقّفها عليه أخرى كما لا يخفى، فتأمّل.
ص: 300
تبيين تفسير
لمّا كان لفظ «الصحّة» مأخوذًا في تفسير كلّ من العبادات والمعاملات، فلا بأس للتعرّض إلى كشف الحال فيها، فنقول: قد اختلفوا في الصحّة في العبادات، فالمحكيّ عن المتكلّمين أنّها موافقة الأمر أو(1) الشريعة، وعن الفقهاء أنّها كون الفعل مسقطًا للقضاء؛ ويعلم البطلان والفساد بالمقابلة(2).
وتظهر ثمرة الخلاف في الصلاة بظنّ الطهارة مع انكشاف الفساد بعد الصلاة، أو شكّها فيما إذا جاز التعويل عليهما، فإنّها على الأوّل ينبغي أن تكون(3) صحيحة، بخلافه على الثاني؛ لعدم إسقاطها القضاء، وكذا في الصلاة إلى جهة بظنّ أنّها القبلة، ثمّ تبيّن الخلاف وهو في الوقت، وغيرهما.
وفي كلّ من التفسيرين كلام، أمّا في الأوّل: فلأنّ موافقة أمر الشارع من صفات المأمور، ومن المعلوم أنّ الصحّة من أوصاف المأمور به، فكيف يجعل أحدهما حدًّا
ص: 301
للآخر؟! وانتقاض طرده بدخول الختان، فإنّ موافقة أمر الشارع متحقّق فيه مع عدم اتّصافه بالصحّة.
ويمكن الجواب عن الأوّل: بأنّه إنّما يتوجّه إذا حمل الموافقة على معناه المتعدّي، وأمّا إذا حمل على المعنى اللازم فلا؛ لوضوح أنّه حينئذٍ من أوصاف الفعل كما لا يخفى.
وعن الثاني: بالمنع من عدم اتّصاف الختان بالصحّة، فإنّه إذا أوقع على النهج الّذي أمر به الشارع يقال إنّه صحيح، وإلّا يقال إنّه غير صحيح، وعلى فرض التسليم نقول: يمكن أن يقال: إنّ المراد أنّ الصحّة والفساد فيما يمكن اتّصافه بهما لا مطلقًا، فما لا يتّصف بهما خارج عن أصله، فتأمّل.
وأمّا في الثاني: فلأنّ القضاء حينئذٍ لم يثبت، فكيف يسقط؟!
وجوابه: أنّ المراد كون الفعل بحيث يمنع تعلّق الأمر بالقضاء على المكلّف، لكن ينتقض عكسه بصلاة العيد وما وقته العمر، كالنذر المطلق وصلاة الزلزلة والقضاء نفسه والنوافل غير الراتبة، فإنّ كلًّا منها إذا أُتي على الوجه الّذي ينبغي أن يُؤتى يتّصف بالصحّة مع عدم القضاء لشيء منها.
ويمكن الجواب عنه أيضًا على النحو المذكور في التفسير الأوّل بأن يقال: إنّ الصحّة في العبادات كون الفعل مسقطًا للقضاء فيما له قضاء، لكنّه مع ما فيه من التكلّف الّذي ينبغي الاحتراز عنه في الحدود، تبقى الصحّة فيما لم يكن له قضاء من دون تحديد.
أو يقال: إنّ الصحّة فيها عبارة عن كون الفعل على نهج يسقط القضاء على تقدير
ص: 302
أن يكون له قضاء، وهو أيضًا لا يخلو عن تكلّف، فالأولى بين التفسيرين الأوّل.
وأمّا في المعاملات: فقد اتّفقوا على أنّ الصحّة فيها عبارة عن ترتّب الأثر المطلوب منها كزوال النجاسة من الغسل، وانتقال الثمن إلى البائع والمثمن إلى المشتري في البيع، ووجه الإجارة والمنافع إلى المؤجر والمستأجر في الإجارة، وحلّيّة البضع والنظر مثلًا في النكاح وغيرها.
إن قلت: هنا احتمالات، جعل الصحّة في النوعين معًا مفسّرة بالتفسير المذكور في العبادات، أو في المعاملات، أو في العبادات مفسّرة بما ذكر في المعاملات وبالعكس؛ وما وجه اختيار ما ذكر على الاحتمالات المذكورة؟
قلنا: أمّا الاشتراك بينهما بما ذكر في العبادات فغير ممكن؛ لأنّ غسل النجاسة لو أوقع على النهج المنهيّ عنه - كالغسل بماء مغصوب - لصحّ وجاز مع ذلك الثوب مثلًا الدخول في الصلاة، مع أنّ موافقة أمر الشارع غير متحقّقة فيه، وهكذا البيع في وقت النداء وغيره، ومنه يعلم الحال في الاحتمال الثالث.
نعم، لو اشترك بينهما بالتفسير السالف من الفقهاء بأن يقال: الصحّة مطلقًا عبارة عن كون الفعل مسقطًا للقضاء وأريد من القضاء أعمّ من المعنى المصطلح عليه والإتيان ثانيًا، لجاز، بل لا يرد حينئذٍ شيء ممّا سلف.
وأمّا الاشتراك بينهما بما ذكر في المعاملات -كما ذكره الفاضل العضديّ وشيخنا البهائيّ(1)- فلا بأس به، فيقال: إنّ الصحّة مطلقًا عبارة عن ترتّب الأثر،
ص: 303
لكنّ الأثر مختلف، فهو في المعاملات ما تقدّم وفي العبادات إمّا الثواب أو الامتثال والإطاعة، فعلى هذا لا يرد الانتقاض بمثل الختان وغيره ممّا سلف.
لكن يتوجّه على جميع التفاسير المذكورة: أنّ الظاهر أنّ الصحّة ليست نفس الموافقة ولا إسقاط القضاء ولا ترتّب الأثر، بل هو وصف يتّصف الفعل به باعتبار الموافقة ويسقط القضاء لثبوت ذلك الوصف له ويترتّب عليه الأثر لذلك.
نعم، لو جعل التفاسير للفعل الصحيح بأن يقال: إنّ الفعل الصحيح ما يكون موافقًا لأمر الشارع، أو يكون مسقطًا للقضاء، أو يترتّب عليه الأثر، سلم من ذلك، لكن لم يعلم الصحّة نفسها؛ ويمكن أن يقال: إنّ هذه أمور اصطلاحيّة، فلا مشاحّة فيها(1).
فإذا عرفت الصحّة في العبادات والمعاملات، يظهر عليك حال الفساد فيهما، إذ هو في مقابلها؛ ويرادفه البطلان، خلافًا للحنفيّة حيث فرّقوا بينهما بأنّ الباطل ما لم يكن مشروعًا بأصله كبيع الملاقيح، والفاسد ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه كالربا(2).
ص: 304
قد علمت ممّا سلف أنّ من جملة ما عدّ من الأحكام الوضعيّة الصحّة والفساد؛ ويمكن المناقشة في توقيفيّتهما بجميع التفاسير المذكورة، أمّا على الأوّل: فقد مرّ الكلام فيه.
وأمّا على الثاني: فلأنّ المأمور به إذا أُتي على النهج الّذي أمر به ولم يظهر إخلال شيء من أجزائه وشرائطه، يحكم العقل بعدم افتقار إعادته وإتيانه ثاني الحال.
وأمّا على الثالث: فلأنّ الشارع جعل العقود مثلًا أسبابًا لترتّب الآثار المعهودة، فالحكم الشرعيّ هناك سببيّة العقود، وهو مسلّم، وأمّا ترتّب الآثار فهو معلول لتلك الأسباب والعلامات، فالعلم بها يكفي للعلم به، فلا يكون العلم بترتّب الآثار متوقّفًا على بيان من الشارع على حدة، فلا بدّ إمّا من القول بعدم اندراجهما في الأحكام الوضعيّة، أو بعدم توقيفيّة مطلقِها، إلّا أن يقال: إنّ التوقيف بالواسطة كافٍ فيما نحن فيه، فتدبّر.
قد ظهر ممّا سلف توقيفيّة ماهيّات العبادات على بيان الشارع دون المعاملات بالمعنى السالف، لكن بيان ماهيّاتها في النصوص بعنوان التحديد لا يكاد يوجد، بل المعهود بيانها ببيان الأجزاء، لكن لا بلفظ الجزئيّة، بل على النهج الّذي يستفاد منه الجزئيّة.
ص: 305
إلّا أنّه قد يدلّ النصّ على جميع الأجزاء، ولا إشكال حينئذٍ كما في الأذان حيث روى أبو بكر الحضرميّ وكليب الأسديّ عن مولانا أبي عبد الله (علیه السلام) أنّه حكى لهما الأذان، فقال:
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلّا الله، أشهد أن لا إله إلّا الله، أشهد أنّ محمّدًا رسول الله، أشهد أنّ محمّدًا رسول الله، حيّ على الصلاة، حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلّا الله، لا إله إلّا الله(1).
وقد لا يكون كذلك، وهو الغالب؛ فهل اللازم حينئذٍ في مقام الامتثال الإتيان بجميع ما احتمل أنّ له مدخليّة في المأمور به بحيث ينعقد الإجماع على تحقّق المطلوب الشرعيّ في ضمنه وعدم احتمال مدخليّة غيره فيه، نظرًا إلى أنّ اشتغال الذمّة يقينيّ، فلا يحصل(2) البراءة اليقينيّة إلّا بما ذكر وأنّ الأصل عدم كونها العبادة المطلوبة؛ أو لا، بل يجوز الاقتصار(3) على ما علم مدخليّته فيه وانعقد الإجماع على وجوبه، فيدفع غيره بأصالة عدم المدخليّة وأصالة البراءة؟
فيه إشكال وخلاف بين الأعلام مبنيٌّ على الخلاف في أنّ ألفاظ العبادات أسامٍ للصحيحة منها أو الأعمّ؛ وحيث قد كانت المسألة من مهمّات المسائل الأصوليّة وكانت في أكثر كتب الأصول غير منقّحة، بل غير مذكورة إلّا على وجه الإيماء
ص: 306
والإشارة، فبالحريّ أن نصرف زمام الكلام إلى تحقيقها وتنقيحها ورفع جلباب الجهل عن مناهجها ومداركها.
فنقول بعد الاستمداد من الموفّق الفيّاض: لا شبهة أنّ ماهيّة الصلاة مثلًا مركّبة من أجزاء متعدّدة(1)؛ وأنّ لها شروطًا معدودة، كالطهارة والاستقبال وإباحة المكان وستر العورة وغيرها؛ وأنّ تلك الماهيّة إذا أتيت مع مراعاة تلك الشروط تكون(2) متّصفة بوصف الصحّة؛ وأنّ متعلّق طلب الشارع وأوامره ليس إلّا المعنى الصحيح.
لكنّ الكلام في أنّه كما كان(3) متعلّقات الأوامر الشرعيّة المعاني الصحيحة، هل يكون(4) المعاني الّتي عيّن الشارع تلك الألفاظ بإزائها بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة، أو استعمل فيها بناءً على العدم هي المعاني الصحيحة؟ لا بمعنى أنّه وضع اللفظ مثلًا بإزاء الماهيّة مع تلك الشرائط حتّى يكون(5) الشرائط داخلة في الموضوع له وجزءً له، وإلّا يكون الكلّ أجزاءً ويلزم الانتقال من اللفظ إلى الشرائط أيضًا كالانتقال إلى الأجزاء، بل المراد أنّ الموضوع له للفظ «الصلاة» مثلًا
ص: 307
عند الشارع المعنى الّذي إذا أوجده(1) المكلّف في الخارج يحصل له الامتثال ويحكم بأنّه صحيح، كما أنّك تعيّن اسمًا لمسمّى له أوصاف كثيرة من العلم والورع والكتابة والتجارة والخياطة وغيرها، بمعنى أنّ مسمّى هذا اللفظ في الخارج له تلك الصفات، لا بأن يندرج(2) تلك الصفات تحت الموضوع له.
أو لا، بل الموضوع له أعمّ من الصحيح والفاسد بأن يكون الموضوع له تلك الماهيّة، فإن أتيت مع مراعاة تلك الشرائط تكون صحيحة، وإلّا ففاسدة، كما في المعاملات كالبيع مثلًا، فإنّه في اللغة موضوع لمعناه وجعل الشارع له شرائط، كمعلوميّة العوض والمعوّض وطهارتهما وكمال المتعاقدين وتراضي الطرفين وكونهما مقبوضين في الصرف غير متفاضلين مع التجانس ونحوها، فإن أُتي مع مراعاة تلك الشرائط يقال: إنّه صحيح، وإلّا ففاسد.
ومن هذا التقرير ظهر أنّ ما تقدّم من ابتناء إمكان التمسّك بأصالة العدم في رفع مشكوك الجزئيّة وعدمه على القولين غير صحيح؛ إذ التكليف بإيجاد الماهيّة قطعيّ وأنّها توقيفيّة(3)، وهو مع عدم إتيان ذلك المشكوك فيه غير معلوم، فالبراءة إنّما تحصل بإتيان جميع ما له احتمال الجزئيّة؛ لوضوح أنّ مع عدم تحقّقها مشكوك فيه وإن قلنا بأنّها أسامٍ للأعمّ من الصحيحة(4)، إذ التكليف بإيجاد
ص: 308
الماهيّة ممّا اتّفق عليه الفريقان.
والوجه في عدم جواز التمسّك به على القول الصحيحيّ الجهلُ في تحقّق الماهيّة والموضوع له، وهو متحقّق على القول بالأعمّ أيضًا فيما نحن فيه، فالقول بجواز التمسّك به على أحدهما دون الآخر مع اشتراك الموجب بينهما من غير افتراق ممّا لا وجه له أصلًا.
إن قلت: لا نسلّم الشكّ في تحقّق الماهيّة بناءً على القول بالأعمّ؛ لأنّ ماهيّة الصلاة مثلًا على هذا القول الأركان الخمسة أو الأربعة، فتحقّق الماهيّة بإتيانها معلومٌ بناءً على هذا القول والشكّ إنّما هو في غيرها.
قلنا: هذا لا وجه له، أمّا أوّلًا: فلأنّه يخرج الحال عن محلّ الكلام، إذ الفرض أنّ مشكوك الجزئيّة يمكن اندفاعه بالأصل بناءً على القول بالأعمّ دون غيره، والمشكوك فيه على التقدير المذكور لم يكن من ذلك.
وأمّا ثانيًا: فلأنّ تفرقتهم في الكتب الفقهيّة بين الأجزاء المنسيّة بعدم لزوم التدارك في بعض ولزومه في الآخر ينافي ذلك؛ لظهور أنّه على الاحتمال المذكور لا جزء سوى الأركان؛ واحتمال إطلاق الجزء في المقامين نظرًا إلى القول الآخر ممّا لا شبهة في بُعده، بل فساده، ضرورة قيام الفرق بين ستر العورة مثلًا والقراءة.
فانحصرت الثمرة بين القولين في الشروط، فإنّه إذا شكّ في شرطيّة شيء مع انتفاء احتمال الجزئيّة بالنسبة إليه، يدفع ذلك بالأصل بناءً على القول بالأعمّ؛ لأنّ
ص: 309
الأمر قد تعلّق بإيجاد الماهيّة والموضوع له، وتحقّقها حينئذٍ مقطوع به، وإنّما الشكّ في اشتراطها بالمشكوك فيه، والأصل عدمه؛ إذ القدر المعلوم ثبوت التكليف بإيجاد الماهيّة، فقد حصل، وأمّا اشتراطها به، فغير معلوم.
بخلافه على القول بالصحيح؛ لأنّ الموضوع له لمّا كان المعنى الصحيح وحصوله مع عدم ذلك المشكوك فيه غير معلوم؛ والبراءة إنّما يعلم بحصول العلم بصحّة المأتيّ به، وهو إنّما يحصل بعد الإتيان بجميع ما له احتمال الشرطيّة أيضًا؛ ولقائل أن يقول بمثل ذلك على القول بالأعمّ أيضًا، بناءً على ما مرّ من أنّ إرادة الماهيّة الصحيحة من الشارع ممّا لا شكّ فيه ولا ريب يعتريه، فلا نسلّم أنّ متعلّق الأوامر مطلق الماهيّة حتّى يحصل الامتثال بإيجادها، بل الماهيّة الصحيحة.
فمع عدم الإتيان بالمشكوك الشرطيّة يكون المعلوم ايجاد مطلق الماهيّة لا الصحيحة، والتكليف قد علم بالنسبة إلى الثاني لا الأوّل، فالبراءة إنّما تحصل بالعلم بكون المأتيّ به الماهيّة الصحيحة، وهو لا يتيسّر إلّا بالإتيان بجميع ما له احتمال الشرطيّة على هذا القول أيضًا، فلا يحصل الافتراق بين القولين بذلك أيضًا؛ وغاية ما في البين أنّ الصحّة على القول بالصحيح وصفٌ للموضوع له، وعلى الأعمّ وصف للمراد، وهو لا يوجب الافتراق المذكور.
ويمكن الجواب عنه: بأنّ العبادة الصحيحة بناءً على القول بالأعمّ الماهيّة مع الشرائط المعلومة؛ لأنّ غاية ما هناك تحقّق العلم بأنّ مراد الشارع ليس الماهيّة بشرط لا، ولا من حيث هي هي المعبّر عنها بالماهيّة اللابشرطيّة، بل الماهيّة بشرط شيء، والعلاوة على ذلك غير مسلّمة؛ ويكفي في الامتثال للأوامر المتعلّقة بالماهيّة
ص: 310
بشرط شيء إتيانها مع مراعاة الشروط المعلومة.
والحاصل: أنّ التكليف المعلوم بناءً على هذا القول إيجاد الماهيّة مع مراعاة الشروط في الجملة لمعلوميّة مسمّى الألفاظ ومدلولها؛ والبراءة تحصل بإيجادها مع الشروط الثابتة، وأمّا المشكوكة فلا حاجة إلى إتيانها لذلك؛ لأصالة عدم اشتراط الماهيّة بها وبراءة الذمّة عنها، بخلافه على القول بالصحيح، إذ التكليف بإيجاد مدلول اللفظ ممّا لا شبهة فيه؛ وهو مع عدم مراعاة الشروط ولو كانت مشكوكة غير معلوم؛ للجهل بمدلول اللفظ، فتحصيل البراءة يستدعي مراعاة الشروط المشكوكة أيضًا، فعلى هذا تكون الثمرة بين القولين إمكان إجراء الأصل في الشروط بناءً على القول بالأعمّ، وعدمه بناءً على القول بالصحيح، وأمّا في الأجزاء فعدم إجرائه مشترك بين القولين.
إيراد مقالة لازمة للتنبيه على ثمرة مهمّة
اعلم: أنّه يمكن أن يقال: إنّ الجزء على قسمين، قسمٌ ممّا ينتفي الكلّ بانتفائه في العرف والعادة، كالأركان المعروفة فيما نحن فيه والرأس والرقبة بالنسبة إلى زيد مثلًا؛ وقسمٌ لا يكون كذلك، كالذكر والركوع والسجود والطمأنينة ونحوهما في الأوّل، والأذن والأنف والإصبع في الثاني.
فعلى هذا نقول: لو شكّ في جزئيّة شيء وعلم أنّه على فرض ثبوته من القسم
ص: 311
الثاني لا الأوّل، يجوز دفعه بالأصل على القول بالأعمّ، بخلافه على القول الآخر.
والسرّ فيه: هو أنّ الأوامر المتوجّهة بالصلاة لمّا كان(1) مقتضاها إيجاد الماهيّة، ينبغي أن يحصل الامتثال كلّما يصدق عليه أنّه أتى بالماهيّة؛ ولمّا كان القسم الأوّل ممّا تنتفي بانتفائه الماهيّة، لا معنى لإجراء الأصل فيه لثبوت التكليف بإيجادها؛ وأمّا القسم الثاني: فلمّا لم يكن انتفائه موجبًا لانتفاء الماهيّة ولم يعلم من الأدلّة المثبتة للتكليف أزيد من إيجادها، والمفروض أنّه يتحقّق ولو مع عدم الإتيان بالمشكوك الجزئيّة، فالتكليف بالنسبة إليه مشكوك فيه، فالأصل البراءة عنه.
والحاصل: أنّ القدر المعلوم إيجاد الماهيّة على النحو المتقدّم، فكلّما يكون انتفاؤه في العرف موجبًا لانتفائها يجب إتيانه ولا معنى لدفعه بالأصل، وكلّما لم يكن كذلك ولم يثبت من الأدلّة وجوبه لم يجب إتيانه لأصالة البراءة عنه؛ فعلى هذا لا يرد جواز الإخلال متعمّدًا بمثل الذكر والطمأنينة ونحوهما ممّا لم يكن انتفاؤه موجبًا لانتفاء الماهيّة؛ لثبوت التكليف بالنسبة إليها.
ومنه يستفاد وجه ما ذكروه من أنّ الإخلال بشيء من الأركان مطلقًا ولو سهوًا مبطل؛ وأمّا غيرها من الأمور الواجبة، فلا يكون الإخلال به ساهيًا مبطلًا؛ لأنّ الأركان لمّا كان الإخلال بشيء منها موجبًا لانتفاء الماهيّة، فلم يحصل الامتثال بالنسبة إلى الأوامر الموجبة لإيجادها، فيجب الإتيان تحصيلًا لذلك.
وأمّا غيرها فلمّا لم يكن انتفاؤه موجبًا لانتفائها ولم يثبت من الأدلّة الموجبة له إلّا
ص: 312
وجوب إتيانه في أثناء الصلاة حال الشعور لا غير، يحصل الامتثال بالنسبة إلى الأوامر المتوجّهة إلى ماهيّة الصلاة بإتيان ما به يتحقّق، فيخرج عن عهدة التكليف.
ومنه يظهر أنّ أقلّ ما يكفي لتحقّق الماهيّة هو الأركان(1) المعهودة وأنّه لا يوجب أن لا يتّصف غيرها بوصف الجزئيّة، فيصحّ الحكم بدفع الجزء المشكوك فيه بالأصل بلفظ الجزئيّة ولو على القول بالأعمّ.
وهذا كلّه إنّما هو على القول بالأعمّ، وأمّا القول الآخر فلمّا كان الموضوع له للّفظ- بناءً عليه- الماهيّة الصحيحة ولم يعلم عدم مدخليّة الجزء المشكوك فيه فيها والمفروض ثبوت التكليف بإيجاد الموضوع له وهي الماهيّة الصحيحة، فلا يحصل العلم بالامتثال إلّا بإتيان الجميع، فلا يمكن دفع المشكوك فيه بالأصل.
إن قلت: إنّ العلم بعدم انتفاء الماهيّة بانتفاء ذلك الشيء إمّا من قبل الشرع، أو من العرف، كما هو الظاهر من التقرير المذكور، وكلاهما غير صحيح؛ أمّا الأوّل فلعدم ثبوته كما لا يخفى، وأمّا الثاني فلأنّه حينئذٍ لا تكون ماهيّة العبادة توقيفيّة بناءً على القول بالأعمّ، وهم غير ملتزمين لذلك.
قلنا: يمكن القول بكلّ من الاحتمالين، أمّا الأوّل: فلأنّ المراد من عدم الثبوت من الشرع إمّا عدمه صريحًا، أو الأعمّ؛ وانتفاء الأوّل وإن كان مسلّمًا، لكنّه غير مضرّ؛ لكفاية مطلق البيان والظهور من كلماته، وانتفاء الثاني غير مسلّم؛ لأنّ
ص: 313
الظاهر من التفرقة بين الأجزاء بكون(1) اختلال بعضها مطلقًا ولو سهوًا موجبًا لعدم الامتثال بخلاف الآخر، ولهذا صحّ الصلاة من الآتي بالأركان مع نسيان غيرها مطلقًا هو ذلك.
وأمّا الثاني: فلأنّ المراد من العرف ليس العامّ لينافي التوقيفيّة، بل عرف المتشرّعة؛ وعرفهم إنّما يعلم من الشارع للقطع بأنّ معاني المتشرّعة هي الّتي استعمل الشارع اللفظ فيها، وعلمهم بها إنّما هو باستعماله فيها وبيانه إيّاها، فالرجوع إلى عرفهم بهذا المعنى غير منافٍ للتوقيفيّة كما لا يخفى، فتأمّل.
إعادة كلام لكشف مرام
اعلم: أنّ النزاع بين القولين في الحقيقة يؤول إلى أنّ تلك الألفاظ هل هي موضوعة لما يتأتّى به الامتثال، أو الأعمّ؟ فالقائلون بالصحيح على الأوّل والأعمّ على الثاني، فالقول بالصحيح مآله أنّ الشارع أوجب شيئًا معيّنًا وعيّن اللفظ بإزائه لينتقل المكلّف منه إليه كلّما رآه في كلامه، أو سمعه من المخاطب باصطلاحه.
فعلى هذا لو حصل العلم بالموضوع له يعلم أنّه ما يتأتّى به الامتثال، وبالعكس - أي لو حصل العلم بأنّه ما يتأتّى به الامتثال - يعلم أنّه الموضوع له؛ والعلم بأنّه ممّا يحصل به الامتثال يحصل ببيان الشارع إمّا أنّه من ذلك، أو من الموضوع له، لكنّه معلوم الانتفاء في كثير من العبادات لو لم يدّع انتفاؤه في الكلّ، أو بصدور الأمر
ص: 314
منه إلى جزئيّات على كيفيّة(1) مخصوصة وشرائط معدودة وعلم أنّها من أجزاء ذلك المأمور به، وهذا هو الغالب.
فإذا عثرنا بعد التتبّع التامّ والتصفّح الكامل في كلامه وطريقته على صدور الأمر منه بجزئيّات على كيفيّة خاصّة ولم نعثر على غيرها من الشرائط والأجزاء، يظهر علينا أنّ ماهيّة ذلك المأمور به ملتئمة من تلك الأجزاء بتلك الشرائط لا غير، إذ لو كان غيرها لعثرنا عليه كغيره؛ ووجوده مع عدم النقل مع تحقّق دواعيه بالنسبة إلى الكلّ وتوفّر الحاجة لعموم البلوى في غاية البعد، فحينئذٍ نحكم بأنّ المتحصّل من تلك الأجزاء والشرائط هو ما يتأتّى به الامتثال، فهو الموضوع له(2).
إذا تحقّق ذلك نقول: لو ادّعى أحدٌ شرطيّة شيء من غير أن يقيم عليه ما يطمئن النفس إليه، يمكن دفعه بالأصل ولو على القول بالصحيح، بل لو ادّعى جزئيّة شيء أيضًا لما ذكر، فعلى هذا التحقيق يظهر لك عدم اختصاص دفع الأمور المشكوكة بالأصل بالقول بالأعمّ كما اشتهر في الألسنة، فعليك ثمّ عليك بالتأمّل التامّ فيما ذكر والخوض الكامل فيه وفي أطرافه، عسى أن يظهر لك حقيقة الحال ويفاض عليك صدق المقال؛ وإيّاك ثمّ إيّاك عن ملازمة ربقة التقليد.
إن قلت: إنّ هذه مقالة لا يوافقك عليها أحد؛ لأنّ القائلين بالصحيح إنّما
ص: 315
اختلفوا في إجراء الأصل وعدمه في الشرائط، وأمّا الأجزاء فقد اتّفقوا على خلافه.
قلنا: هذه حكاية قد اشتهرت في الألسنة وصدرت من جماعة من المتأخّرة(1)، وهي مخالفة للواقع؛ ويدلّك على ذلك أنّ القول بالصحيح ممّا ذهب إليه أكثر الأصوليّين في كتبهم الأصوليّة(2)، كما ننبّهك عليه إن شاء الله سبحانه، مع أنّ تتبّع كتبهم الفقهيّة يكشف عن عدم تفرقتهم في الدفع بالأصل(3) بين الأجزاء والشرائط، إلّا من بعض من المتأخّرين، فلا يبعد دعوى اتّفاقهم على ذلك(4)، مع أنّ الظاهر أنّ القول بالصحيح قول الأكثر لو لم نقل إنّه قول علمائنا كما ستقف عليه، والظاهر أنّ وجهه ما نبّهنا عليه.
إن قلت: إنّه على التقدير المذكور لا يصحّ الحكم بدفع الأمور المشكوكة بالأصل، إذ عليه يكون عدم اعتبارها مظنونًا، فلا تكون(5) من الأمور المشكوكة.
ص: 316
قلنا: الشكّ في بداية الأمر متحقّق، وأمّا بعد التتبّع في كلمات الشارع والالتفات إلى مقتضى الأصل، فيؤول الحال إلى الوهم، فإطلاق الشكّ بالنظر إلى أوّل الأمر؛ وهذا كما يقال: من تيقّن الحدث وشكّ في الطهارة، أو بالعكس، مع أنّ الشكّ لا يجتمع مع اليقين.
على أنّ التعبير بالاحتمال يكفي في المقام بأن يقال: إنّ الأمور المحتملة يمكن دفعها بالأصل، مع أنّه لا اختصاص له بالقول بالصحيح؛ لتحقّقه ولو على القول بالأعمّ أيضًا؛ والجواب ما أشرنا إليه.
إذا تحقّقت ذلك، ظهر لك أنّ دفع الأمور المحتملة مطلقًا بالأصل ليس من خواصّ القول بالأعمّ كما شاعت في الألسنة، فلا تظهر الثمرة لهذا الخلاف من هذه الجهة.
نعم، يمكن دعوى الثمرة من هذه الجهة في بداية الأمر بأنّه على القول بالأعمّ لو شكّ في شرطيّة شيء يمكن دفعه بالأصل في أوّل الأمر من غير افتقار إلى غاية الفحص، بخلافه على القول بالصحيح؛ ويظهر وجهه ممّا تقدّم مع تأمّل فيه أيضًا، بناءً على أنّ التمسّك بالأصول قبل الفحص عن المخصّص غير مجوّز، إلّا أن يبني الافتراق في مبلغ الفحص مع الكلام فيه أيضًا.
وكذا تظهر الثمرة بين القولين في مقام النذر ونحوه، كما إذا نذر أحدٌ أن يصلّي صلاة الظهر مثلًا كلّ يوم جماعة، أو في الروضات المشرّفة، أو المساجد المتبرّكة؛ وصلّى، ثمّ انكشف عليه اختلال بعض الأمور الموجبة للفساد والإعادة، فعلى
ص: 317
القول بالأعمّ يقال: إنّه وفي بنذره، فيجوز له الصلاة ثانيًا من غير جماعة وفي غير تلك الأماكن العالية، بخلافه على القول الآخر(1).
لمّا كانت عمدة الثمرة لهذا النزاع إمكان إجراء الأصل في الأمور المحتملة وعدمه، وتبيّن لك ممّا قرّرنا انتفاؤها من هذه الجهة وتحقّقه على القولين واشتراكهما فيه، فلا يهمّنا البحث عن تحقيق الحال في الطرفين وإبراز الحقّ في البين، لكن لمّا كانت الثمرة الّتي أشرنا إليها أيضًا لا تخلو عن اهتمام بشأنها كما لا يخفى، فلا بأس بصرف زمام الكلام إلى تحقيق الحال وإبراز المختار في الجانبين، فنقول: المختار أنّها أسامٍ للصحيحة، لا الأعمّ.
لنا وجوه:
الأوّل: أنّ الرجوع إلى الوجدان شاهد صدق وقاضٍ بالحقّ على أنّ الداعي لوضع اصطلاح من أيّ شخص كان، إنّما دعاه إلى وضعه وتقريره بحيث يترتّب عليه ذلك الداعي، كما لا يخفى على من لاحظ الاصطلاحات المختلفة وتأمّل الصناعات المتفرّقة.
ص: 318
فالداعي للنحويّ إلى وضع الفاعل والمفعول لمسمّاهما المعهود إنّما هو لتمييز أحوالهما المختلفة والانتقال(1) منهما إلى مسمّاهما فيما إذا رآهما في كلامه، أو سمعهما من المخاطب باصطلاحه؛ وهذا إنّما يوجب وضعهما لما يترتّب منه ذلك، لا لشيء آخر وإن كانت المغايرة بالعموم والخصوص.
وهكذا الحال في أيّ اصطلاح كان كما لا يخفى على من سلك جادّة الإنصاف وعدل عن طريق الجور والاعتساف ونظر إلى الاصطلاحات المتداولة بين الناس.
ومن المعلوم أنّ الداعي لوضع مسالك العبادات وتقرير التكاليف والطاعات إنّما هو تحصيل الامتثال والاستعداد للمثوبات الإلهيّة والمواهب السبحانيّة والعطايا الجزيلة؛ وبالجملة: هِداية الناس إلى ما به تنتظم أمورهم الدنيويّة والأخرويّة وتترقّى النفس من حضيض المراتب الهيولانيّة إلى معارج الكمالات الروحانيّة؛ وهذا إمّا يوجب وضع الألفاظ للمعاني الّتي يحصل منها تلك الغاية والمفاهيم الّتي يترتّب عليها تلك السعادة.
والحاصل: أنّ الشارع أوجب إيجاد ماهيّات مخصوصة على كيفيّة مخصوصة بحيث لو أوجدها المكلّف في الخارج يكون ممتثلًا، والظاهر المتاخّم للقطع أنّه عيّن الألفاظ بإزاء تلك المعاني بالحيثيّة المذكورة لينتقل المكلّفون منها إليها ويحاورونها في مخاطباتهم ويبلّغ الشاهد منهم الغائب بواسطتها، والقول بالأعمّ مقتضاه أنّ الشارع وإن أوجب شيئًا معيّنًا يحصل بإيجاده الامتثال، لكنّه لم يعيّن اللفظ بإزاء
ص: 319
ذلك المعنى الّذي يتأتّى به الامتثال، بل بإزاء شيء آخر أعمّ منه، وهذا في الظاهر ممّا لا يرتضيه الراجع إلى الوجدان والمتأمّل في الدواعي الموجبة لوضع الاصطلاحات وإحداث الصناعات كما لا يخفى(1).
إن قيل: لا نسلّم انحصار الفائدة في وضع تلك الماهيّات وإحداثها فيما ذكر؛ لجواز أن تكون فائدته مع ذلك تمييز المسلم عن غيره ومزيد شوكة الإسلام وتقويته.
نعم، عمدة الفائدة ما ذكر، فإذا أوجدها المكلّف على الوجه الصحيح يترتّب عليها الفوائد بأسرها؛ وإن أوجدها لا على الوجه لا ينتفي منها مطلق الفائدة؛ لتحقّق الامتياز المذكور وتقوية الإسلام لكثرة آثاره؛ وإنّما المنتفي بعضها، فيجوز أن يكون وضع الألفاظ لمطلق الماهيّة نظرًا إلى مطلق الفائدة ويكون الأمر قرينة لإرادة الصحيحة.
قلنا: إن أريد من هذا الكلام أنّ وضع الماهيّات واختراعها لترتّب الفوائد بأسرها، فنحن لا ننكره، فهو غير مضرّ؛ لوضوح أنّه يستدعي وضع الألفاظ للمعاني الصحيحة الّتي يترتّب منها تلك الفوائد بأجمعها كما لا يخفى.
وإن أريد أنّ وضعها لا لذلك، بل لترتّب مطلق الفائدة، بمعنى أنّه لمّا كانت مراتب الفوائد مختلفة بالكمال والنقصان، يكون وضع أصل الماهيّات لأجل مطلق الفائدة، والأمر بالفرد الكامل لتحصيل(2) الفائدة الكاملة، فنقول: إنّ تلك الفائدة
ص: 320
المقتضية لوضع اللفظ بإزاء مطلق الماهيّة(1) إمّا حصولها مطلوب من المكلّف حال التعمّد والاختيار، أو في غيرها، أو غير مطلوب أصلًا.
والأوّل: لا شبهة في فساده، إذ مقتضاه أنّ وضع اللفظ من الشارع بإزاء تلك الماهيّة لأجل تلك الفائدة، مع أنّه نهى عن إتيانها وأوعد عليه غاية الإيعاد ويعاقب عليه أشدّ العقاب؛ وهذا ممّا لا يصدر عن العاقل فضلًا عن الشارع الحكيم الكامل.
وعلى الثاني نقول: إنّ تحصّيل(2) تلك الفائدة لا يوجب العدول عمّا ذكرنا ووضع اللفظ بإزاء الأعمّ؛ لحصولها على تقدير الوضع للصحيحة؛ إذ المكلّف اشتغل بإيجاد الماهيّة(3) على إرادة إيجاد الصحيحة، فيترتّب عليه جميع تلك الفوائد إلّا الامتثال بعد أن ظهر عليه إخلاله لبعض ما يوجب ذلك.
وبالجملة: محصّل تلك الفائدة الاشتغال بتلك الأفعال وإن كان اللفظ موضوعًا للمعنى الصحيح كما لا يخفى.
وعلى الثالث يلزم اللغويّة؛ وبالجملة: كيف يمكن صدور فعل من فاعل لأجل غاية مع عدم كونها مطلوبة الحصول، أو كونها ممنوعًا عنها؟!
والثاني: أنّا إذا خُلّينا وأنفسنا يتبادر في أذهاننا ويستبق إلى أفهامنا بمجرّد استماع
ص: 321
لفظ «الصلاة» مثلًا(1) - سواء ورد في سياق الطلب أم لا - المعنى الّذي أوجبه الشارع وأمر به.
وبالجملة: المعنى الّذي يحصل به الامتثال من دون شائبة وريبة؛ وأمّا غيره فغير متبادر؛ والتبادر من أمارات الحقيقة، وعدمه أو تبادر الغير من علامة المجاز، فثبت أنّها أسامٍ للصحيحة لا الأعمّ(2).
إن قلت: أريد التبادر من هذه الألفاظ فيما إذا وردت في كلام المتشرّعة، أو الشارع، وعلى الثاني إمّا أن يكون المراد تبادر ما ذكر في زمان المتشرّعة كما هو الظاهر من التقرير، أو في زمان الشارع.
والأوّل والثاني لا ينفع، أمّا الأوّل فظاهر؛ لأنّ تبادر كلّ قوم أمارة الوضع عندهم، فاللازم أنّ الصلاة مثلًا عند المتشرّعة اسم للمعنى المذكور ولا يلزم منه أن يكون اسمًا له عند الشارع، وليس الكلام إلّا فيه.
وأمّا الثاني فكذلك، توضيحه: أنّ التبادر على ما عرفت فيما سلف عبارة عن فهم المعنى من مجرّد اللفظ مع قطع النظر عن ملاحظة ما سواه؛ وهذا المعنى إذا تحقّق في لفظ بالنسبة إلى طائفة لا يختلف الحال فيه بالنسبة إليهم ولو لم يكن المتكلّم
ص: 322
من أهل ذلك الاصطلاح؛ لأنّ فهم المعنى من اللفظ حالة لو استقرّت لا يختلف باختلاف المتكلّمين وإنّما يختلف باختلاف السامعين؛ ولهذا لو استمع النحويّ لفظ «الفعل» من أيّ شخص كان ولو كان المتكلّم من المخاطب بعرف اللغة، ينصرف ذهنه إلى المعنى المعهود عنده مع علمه بعدم إرادته ذلك المعنى منه.
غاية الأمر يكون صدوره عمّن ليس من أهل الاصطلاح موجبًا لصرفه عن الحمل على المعنى المصطلح عند السامع، لا عن فهمه إيّاه؛ إذ الواجب حمل اللفظ الصادر من أيّ متكلّم كان على اصطلاحه إلّا مع القرينة، فعلى هذا لم يثبت من التبادر المذكور إلّا كون تلك الألفاظ أساميًا للمعاني الصحيحة عند المتشرّعة، لا عند الشارع.
والثالث: وإن كان يثبت به المرام، لكنّه ممنوع؛ لأنّ تبادر المعنى المذكور بحكم الوجدان ليس إلّا التبادر في زمان المتشرّعة، وأمّا أنّ هذا التبادر كان ثابتًا في زمان الشارع فغير معلوم، وأنّى يتأتّى لنا إثبات ذلك.
والجواب: أنّ التبادر عند المتشرّعة كافٍ لإثبات المرام؛ لما أسلفنا من القطع بأنّ المعاني عند المتشرّعة هي المعاني الّتي استعملها الشارع فيها، وأمّا كون استعماله على سبيل الحقيقة أو المجاز، فلا يهمّنا التعرّض له في هذا المبحث؛ إذ الثمرة المترتّبة على هذه المسألة غير موقوفة على القول بالحقيقة الشرعيّة.
وكذا النزاع لتحقّقهما على القولين كما لا يخفى على من أجاد النظر في البين، بل على استعمال الشارع تلك الألفاظ في المعاني المغايرة للّغويّة، ففي الحقيقة مآل النزاع أنّ المعنى المستعمل فيه للشارع هل المعاني الّتي يحصل بها الامتثال المعبّرة
ص: 323
عنها على المشهور بالمعاني الصحيحة أو الأعمّ؟
ومنه يظهر أنّ عنوان المسألة على النحو المتقدّم من كون ألفاظ العبادات أساميًا للصحيحة أو الأعمّ؛ إنّما يلائم بظاهره القول بالحقيقة الشرعيّة كما لا يخفى؛ ولعلّه منهم وتبعهم القائلون بالعدم في هذا العنوان وعوّلوا على ما اختاروه في تلك المسألة قرينة في هذا المقام.
ومن هنا يعلم وجه آخر لِبُعد كون المعاني الشرعيّة أعمّ من الصحيحة والفاسدة بالنسبة إلى القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة أشدّ ممّا سلف؛ لأنّ مقتضى القول بالأعمّ بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعيّة أنّ الشارع وضع الألفاظ للمعنى الأعمّ أوّلًا، ثمّ استعمل في متعلّقات أوامره في المعنى الصحيح، فيكون مقتضاه بناءً على القول بالعدم أنّه استعملها أوّلًا في المعنى الأعمّ، ثمّ استعملها في متعلّقات أوامره في المعنى الصحيح.
وهو متوقّفٌ على كون الخطابات الآمرة - كأقيموا الصلاة مثلًا - مسبوقة بغيرها؛ ومن أين يتأتّى إثبات ذلك، أو يكون المنكر للحقيقة الشرعيّة قائلًا بالصحيح لا الأعمّ، أو يقول بثبوت الاستعمال تارةً في الصحيح وأخرى في الأعمّ؟
والاحتمالات المذكورة بأسرها لا تخلو من بعد، مضافًا إلى ما قدّمنا في الوجه الأوّل؛ على أنّه يمكن أن يقال بعد تسليم التغاير بين المعنى المستعمل فيه الشرعيّ ومعنى المتشرّعة: لا تنتفي الثمرة مطلقًا؛ لأنّ ثمرة المسألة غير منحصرة في كلام الشارع؛ لتحقّقها في الأوقاف والأيمان والنذور ونحوها على ما ظهر لك ممّا أسلفنا، فيختلف الحال على تقدير كونها أساميًا للصحيحة أو الأعمّ عند المتشرّعة
ص: 324
كما يظهر للمتأمّل ممّا مرّ، فتأمّل.
والثالث: صحّة السلب عن العاري عن بعض الشرائط والأجزاء(1)، ويمكن تقريره من العرف والنصّ.
أمّا الأوّل: فلأنّه لا شبهة في أنّ من اشتغل بأفعال الصلاة مستدبرًا للقبلة عند معلوميّتها يقال: إنّها ليست بصلاة، وكذا من ترك الطهارة وتكلّم في الأثناء بكلّ كلام واشتغل بكلّ فعل، وهكذا.
وأمّا الثاني فكالنبويّ المذكور في المعتبر والمنتهى والتذكرة ونهاية الإحكام وغيرها(2): «أنّ رجلًا دخل المسجد ورسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس في ناحية المسجد، فصلّى، ثمّ جاء فسلّم عليه، فقال: وعليك السلام، ارجع فصلّ، فإنّك لم تصلّ، فرجع ثمّ جاء فقال له مثل تلك، فقال له الرجل في الثالثة: علّمني يا رسول الله (صلی الله علیه و آله) فقال: إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء، ثمّ استقبل القبلة، ثمّ اقرأ ما تيسّر معك من القرآن، ثمّ اركع حتّى تطمئنّ راكعًا، ثمّ ارفع رأسك حتّى تعدل قائمًا، ثمّ اسجد حتّى
ص: 325
تطمئنّ ساجدًا، ثمّ ارفع رأسك حتّى تستوي قائمًا، ثمّ افعل ذلك في صلواتك كلّها»(1).
والصحاح المستفيضة عن زرارة، منها: ما رواه في الكافي عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «بينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس في المسجد إذ دخل رجل، فقام يصلّي، فلم يتمّ ركوعه ولا سجوده، فقال (صلی الله علیه و آله): نقر كنقر الغراب، لئن مات هذا وهكذا صلاته ليموتنّ على غير ديني»(2).
لأنّ قوله (صلی الله علیه و آله): «نقر» إلى آخره، أي ليس بصلاة؛ ولا يتوهّم معارضته بإطلاق الصلاة في قوله: «يصلّي»، وهكذا «صلاته»؛ لأنّ الأوّل محمول على إرادة الصلاة كما لا يخفى، والثاني معناه أنّه لو أتى صلاته النفس الأمري(3) على هذه الهيئة؛ ولا يلزم منه إطلاق الصلاة على ما أتاه، فتأمّل.
ومنها: ما رواه في الفقيه من مولانا الباقر (علیه السلام): «لا صلاة إلّا إلى القبلة»(4).
ومنها: ما رواه فيه أيضًا عنه (علیه السلام): «قم منتصبًا، فإنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: من لم يقم صلبه، فلا صلاة له»(5).
ومنها: ما رواه في التهذيب عنه (علیه السلام): «لا صلاة إلّا بطهور»(6).
ص: 326
ومنها: ما رواه فيه أيضًا عن مولانا الصادق (علیه السلام): «من صلّى ولم يصلّ على النبيّ (صلی الله علیه و آله) وترك ذلك متعمّدًا فلا صلاة له»(1).
وكصحيحة محمّد بن مسلم عن مولانا الباقر (علیه السلام)، قال: «سألته عن الّذي لا يقرأ بفاتحة الكتاب في صلاته؟ قال: لا صلاة له»(2).
وكما رواه أبو بصير عن مولانا الصادق (علیه السلام): «إذا رفعت رأسك من الركوع فأقم صلبك، فإنّه لا صلاة لمن لا يقيم(3) صلبه»(4).
وما رواه عنه أيضًا: «من صلّى في غير وقت فلا صلاة له»(5).
وما رواه أبو بكر الحضرميّ بعد أن سأل: «أيّ شيء حدّ الركوع والسجود؟ إلى
ص: 327
أن قال: ومن لم يسبّح فلا صلاة له»(1).
وأشباه ما ذكر من النصوص، فإنّها كثيرة جدًا.
وجه الاستدلال: أنّه لو كان لفظ «الصلاة» مثلًا اسمًا للأعمّ من الصحيحة والفاسدة؛ لما صحّ الحكم بانتفاء جنسها لانتفاء بعض الأمور المعتبرة فيها، والتالي باطل.
أمّا الملازمة؛ فلوضوح أنّ تحقّق جنسها حينئذٍ في ضمن فردين: الصحيحة والفاسدة؛ وغاية ما هناك انتفاء أحد الفردين، وهو غير مستلزم لانتفاء الأعمّ، ضرورة عدم استلزام انتفاء الأخصّ لانتفاء الأعمّ.
وأمّا بطلان التالي؛ فللنصوص المذكورة؛ وجه دلالتها عليه أنّ الظاهر من أئمّة اللغة والعربيّة اتّفاقهم على أنّ كلمة «لا» في أمثال المقام لنفي الجنس، وقد مرّ مرارًا وجوب حمل الألفاظ على المعاني الظاهرة عند انتفاء القرينة.
ص: 328
وقد يناقش في المقام بوجوه:
الأوّل: أنّ مثل هذا التركيب قد وجد في كثيرٍ من الموارد، كقوله (صلی الله علیه و آله): «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد»(1)، و«لا عمل إلّا بنيّة»(2)، ونحوهما، ولا يمكن إرادة الجنس هناك كما لا يخفى، فليكن ما نحن فيه أيضًا كذلك.
والثاني: أنّ الاستدلال بها فيما نحن فيه يستلزم الدور؛ لأنّ نفي الجنس و(3)الماهيّة يتوقّف على كون تلك الألفاظ أسامي(4) للصحيحة؛ لوضوح أنّها لو كانت أسامي(5) للأعمّ لما أمكن الحكم بانتفاء الماهيّة بمحض انتفاء بعض أفراده؛ والمفروض أنّ كون الألفاظ اسمًا(6) للصحيحة متوقّفٌ على نفي الماهيّة؛ لكونه دليلًا عليه.
ص: 329
والثالث: أنّ غاية ما يلزم من قوله (علیه السلام): «لا صلاة إلّا بطهور»(1)، و«لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»(2) مثلًا على تقدير التسليم أنّ الصلاة الّتي لا طهور لها ولا فاتحة فيها ليست بصلاة، ولا يدلّ على أنّ الصلاة اسم للصحيحة كما لا يخفى، إذ لو حصل الطهور والفاتحة وشككنا أنّ السورة أيضًا واجبة مع الفاتحة أم لا، فهذا الحديث لا ينفي كون الصلاة الخالية عنها صلاة، ولا يدلّ على أنّ الصلاة اسم لما جامع جميع الشرائط.
والرابع: أنّ مثل هذه التراكيب لو كانت ظاهرًا في نفي الحقيقة والماهيّة، لكان نفى الإجمال في قوله (علیه السلام): «لا صلاة إلّا بطهور» ونحوه، لظهوره فيما ذكر؛ والتالي باطل؛ لأنّ أحدًا من العلماء لم يتمسّك في مباحث المجمل لنفي الإجمال في أمثال هذه التراكيب بذلك، بل نقول: إنّها ظاهرة في نفي الصفة.
ولذا لم يحتمل أحدٌ من العلماء الفحول في ذلك المبحث دلالتها على نفي الحقيقة إلّا على تقدير كون تلك الألفاظ أسامي للصحيحة، فإثبات كونها أسامي لها بهذه التراكيب يوجب الدور.
ص: 330
والجواب: أمّا عن الأوّل: فظاهر؛ لوضوح أنّ صرف اللفظ عن الظاهر لموجب لا يوجب صرفه عنه مع انتفائه كما لا يخفى، إلّا أن يدّعى ثبوت الوضع الشرعيّ أو العرفيّ لمثل هذه التراكيب في انتفاء الصفة لا الذات، لكنّه ممنوع وعلى من ادّعاه الإثبات، وللمانع يكفي الاحتمال.
على أنّه يمكن المناقشة في مثل: «لا عمل إلّا بنيّة» من وجه آخر، أمّا على القول بركنيّة النيّة فظاهر؛ لأنّ انتفاء النيّة حينئذٍ مستلزم لانتفاء أصل العمل كما لا يخفى، وأمّا على القول بالعدم؛ فلأنّ التمسّك به لكون هذا التركيب لنفي الصفة لا لنفي الذات إنّما يمكن(1) إذا لم تكن الألفاظ أساميًا للصحيحة، إذ على تقديره تنتفي الذات بانتفاء النيّة؛ لأنّ استلزامه لانتفاء الصحّة ممّا لا كلام فيه، فالتمسّك به لذلك يوجب الدور.
إلّا أن يقال: إنّ الكلام في المسألة إمّا هو في الألفاظ الّتي تطلق على العبادات، كالصلاة والصوم ونحوهما، لا في لفظ «العمل»؛ لوضوح أنّ معناه ما يفهم منه لغة وعرفًا، ومعلوم أنّ انتفاء النيّة لا يوجب انتفاؤه قطعًا.
ولقائل أن يقول: إنّ منصب الشارع إنّما هو لبيان الأعمال الشرعيّة المترتّب عليها الآثار المعهودة، فعلى هذا يندرج لفظ «العمل» في الحديث في محلّ النزاع؛ على أنّه ربّما يمكن دعوى التعيّن في ذلك؛ إذ لا شبهة في تقدير الصحّة بناءً على
ص: 331
القول بالأعمّ بأن يقال: إنّ التقدير: «لا عمل صحيحًا إلّا بالنيّة»، والعمل اللغويّ والعرفيّ لم يتوقّف صحّته عليها.
وأمّا عن الثاني: فلأنّه مغالطة لعدم تكرّر الأوسط؛ لأنّ النفي من الشارع وإن كان متوقّفًا على كونه اسمًا للصحيح، لكن كون الاسم للصحيح غير متوقّف له على نفي الماهيّة كما لا يخفى، بل متوقّف على وضعه(1) للصحيح، وعلمنا بكون الاسم للصحيح متوقّف على حكم الشارع بانتفاء الماهيّة بانتفائها، لا على حكمنا بانتفائها بذلك كما لا يخفى، فلا دور.
وأمّا عن الثالث: فظاهر؛ لأنّهم مفترقون(2) على فرقتين، فرقة منهم قالوا بكونها أساميًا للأعمّ ويلزمهم عدم إمكان الحكم بانتفاء الماهيّة؛ لانتفاء شيء من الشرائط المعتبرة كائنًا ما كان، فإذا ثبت الحكم بانتفائها لانتفاء بعض الشروط مثلًا، علم أن لا تكون الصلاة اسمًا للأعمّ ويلزم منه أن تكون اسمًا للصحيح لانتفاء الفارق.
وأمّا عن الرابع: فلأنّه مخالف للواقع؛ وإن شئت أن يظهر عليك حقيقة الحال
ص: 332
فاستمع لما أتلو عليك، فإنّه -مع كونه جوابًا عنه ودليلًا على أنّ منشأه عدم الرجوع إلى كتب القوم- يكون شاهدًا لما ادّعيناه فيما سلف من كون القول بالصحيح قول أكثر علماء الأصول ومختار أعظم العلماء الفحول.
قال العلّامة -أحلّه الله تعالى دار الكرامة- في النهاية:
اختلف الناس في الأفعال المنفية كقوله (صلی الله علیه و آله): «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»(1)، و«لا عمل إلّا بنيّة(2)»(3)، و«لا صيام لمن لا يبيّت الصيام من الليل»(4) [ونحوه]، فذهب الكلّ إلى نفي الإجمال فيه. وقال القاضي أبو بكر(5) وأبو عبد الله البصريّ(6): (إنّه مجمل).
وقسّم أبو الحسين الفعل الّذي دخل عليه حرف النفي إذا لم يكن على صفة من الصفات إلى قسمين، أحدهما: أن يكون انتفاء الفعل [متى لم تحصل تلك الصفة] ممكنًا، بأن يكون النفي داخلًا على اسم شرعيّ كقوله (صلی الله علیه و آله): «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب»؛ لأنّ كلامه (صلی الله علیه و آله) يحمل على معانيه الشرعيّة، فظاهره يقتضي نفي الصلاة
ص: 333
الشرعيّة، وهو يقتضي كون القراءة شرطًا، ويقتضي أن يكون قولنا: «صلاة فاسدة» مجازًا، [أعني وصفنا لها بأنّها صلاة]، ويكون المراد أنّها على صورة الصلاة؛ وكذا قوله (صلی الله علیه و آله): «لا صيام لمن لا يبيّت الصيام من الليل»(1).
إلى أن قال: واحتجّ أبو عبد الله البصريّ(2) على الإجمال بأنّ الصلاة والعمل موجودان، فلا يمكن صرف النفي إليهما.
إلى أن قال: والحقّ أنّه لا إجمال هنا، أمّا فيما له مسمّى شرعيّ؛ فلإمكان نفيه، والشرع أخبر عن انتفاء ذلك المسمّى عند انتفاء الوصف المخصوص.
لا يقال: إنّه قد يقال: هذه صلاة فاسدة، فدلّ على [أنّ] بقاء المسمّى مع الفساد، والفاسد ليس صلاة شرعيّة.
لأنّا نقول: التوفيق بين الدليلين أن يصرف(3) ذلك إلى المسمّى الشرعيّ وهذا إلى المسمّى اللغويّ، وليس بجيّد؛ إذ ليس المراد بقولنا: صلاة فاسدة، أي دعاء فاسد، ولا غيره من المحامل اللغويّة، بل الوجه قول أبي الحسين أنّه مجاز(4)، انتهى كلامه.
وفي مواضع من هذا الكلام دلالة على كون اللفظ اسمًا للصحيح عند الشارع،
ص: 334
إذ لو كان اسمًا للأعمّ بأن يكون المعنى الشرعيّ أعمّ من الصحيح والفاسد لما انتفى مطلق المعنى الشرعيّ بانتفاء ذلك الشيء، بل القسم الواحد منه، ويكون إطلاق الصلاة على الفاسدة حقيقة أيضًا لا مجازًا.
وقال المحقّق -أعلى الله مقامه- في المعارج:
حرف النفي إذا دخل على المصدر كقوله: «لا صلاة إلّا بطهور»، قال أبو عبد الله البصريّ: هو مجمل، وقال قوم: إن كان الفعل شرعيًّا انتفى عند انتفاء الصفة المذكورة [كقوله: لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب](1)؛ لأنّ الشرع أخبرنا بانتفاء ذلك(2).
ولا يخفى أنّ القول البصريّ مبنيٌّ على القول بالأعمّ، والقول الثاني على القول بالصحيح؛ ونسبة الأوّل إلى البصريّ فقط والثاني إلى قوم يرشدك إلى ما ادّعيناه من كون هذا القول قول الأكثر.
وقال في كتاب الأيمان من الشرائع:
إطلاق العقد ينصرف إلى العقد الصحيح دون الفاسد ولا يبرّ بالبيع الفاسد لو حلف ليبيعنّ، وكذا غيره من العقود(3).
وقال شيخ الطائفة -قدّس الله روحه- في كتابه العدّة:
ذهب قومٌ إلى أنّ ما رُوي عنه (صلی الله علیه و آله) من قوله: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» و«لا
ص: 335
صلاة إلّا بطهور»(1) و«لا نكاح إلّا بوليّ»(2) مجمل.
إلى أن قال: وذهب عبد الجبّار بن أحمد إلى أنّ ذلك ليس بمجمل، وقال: لأنّ حرف النفي يدخل في الفعل الشرعيّ، وما يقع منه مع عدم الشرط المذكور لا يكون شرعيًّا، فكأنّه قال: لا صلاة شرعيّة إلّا بطهور، فإذا وقعت من غير طهور لم تكن شرعيّة، فحرف النفي قد استعمل في الحقيقة فيما دخل فيه.
لكن ما ذكرناه أنّما يصحّ إذا دخل حرف النفي في الفعل الشرعيّ، وأمّا(3) إذا دخل(4) فيما عداه فيجب أن ينظر فيه، فإن دخل على الحكم في الحقيقة قضي بنفيه إذا لم يحصل الشرط المذكور، وإن دخل على الفعل والمعلوم من حاله أن(5) يقع فعلًا صحيحًا مع عدم الشرط، فيجب أن يكون مجازًا(6) على ما ذكروه.
إلى أن قال: هذه ألفاظه بعينها ذكرها في كتاب العمد، وهي قريبة إلى الصواب(7)، انتهى كلامه أعلى الله مقامه.
وقال السيّد الأجلّ المرتضى -قدّس الله روحه- في الذريعة: وممّا ألحقه قوم
ص: 336
بالمجمل -وإن لم يكن مع التأمّل كذلك- ما روي عن النبيّ (صلی الله علیه و آله) [من قوله]: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» و«لا نكاح إلّا بوليّ» و«لا صلاة إلّا بطهور»، واعتمدوا على أنّ لفظة «لا» لا يمكن أن تكون نافية(1) للفعل مع علمنا بوقوعه(2).
إلى أن قال: والّذي نقوله في هذا الباب أنّ الّذي ذكروه وإن كان في اللفظ نفيًا، فهو في القصد(3) والغرض إثبات؛ والغرض أنّ من شرط الصلاة الطهور وقراءة فاتحة الكتاب [والوليّ في النكاح](4)، فجعلوا النفي منبئًا عن الإثبات، وهو أوكد منه؛ لأنّ قول القائل: «لا صلاة إلّا بطهور» أوكد من قوله: «من شرط الصلاة الطهور»، والنفي واقع في الحقيقة على الصلاة؛ لأنّ فقد الطهارة ينفي كونها صلاة مشروعة، وكذلك الظاهر في كلّ ما دخل عليه هذا الحرف من نكاح و(5) صيام و(6) غير ذلك(7).
ص: 337
وقال السيّد السند عميد الدين(1) في شرحه على تهذيب الأصول:
(أكثر الناس على أنّه لا إجمال في اللفظ الدالّ على نفي الفعل، مثل: «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» و«لا عمل إلّا بنيّة» و«لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل»؛ خلافًا لأبي عبدالله البصريّ؛ لأنّ اللفظ إن كان له مسمّى شرعيّ -كالصلاة والصيام- حمل على ظاهره من نفي مسمّاه عند انتفاء الأمور المذكورة، كالقراءة في الصلاة وتبيت(2) النيّة في الصيام، وهو يقتضي(3) كونها أجزاء من تلك الأفعال المنفيّة، أو شرائط لها. وإن لم يكن له مسمّى شرعيّ مثل: «لا عمل إلّا بنيّة» حمل على نفي الصحّة؛ لأنّ نفي الذات غير مقصود لتحقّقها.
إلى أن قال: احتجّ المخالف بأنّ الصلاة والعمل مثلًا موجودان، فامتنع صرف النفي إليهما، إلى آخره.
ثمّ قال: والجواب بالمنع(4) من وجود ما له مسمّى شرعيّ، كالصلاة والصيام عند عدم القراءة(5) وتبيت(6) النيّة؛ لأنّهما إنّما يصدقان حقيقة على
ص: 338
الصحيح منهما(1).
قال الشارح الفاضل جمال الدين في شرحه على التهذيب بعد نقل الخلاف في المسألة، أقول: «لا صلاة» يمكن منه إرادة نفي الذات بلا شبهة؛ لأنّ الصلاة موضوعة شرعًا للصحيحة، فالصلاة الباطلة ليست بصلاة البتّة، فلا يحتاج إلى اختيار المجاز)(2)، انتهى كلامه رفع مقامه.
قال شيخنا الشهيد -أعلى الله مقامه- في القواعد:
الماهيّات الجعليّة -كالصلاة والصوم وسائر العقود- لا تطلق على الفاسد إلّا الحجّ؛ لوجوب المضيّ فيه، فلو حلف على ترك الصلاة(3) أو الصوم اكتفى بمسمّى الصحّة، وهو الدخول فيهما، فلو أفسدهما بعد ذلك لم يزل الحنث، ويحتمل عدمه؛ لأنّها لا تسمّى صلاة شرعًا ولا صومًا مع الفساد، أمّا لو تحرّم في الصلاة، أو دخل
ص: 339
في الصوم مع مانع من الدخول لم يحنث قطعًا(1).
وقال شيخنا الشهيد الثاني -قدّس الله روحه- في المسالك في شرح العبارة السالفة من الشرائع:
«عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد؛ لوجود خواصّ الحقيقة والمجاز فيهما، كمبادرة المعنى إلى ذهن السامع عند إطلاق قولهم: باع فلان داره وغيره؛ ومن ثمّ حمل الإقرار به عليه حتّى لو ادّعى إرادة الفاسد لم يسمع(2) إجماعًا؛ وعدم صحّة السلب وغير ذلك من خواصّه، فلو(3) كان مشتركًا بين الصحيح والفاسد لقبل تفسيره ب-«أحدهما» كغيره من الألفاظ المشتركة»(4).
وقوله -طاب ثراه-:
«وعدم صحّة السلب» مع عدم إنكار القائل بالأعمّ كونه حقيقة في الصحيح، الظاهر أنّه أراد به أنّ القائل بالأعمّ لمّا كان ظاهره أنّه يكون موضوعًا للمعنى المشترك بين القسمين، فيكون اللفظ عنده من المشترك المعنويّ، فعلى هذا ينبغي أن يصحّ السلب عن الصحيح بخصوصه مع أنّه ليس كذلك، وستقف على مزيد توضيح لذلك.
وقال في كتاب الغصب: تسميته على تقدير فساد الشراء مشتريًا مجاز بحسب
ص: 340
الصورة، وإلّا فالبيع حقيقة لا يطلق إلّا على الصحيح(1).
وقال في كتاب الصلاة منه: ويشترط صحّة كلّ من الصلاتين لولا الاجتماع المذكور، فلا تؤثّر(2) الفاسدة في صحّة الأخرى، والإطلاق منزّل على الصحيحة(3).
وقال في كتاب الوقف منه في مقام بيان أنّ القبض المعتبر في الوقف يتحقّق في المسجد الموقوف بصلاة واحدة فيه، ما هذا كلامه:
واعلم: أنّه لا فرق في الصلاة بين الواجبة والمندوبة ولا بين الواقعة من الواقف وغيره، ويشترط كونها صحيحة ليتحقّق مسمّاها شرعًا(4)، انتهى كلامه.
ويقرب منه ما ذكره صاحب التنقيح، قال:
الرابع(5): القبض في المسجد صلاة مسلم صلاة صحيحة(6).
وقال في كشف اللثام في مبحث صلاة كلّ من الرجل والمرأة بحذاء الآخر:
إنّ الصلاة الفاسدة ليست بصلاة حقيقة، فلا يفهم من لفظها إلّا بقرينة(7).
وقال الفاضل المحقّق الأستاذ -أعلى الله مقامه في المعاد- في حاشية المعالم:
ص: 341
(قد أثبتنا في الفوائد(1) كون الصلاة حقيقة عند المتشرّعة في خصوص الصحيحة، وكذا غيرها من العبادات؛ للتبادر وصحّة السلب عن الفاسد وأصالة عدم التقدير في مثل: «لا صلاة إلّا بطهور»)(2).
قال الآمدي في إحكامه:
اختلفوا في قوله (علیه السلام): «لا صلاة إلّا بطهور» و«لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» و«لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل».
إلى أن قال: والمختار أنّه لا إجمال في هذه الصور؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يقال بأنّ الشارع له في هذه الأسماء عرف، أو لا عرف له فيها، بل هي منزّلة على الوضع اللغويّ، فإن قيل بالأوّل فيجب تنزيل كلام الشارع على عرفه، إذ الغالب منه أنّه إنّما يناطقنا فيما له فيه عرف بعرفه، فيكون لفظه منزّلًا على نفي الحقيقة الشرعيّة من هذه الأمور، ونفي الحقيقة الشرعيّة ممكن، والأصل حمل الكلام على ما هو حقيقة فيه، وعلى هذا فلا إجمال(3).
وأنت إذا أحطت خبرًا بما ذكرنا، ظهر لك صحّة ما ادّعينا من كون المناقشة المذكورة مخالفة للواقع؛ لوضوح أنّ بناء جميع المقالات المذكورة على أنّ انتفاء الإجمال فيما نحن فيه لظهوره في نفي الجنس والحقيقة وإمكان إرادته بناءً على ثبوت المعنى الشرعيّ، مضافًا إلى تصريحات كثير منهم عليه أيضًا، لكن ما ذكرنا
ص: 342
يغني ذكرها.
ومنه ظهر(1) أنّ الحكم بأنّه لم يحتمل أحد من العلماء الفحول دلالة تلك الهيئة على نفي الحقيقة إلّا على تقدير كون الألفاظ أساميًا للصحيحة، غيرُ صحيح جزمًا؛ وكأنّ منشأه كلام صاحب المعالم تبعًا لشارح المختصر حيث قال بعد الحكم بعدم الإجمال:
لنا: أنّه إن ثبت أنّها(2) حقيقة شرعيّة في الصحيحة منها(3) -إلى آخر ما ذكره- وإن لم يثبت لها(4) حقيقة شرعيّة كما مرّ، إلى آخره(5).
مع ما في كلامه من الحزازة، إذ المناسب بالترديد المذكور أن يقول: وإن لم يثبت أنّها حقيقة شرعيّة في الصحيحة، بل أعمّ منها ومن الفاسدة، أو: لم يثبت لها حقيقة شرعيّة.
ويمكن أن يكون عدم الالتفات إليه لعدم الافتقار إليه؛ لإمكان أن يدّعى أنّه ممّا لا قائل به من علمائنا على ما ظهر لك ممّا نقلنا من مقالاتهم(6)، وعلى تقدير
ص: 343
وجوده لا شبهة في ندرته وشذوذه(1)، فلا حاجة إلى التعرّض إليه، بل حكمهم بعدم الإجمال لتصريحهم بأنّ الهيئة المذكورة ظاهرة في نفي الجنس(2)؛ والحمل عليه عند المسمّى الشرعيّ ممكن، فيلزم منه أنّ المسمّى الشرعيّ عندهم المعنى الصحيح، إذ لو كان أعمّ منه لما أمكن ذلك، كما لا يخفى.
وأمّا دعوى ظهور تلك الهيئة في نفي الصفة لا الجنس ممّا لم يقل به أحد؛ ويدلّك مضافًا إلى تصريحات كثير منهم -كما يظهر للمتتبّع في كلامهم- ترجيحهم تقدير
ص: 344
نفي الصحّة على نفي الكمال؛ لكون الأوّل أقرب إلى الحقيقة من الثاني، ومعلوم أنّ ذلك إنّما يتمّ إذا كانت الهيئة حقيقة وظاهرة في نفي الحقيقة كما لا يخفى.
إن قلت: كيف يمكن الحكم بأنّ القول بالأعمّ ممّا لم يذهب إليه إلّا قليل من علمائنا، مع أنّ كتبهم الفقهيّة مشحونة بأنّ تلك الصلاة باطلة، بل ربّما قسّمت إلى الصحيحة والفاسدة، والمقسم مشترك في أقسامه ومتحقّق فيها؛ وأيضًا أنّ دفع الأمور المحتملة بالأصل ممّا أطبقت عليه كلماتهم، وهو إنّما يتمّ على القول بالأعمّ لا الصحيح.
قلنا: أمّا الجواب عن الثاني فقد عرفت ممّا أسلفنا، وأمّا عن الأوّل فلأنّ الإطلاق أعمّ من الحقيقة والمجاز، وظهور القسمة على فرض تحقّقها(1) لا يلتفت إليه بعد تحقّق التصريح على خلافه، وستقف على زيادة كلام في ذلك.
نعم، قد صرّح السيّد الشارح عميد الدين في شرحه على التهذيب في مبحث دلالة النهي على الفساد بكون الصلاة اسمًا للصحيحة والفاسدة، حيث قال:
والحقّ(2) أنّ الصلاة مثلًا تصدق شرعًا على الصحيحة والفاسدة؛ لصحّة تقسيمها إليهما، فهي أعمّ منهما، والعامّ لا يدلّ على الخاصّ، وكذا البيع والنكاح وغيرهما، ونمنع كون المعنى الشرعيّ هو الصحيح دون غيره، وإلّا لما صحّ أن
ص: 345
يقال لمن صلّى صلاة فاسدة: «أعد صلواتك»، وحمله على المجاز(1) مخالف للأصل(2)، انتهى.
وفي كلام بعض آخر في ذلك المبحث إيماء أو ظهور إليه، بل تصريح به أيضًا، لكنّ الجواب عنه: هو أنّ التصريح فيما بعد ذلك المبحث بالمجازيّة والاختصاص بالصحيحة دليلٌ على العدول عن ذلك كما لا يخفى.
ثمّ اعلم: أنّه يمكن أن يناقش في بعض هذه النصوص بوجه آخر غير ما ذكر، تقريرها: هو أنّ قوله (علیه السلام): «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ونحوه، لا شبهة في عدم إمكان حمله على ظاهره؛ لوضوح أنّ انتفاء الحمد ساهيًا لا يوجب انتفاء ماهيّة الصلاة، فلا بدّ فيه من التقييد، فكما يمكن تقييده بحالة التعمّد فيصحّ الاستدلال به حينئذٍ لما نحن فيه، يمكن التقييد بحالة السهو والنسيان، فلا يصحّ لما عرفت، بل لا بدّ حينئذٍ من تقدير الكمال، فلا يتمّ الاستدلال.
ويمكن الجواب عنها أيضًا: بأنّ الأمر وإن كان كما ذكر، لكن الحمل على حال التعمّد أولى، إذ لا يلزم معه صرف «لا صلاة» عن ظاهره، بخلاف الحمل على حالة السهو والنسيان؛ هذا مع أنّ في تقدير الكمال كلامًا، لإمكان أن يقال: إنّ انتفاء الحمد ساهيًا لا يوجب انحطاطها عن درجة الكمال، فتأمّل.
ص: 346
نعم، هنا مناقشة أخرى أصعب ممّا ذكر مختصّة ببعض تلك النصوص، وهي أنّ بعض النصوص المذكورة صدره معارض لذيله، كقوله: «من صلّى ولم يصلّ على النبيّ (صلی الله علیه و آله) »، إلى أن قال: «فلا صلاة له»(1)؛ لأنّ مقتضى قوله: «من صلّى» تحقّق ماهيّة الصلاة مع عدم ذلك الشيء، ومقتضى قوله: «فلا صلاة» انتفاؤها، ويجيء الكلام فيه عن قريب إن شاء الله تعالى.
ص: 347
إعادة مقال لنقل استدلال
وحيث قد انقضى الكلام في تحقيق أدلّة القول بالصحيح، فبالحريّ أن نصرف زمام الكلام إلى تحقيق أدلّة القول بالأعمّ، فنقول: لهم وجوه أيضًا:
الأوّل: النصوص الدالّة على كون الفاسدة صلاة أيضًا، وهي على أنواع:
منها: ما رواه في التهذيب عن أبي بصير، عن أبي عبدالله (علیه السلام)، قال: من صلّى في غير وقت فلا صلاة له(1).
والنصوص بهذه الكيفيّة كثيرة.
القبلة وأنت في وقت فأعد، وإن فاتك الوقت فلا تعد(1).
و(2) الموثّق المرويّ فيه عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام)، «في رجل صلّى الغداة بليل غرّه من ذلك القمر ونام حتّى طلعت(3) الشمس، فأخبر أنّه صلّى بليل، قال: يعيد صلاته»(4).
والموثّق المرويّ فيه عن سماعة، قال: «إذا سها الرجل في الركعتين الأوليين(5) من الظهر والعصر [والعتمة]، فلم يدر(6) واحدة(7) صلّى أم ثنتين، فعليه أن يعيد الصلاة»(8).
والصحيح المرويّ فيه عن الفضل بن عبد الملك، قال: «قال لي: إذا لم تحفظ الركعتين الأوليين(9) فأعد صلواتك»(10).
والنصوص المشاركة لها أكثر من أن تحصى.
ص: 349
ومنها: ما رواه في الكافي في الموثّق أو الصحيح عن المفضّل(1) بن يسار، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «بني الإسلام على خمسة(2)، على الصلاة والزكاة والحجّ والصوم(3) والولاية، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية، فأخذ(4) الناس بأربع وتركوا هذه [يعني الولاية]»(5).
وجه الاستدلال: أمّا بالنسبة إلى الأوّل: فلأنّه كما يكون مدلول «من ضرب» و«كتب» وهكذا، من أوجد حقيقة الضرب والكتابة، كذا يكون مدلول «من صلّى في غير وقت» من أوجد حقيقة الصلاة فيه؛ ومعلوم أنّ ذلك إنّما يمكن عند تحقّقها في ضمن الفاسد، وهو إنّما يتمّ على تقدير كون الصلاة اسمًا للأعمّ كما لا يخفى.
لا يقال: إنّ الظاهر منه وإن كان كما ذكر، لكن يعارضه ظاهر قوله (علیه السلام): «لا صلاة له»، إذ مدلوله الظاهر: لا يكون آتيًا لحقيقة الصلاة وجنسها؛ ودفعه(6) كما يمكن بصرف اليد عن ظاهر الثاني فيتمّ الاستدلال، كذا يمكن بالعكس بأن يقال:
ص: 350
إنّ معنى «من صلّى»: من أوجد مشابه الصلاة وصورتها، فلا يتمّ الاستدلال.
لأنّا نقول: لا نسلّم أنّ الظاهر من «لا صلاة له» ما ذكر، بل مدلوله بقرينة اللام الدالّة على الانتفاع: لا صلاة لانتفاعه، ومعلوم أنّ الصلاة الّتي للانتفاع هي الصحيحة، وظاهرٌ أنّ نفي الجنس في ضمن معيّن لا ينافي الحكم بإثبات مطلق الحقيقة، ضرورة أنّ انتفاء الأخصّ لا يستلزم انتفاء الأعمّ.
وعلى فرض تسليم أن لا يكون مدلول اللام فيما نحن فيه الانتفاع(1) بأن يحمل على مطلق الملكيّة، نقول: وإن كان مدلوله حينئذٍ أنّه لا يكون مالكًا لجنس الصلاة؛ وهو على فرض تسليم أن يكون مستلزمًا لأن لا يكون آتيًا لجنس الصلاة، فيتحقّق التنافي بين صدر الحديث وذيله، لكنّ الترجيح للتجوّز في الذيل بحمل الصلاة المنفيّة على الصلاة المحصّلة للامتثال والصحيحة، لأولويّة التقييد من المجاز.
وأمّا بالنسبة إلى الثاني فظاهرٌ؛ لأنّ الإعادة عبارة عن إتيان الشيء ثانيًا، وهو إنّما يتحقّق إذا كانت السابقة الفاسدة صلاة حقيقة.
إن قلت: إنّ ذلك ممّا لا اختصاص له بالقول بالصحيح؛ لتحقّقه على القولين، إذ الصلاة السابقة فاسدة والمأتيّ بها ثانيًا صحيحة، فلا يصحّ أنّ ذلك إتيان ذلك الشيء ثانيًا.
قلنا: الاختلاف بهذا المقدار ممّا لا بدّ منه في معنى الإعادة؛ لأنّها عبارة عن
ص: 351
الإتيان ثانيًا لوقوع خلل في الأوّل، وهو متحقّق في الأوّل دون الثاني.
وبالجملة: إنّ الاختلاف على القول بالأعمّ في الوصف، وهو ممّا لا بدّ منه في تحقّق الإعادة؛ وأمّا على القول بالصحيح فهو بحسب الذات والحقيقة، وهو ممّا يأباه لفظ «الإعادة».
وأمّا بالنسبة إلى الثالث، فلأنّ المراد بالناس العامّة، وإطباق أصحابنا منعقد على فساد عباداتهم، ونصوصنا مستفيضة بذلك، فلو لم تكن الصلاة مثلًا اسمًا للأعمّ من الصحيحة، لزم تركهم الخمسة بأسرها كما لا يخفى، والتالي باطل، لحكمه (علیه السلام) بأخذ الأربع وترك الواحد، فيلزم منه أن تكون كلّ من الصلاة والزكاة والحجّ والصوم أساميًا للأعمّ من الصحيحة والفاسدة، وكذا غيرها؛ لانتفاء الفارق، فثبت المدّعى.
ويمكن الجواب: أمّا عن الأوّل: فلأنّا نقول: إنّ من صلّى معتقدًا لدخول الوقت، ثمّ انكشف الخلاف وظهر وقوع صلاته بأسرها خارج الوقت؛ إنّما يمكن حينئذٍ الحكم بانتفاء الصلاة لانتفاعه بناءً على القول بالصحيح لا الأعمّ، إذ بناءً عليه لا شبهة في تحقّق ماهيّة الصلاة منه؛ والظاهر القريب من القطع أنّه ممّا يوجب الثواب والأجر؛ لاشتغاله بها عازمًا للامتثال والخلوص ومتقرّبًا إلى ربّ الأرباب.
وغاية ما هناك أنّه لم يحصل له الامتثال بالنسبة إلى الأمر المتوجّه بالصلاة في
ص: 352
وقتها المعيّن، وهو لا يوجب انتفاء الأجر للصلاة الّتي صدرت منه بقصد الخلوص والإطاعة، فالصلاة لانتفاعها على القول بالأعمّ متحقّقة، فكيف يمكن الحكم بانتفائها؟!
نعم، إنّما يصحّ ذلك بناءً على القول بالصحيح؛ لأنّ الصلاة للانتفاع حينئذٍ غير موجودة، وإنّما الموجب للنفع فعل آخر غيرها مشابه لها، فالحمل على هذا المعنى مفسد للقول بالأعمّ [لا] دليلٌ له ودليلٌ للقول بالصحيح، لا دليلٌ عليه، إلّا أن يقيّد الانتفاع بالامتثال أو الكامل، أو يقيّد المصلّي بما إذا أتى الصلاة خارج الوقت مع عدم اعتقاده دخوله، أو اعتقاده عدم دخوله، وكلّ ذلك مخالفٌ للظاهر.
ثمّ إنّ الحكم بأولويّة التقييد من التجوّز غير صحيح على إطلاقه، بل إنّما يسلم إذا لم يترجّح التجوّز بمرجّح؛ وما تقدّم من الأدلّة وموافقة الشهرة -لو لم يدّع الإجماع - ممّا يرجّحه عليه في الغاية.
وأمّا عن الثاني: فلأنّ ذلك مبنيٌّ على كون لفظ «الإعادة» حقيقة في المعنى المذكور في اللغة، أو عند الشارع، وكلاهما محلّ المنع، فعلى هذا نقول: «أعد صلواتك» بمعنى: ائت صلواتك، وهكذا، فسقط الاستدلال.
وعلى فرض التسليم نقول: إنّ التجوّز في كثير(1) من تلك النصوص ممّا لا بدّ
ص: 353
منه، إذ الإعادة بناءً على ما مرّ: إتيان الشيء ثانيًا لوقوع خلل ونقص في الأوّل؛ وهذا المعنى في النصوص المشتملة على «أعد صلواتك» ونحوه ممّا علّق فيه الإعادة بالصلاة إنّما يتحقّق إذا كان ظهور مقتضى الإعادة بعد الفراغ من العمل؛ لأنّ الصلاة أفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة(1) بالتسليم إمّا مطلقًا كما يقتضيه القول بالأعمّ، أو على وجه الصحّة كما يقتضيه القول الآخر، فهي بالنسبة إلى الركعات ليست من قبيل اللفظ الموضوع للمعنى العامّ المتحقّق في ضمن كلّ أبعاضه، كالماء الموضوع للجسم السيّال المخصوص المتحقّق في ضمن كلّ أبعاضه؛ ولهذا يكون كلّ بعض من أبعاضه جزئيًّا من جزئيّاته وفردًا من أفراده، بل هي موضوعة للمعنى المجموع والمركّب الّذي يكون كلّ بعض منه جزءًا من أجزائه.
ولهذا لا يقال لمن صلّى صلاة الظهر مثلًا: إنّه أوجد ماهيّات متعدّدة من الصلاة في ضمن جزئيّات متعدّدة، بل يقال: إنّه أوجد ماهيّة الصلاة في ضمن فرد واحد، فعلى هذا إذا علم مقتضى الإعادة قبل الفراغ مطلقًا ولو كان في الركعة الأخيرة، لا يصدق «أعد صلوتك» على وجه الحقيقة.
وكثير من النصوص من هذا القبيل، بل لا بدّ حينئذٍ إمّا رفع اليد عن ظاهر الإعادة بأن يقال: إنّ المراد منها إتيان العمل، أو عن ظاهر الصلاة بأن يقال: إنّ إطلاقها في ذلك المقام على التجوّز، وعلى التقديرين لا يتمّ الاستدلال.
ص: 354
أمّا على الأوّل: فلأنّه بناءً عليه لم يثبت منه إطلاق الصلاة على الفاسدة حتّى يتمسّك بأنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة؛ لأنّ المراد حينئذٍ الأمر بإتيان الصلاة المأمور بها كما لا يخفى.
وأمّا على الثاني: فلكونه مبنيًّا على أنّ استعمال لفظ «الصلاة» في ذلك الفاسد على وجه التجوّز، فلا يتمّ التقريب، فتأمّل في المقام حتّى يظهر لك عدم اختصاص هذا المرام بالقول بالحقيقة الشرعيّة وتماميّته على القولين.
إن قلت: هذه الدعوى على التقدير الأوّل وإن كانت مسلّمة، لكنّها على الثاني غير مسلّمة؛ لأنّ إطلاق الصلاة على ذلك الجزء إنّما هو لكونه جزءًا، فيطلق اسم الكلّ عليه؛ وهذا إنّما يتمّ إذا كان لفظ «الصلاة» اسمًا للكلّ الفاسد كما لا يخفى.
قلنا: القدر المسلّم أنّ استعمال لفظ «الصلاة» هناك على التجوّز، وأمّا كون العلاقة ما ذكر فممنوع، فمن أين يتأتّى إثبات ذلك؟!
فيمكن أن تكون المشابهة في الصورة، أي: لمّا كانت تلك الأفعال مشابهة في الصورة للصلاة الصحيحة أطلق عليها اسمها، فإذا قام الاحتمال بطل الاستدلال، فعلى ما ذكر يكون المدلول في النصوص الّتي على هذا المنوال: أعد تلك الأفعال مثلًا(1)، فلا دخل لها فيما نحن فيه.
وأمّا في النصوص الّتي لم تكن كذلك، بل يكون ظهور المقتضي للإعادة بعد الفراغ، فإطلاق الصلاة على الفاسدة وإن كان مسلّمًا، لكنّه لا يثبت منه المدّعى،
ص: 355
إمّا للمنع من أصالة الحقيقة فيما نحن فيه، بناءً على دوران الأمر بين الاشتراك والمجاز، إذ كون لفظ «الصلاة» اسمًا للصحيحة ممّا لا شبهة فيه، فلو كان اسمًا للفاسدة أيضًا يلزم الاشتراك.
إن قلت: إنّ ذلك مبنيّ على كون الصحيحة بخصوصها مسمّى للفظ «الصلاة»، وهو ممّا لا يلتزمه(1) القائل بالأعمّ، وقوله: «بأنّه اسم للأعمّ» شاهد عليه.
قلنا: لو لم يكن خصوص الصحيحة مسمّى للفظ «الصلاة»، لزم أن يكون استعماله في خصوص الصحيحة بأن يراد الخصوصيّة من ذلك اللفظ مجازًا، وهو ممّا لا شبهة في فساده؛ وعدم صحّة سلب الصلاة عن الصحيحة بخصوصها دليل عليه، فإذا ثبت وضعه لخصوص الصحيحة بالتبادر وعدم صحّة السلب نقول: لو كان اسمًا أيضًا للأعمّ أو الفاسدة(2) فقط يلزم الاشتراك المرجوح بالنسبة إلى المجاز.
وإمّا لأنّ حمله على مقتضى الأصل يوجب التجوّز في قوله (علیه السلام): «لا صلاة إلّا بطهور» وأشباهه، وحملها على ظاهرها يوجب التجوّز فيما نحن فيه، وهو أولى، بل متعيّن لما تقدّم.
ص: 356
وأمّا عن الثالث: فلأنّ المعرفة إذا أعيدت نكرة كان الثاني غير الأوّل، وكذا النكرة إذا أعيدت نكرة(1)، فلو كانت الصلاة اسمًا للأعمّ من الصحيحة، مقتضى إتيان «أربع»(2) نكرة أن تتكون غير الأربع المذكورة؛ وهو إنّما يتحقّق على هذا التقدير أن تكون الأربع الّتي أخذها الناس مشاركة مع تلك الأربعة المذكورة في الصورة، لا في الحقيقة.
وفيه نظر، للقطع بأنّ المراد من قوله (علیه السلام): «بني الإسلام على خمسة، على الصلاة» إلى آخره، ليس إلّا الصحيحة، لا الفاسدة ولا الأعمّ، فلو كان ما أخذه الناس فاسدًا تتحقّق المغايرة، مع كون الصلاة حقيقة فيهما.
فالحقّ في الجواب هو ما تقدّم من الوجهين المذكورين آنفًا:
أوّلهما أن يقال: إنّ غاية ما ثبت من ذلك إطلاق الصلاة على الفاسدة، وهو ممّا لا ينكر، لكنّه لا يثبت منه المدّعى إلّا بعد أن يضمّ به أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة؛ وهذه الضميمة فيما نحن فيه غير صحيحة؛ لما عرفت من دوران الأمر بين المجاز والاشتراك، بل الأصل فيه التجوّز على ما مرّ تحقيق الحال بحيث لا مزيد عليه.
ص: 357
والثاني بعد الإغماض عنه: أنّ العمل بالأصل المذكور إنّما يتوجّه إذا لم يعارضه مخالفة الأصل من وجه آخر؛ وما نحن فيه ليس منه؛ لأنّ العمل بمقتضى الأصل فيما نحن فيه يستلزم صرف النصوص السالفة من قوله: «لا صلاة إلّا بطهور» وأشباهها عن ظواهرها وبالعكس، واللازم في مقام التعارض اختيار الراجح من المتعارضين والعدول عن المرجوح في البين، وقد ظهر ممّا سلف وجه الرجحان والمرجوحيّة، فلاحظ.
والثاني من الوجوه الّتي يتمسّك بها لإثبات أنّ الألفاظ أسامٍ للأعمّ: تقسيم الصلاة ونحوها إلى الصحيحة والفاسدة، ومعلوم أنّ المقسم معتبر في الأقسام ومشترك بينها، إذ القسمة عبارة عن ضمّ قيود متباينة أو المتغايرة بالمقسم، فبانضمام كلّ قيد إليه يحصل قسم(1).
والجواب: إن كان المراد دعوى التقسيم في النصوص أو في كتب الفقهاء إليهما، فهي ممنوعة؛ لأنّا لم نجده في شيء من النصوص والكتب.
وإن كان المراد دعوى صحّة القسمة إليهما فنقول: إنّها مبنيّةٌ على كون اللفظ اسمًا للأعمّ من الصحيحة والفاسدة، فالاستدلال به عليه يوجب الدور.
ص: 358
وإن أريد صحّتها(1) في العرف والعادة إليهما(2)، فيستدلّ بها على كون اللفظ اسمًا للأعمّ، نمنع ذلك أوّلًا ودلالتها ثانيًا؛ لأنّ كثرة استعمال اللفظ في المعنى المجازيّ قد يوجب المسامحة في أمثال ذلك؛ ولهذا تجد القبح والوحشة في قولنا: الزكاة على قسمين: صحيحة وفاسدة؛ لعدم تحقّق الكثرة في هذا اللفظ، وكذا الخمس ونحوهما.
ثمّ على تقدير التسليم في الكلّ نقول: غاية ما هناك ظهور القسمة في ذلك، والظهور ممّا يجب رفع اليد عنه عند معارضته بأقوى منه، وقد عرفت الحال مفصّلًا وستقف على ما ينفعك في المقام أيضًا.
قال شيخنا الشهيد الثاني في المسالك في كتاب الأيمان بعد الحكم بأنّ عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد:
«وانقسامه إلى الصحيح والفاسد أعمّ من الحقيقة»(3).
والجواب عنه: إن كان المراد عدم صحّة السلب في النصوص، فهو ممنوع، وكيف؟! مع أنّك قد عرفت خلافه فيها(1).
وإن كان المراد في غيرها نقول بمثل ما تقدّم من ابتنائه على القول بالأعمّ، فالاستدلال به عليه يوجب الدور.
وإن كان المراد في العرف غير الفقهاء، نمنع ذلك أوّلًا؛ لأنّ من صلّى الفريضة إلى غير القبلة مع عدم الطهارة، مع علمه بكلّ منهما وكذا علم العرف، ويخرج كلّ ساعة ألف ضرطة، ويتكلّم كلّ آن بألف كلام، ويشتغل بالحمد والسورة والركوع والسجود وغيرها، نقول: لا شبهة في حكمهم بأنّها ليس بصلاة من دون أن يتأمّل أحد منهم في ذلك، وكذلك بالنسبة إلى من أتى جميع أفعال الصلاة والشرائط، لكن مع قصد الاستهزاء والسخريّة واللعب والمضحكة، ولا يتأمّل واحد(2) منهم في صحّة الحكم بأنّها ليست صلاة، وهكذا الحال في غير ما ذكر، فلو كان اسمًا للأعمّ من الصحيحة والفاسدة لما أمكن ذلك في شيء من الموارد؛ لتحقّق الأركان فيها.
ونمنع صحّة الاستدلال ثانيًا؛ لأنّ علم العوامّ من المتشرّعين بالمعاني الشرعيّة التوقيفيّة إنّما هو بواسطة علمائهم وهم مختلفون في المسألة، ولا يجوز مزيّة الفرع على الأصل.
ص: 360
إن قلت: لا نسلّم أنّ علم العوامّ من المتشرّعين بواسطة علمائهم؛ لوضوح أنّ الشارع أوقف الحاضرين المكلّفين على المعاني الشرعيّة قطعًا وبقيت تلك المعاني بينهم خلفًا عن سلف وحديثًا عن قديم إلى هذا الزمان وهكذا إلى يوم القيامة؛ ومنه يظهر الوجه في رجوع العلماء في تشخيص المعاني اللغويّة والعرفيّة إلى أهل اللسان ولو كانوا من العوامّ.
قلنا: هذا ممّا لا شبهة في فساده فيما نحن فيه؛ إذ القدر المسلّم تحقّق العلم في الجملة بالمعاني الشرعيّة، وأمّا على التفصيل فليس بحاصل قطعًا، وإلّا كانت المعاني الشرعيّة بأسرها معلومة تفصيلًا لكلّ أحد؛ وهل حيرة(1) العلماء إلّا في ذلك؟! والقدر المسلّم(2) لا يكفي فيما نحن فيه كما لا يخفى.
وأيضًا نحن نقطع بأنّ استعمالات العوامّ وطريق محاوراتهم في الألفاظ الشرعيّة غير منحصرة على نهج في طريق استعمالات الشارع، بل حصل التغيير والتبديل بحيث لا يوافق شيئًا من القولين.
وإن أردت أن يظهر لك حقيقة الحال فاعلم: أنّ العوام إذا رأوا المتوضّئ يغسل الوجه لا بتمام أجزائه واليدين إلى الزند مثلًا، يحكمون بأنّه توضّأ ولا يرضون بالسلب، مع أنّ تحقّق الماهيّة على القولين ممّا لا بدّ منه في تحقّق(3) المسمّى
ص: 361
الشرعيّ(1)، وهي في الوضوء عبارة عن غسل الأعضاء مثلًا بحيث تكون مستوعبة، والسلب عن الوضوء بالطريق المذكور متحقّق ولو على القول بالأعمّ؛ لانتفاء الماهيّة، مع أنّهم لا يرضون بذلك.
وكذا إذا حصل الإخلال ببعض أركان الصلاة، مع أنّ انتفاءه يوجب انتفاء الماهيّة والمسمّى ولو على القول بالأعمّ، مع أنّهم لا يحكمون بذلك، بل ربّما يحكمون بالصحّة؛ ولهذا تراهم قاطبتهم إلّا الشاذّ منهم أنّ أعمالهم ليست على النهج المعتبر في الشريعة(2) مع أنّهم معتقدون شرعيّتها وصحّتها، فيعلم منه انتفاء التعويل على محاوراتهم وعدم الاعتماد على مقتضى استعمالاتهم فيما نحن فيه.
وبالجملة: فساد دعوى علمهم(3) بالمعاني الشرعيّة على الوجه المذكور ممّا لا شبهة فيه ولا ريب يعتريه، وكيف؟! مع أنّه مع مخالفته للواقع كما هو ظاهر عند كلّ أحد، يستلزم انسداد باب التقليد والاجتهاد.
ص: 362
اعلم: أنّه قد أيّد القول بالأعمّ بوجوه:
الأوّل: اتّفاق الفقهاء على أنّ أركان الصلاة هي ما تبطل الصلاة بزيادتها ونقصانها عمدًا أو سهوًا؛ ومعلوم أنّ زيادة الركن - كالركوع مثلًا - عمدًا منهيّ عنه، والنهي في العبادات يدلّ على الفساد، ومع ذلك يعدّ ركوعًا.
لا يقال: إنّ مرادهم صورة الركوع، لا الركوع الحقيقيّ؛ لأنّ مقتضى ذلك القول ببطلان الصلاة بزيادة صورة الركوع، وهو غير صحيح؛ لأنّ من انحنى في الصلاة بمقدار الركوع لأجل أخذ شيء من الأرض سيّما مع وضع اليد على الركبة بحيث يحسب الناظر أنّه قد ركع، لا يحكم ببطلان الصلاة مع زيادة صورة الركوع، فيعلم أنّ مرادهم ليس صورة الركوع، بل الركوع الحقيقيّ، وهو لا يمكن إلّا مع كون الركوع اسمًا للأعمّ من الصحيحة والفاسدة(1).
ويمكن الجواب عنه: بأنّا لا نسلّم تعميم النزاع في المسألة بحيث يشمل الأسامي الّتي لأجزاء الصلاة(2)، إذ الظاهر من قولهم: «ألفاظ العبادات أسامٍ
ص: 363
للصحيحة، أو الأعمّ» الألفاظ الّتي للعبادة المستقلّة كالصلاة مثلًا، فلا تشمل أسامي الأجزاء.
وكيف؟! مع انّك قد عرفت أنّ القول بالصحيح قول الأكثر، بل الكلّ، والمفروض أنّ ما ذكروه من أنّ زيادة الأركان ولو متعمّدًا توجب البطلان، لا يجوز أن يكون مرادهم صورتها، بل ما يسمّى أركانًا حقيقة، فلو عمّم النزاع يلزم التناقض في كلماتهم.
وعلى فرض التسليم نمنع أن لا يكون مرادهم صورتها، وما ذكر في بيانه غير صحيح؛ لكونه أخصّ من المدّعى، إذ غاية ما يلزم منه عدم إرادتهم صورة الركوع مطلقًا بحيث يندرج تحتها الانحناء الّذي يكون بصورته إذا لم يكن لأجل الركوع وقصده، فنقول: يمكن أن يكون مرادهم صورة الركوع الّتي تكون مشابهة معه في جميع الأمور المعتبرة فيه، ومن جملتها كون الانحناء بقصد الركوع، وزيادة الصورة على هذا الوجه مبطلة قطعًا.
ولقائل أن يقول: إنّه على هذا يكون إطلاق الركوع مجازًا إطلاقًا للشيء على مشابهه في الصورة، وهو غير صحيح؛ لانتفاء خواصّه، وإلّا أمكن السلب، فينبغي أن يقال لمن فعل كذلك في ركعة واحدة: أنّه ما أتى ركعتين فيها، أو ما زاد
ص: 364
ركعة؛ لأنّ صورة الشيء غيره مع أنّه غير ممكن، فتأمّل.
والتأييد الثاني: هو «أنّه يلزم على القول بكونها أساميًا للصحيحة أن يفتّش أحوال المصلّي إذا أراد أن يعطيه شيئًا لأجل النذر إذا لم يعلم مذهبه وصحّة صلاته في نفس الأمر، فإنّ حمل فعل المسلم على الصحّة لا يكفي هنا، فإنّ غاية ذلك حمل فعل المسلم على الصحيح عنده، والصحّة(1) قد تختلف باختلاف الآراء، فإذا رأى من نذر شيئًا للمصلّي رجلًا صالحًا يصلّي بجميع الأركان والأجزاء، ولكن لا يدري أنّه هل صلّى بغسل غير الجنابة بلا وضوء، أم(2) مع الوضوء، وهو يرى بطلان الصلاة به؛ وذلك الصالح قد يكون رأيه أو رأي مجتهده الصحّة، والمفروض أنّ المعتبر في وفاء الناذر على تكليفه ملاحظة الصحيح عنده المطابق لنفس الأمر بظنّه، وكذلك ملاحظة غيره من الاختلافات في الأجزاء وسائر الشرائط(3).
ولا ريب أنّ الصحيح من العبادة ليس شيئًا واحدًا حتّى يبنى عليه في المجهول الحال على حمل فعل المسلم على الصحّة، ولم نقف إلى الآن على مَنْ التزم هذه التفحّصات والتدقيقات ويعطون إلى(4) من ظاهره الوفاء، وليس ذلك إلّا لأجل كونها أساميًا للأعمّ؛ ولعلّه لأجل ذلك لا يتفحّص المؤمنون في الأعصار والأمصار
ص: 365
عن مذهب الإمام في جزئيّات مسائل الصلاة، مثل أنّه هل يعتقد وجوب السورة أو ندبها، أو وجوب القنوت أو ندبه، ويأتمّون به بعد ثبوت عدالته.
نعم، إذا علم المخالفة، فلا يصحّ الاقتداء فيما يعتقده باطلًا، مثل ما لو ترك الإمام السورة أو نحو ذلك، فما لم يعلم بطلانه يجوز الاقتداء به ويصحّ صلاته؛ لأنّه ائْتمّ بمن يحكم بصحّة صلاته شرعًا، والقدر الثابت من المنع هو ما علم بطلانه وإن كان صحيحًا عند الإمام، فليس هذا إلّا من جهة كفاية مسمّى الصلاة ما لم يعلم المأموم بطلانها على مذهبه، لا أنّه(1) لا يصحّ الاقتداء حتّى يعلم أنّه صحيح على مذهبه»(2)؛ انتهى كلام(3) المؤيّد الفاضل المحقّق (دام ظله) العالي.
أقول: هذا الكلام يرجع إلى أمرين متقاربين:
الأوّل بالنسبة إلى الناذر، محصّله: أنّ تلك الألفاظ لو كانت أساميًا للصحيحة؛ لزم على الناذر التفتيش في أحوال المصلّي ليظهر عليه صحّة صلاته باعتقاده، والتالي باطل، فالمقدّم مثله.
والجواب عنه بمنع الملازمة على المعنى الّذي بناء الكلام عليه، وما ذكره في بيانها غير تامّ.
ص: 366
توضيح الحال: هو أنّك قد عرفت ممّا أسلفنا أنّ المراد بالصحيح المعنى المحصّل للامتثال، فالناذر فيما نحن فيه يرجع نذره على القول بالصحيح إلى أنّ من أتى بالمعنى الّذي يحصل به الامتثال له عليّ كذا؛ ولا شبهة في تحقّق هذا المعنى بعد تسليم حمل أفعال المسلم على الصحّة، كما هو بناء المورد بالنسبة إلى كلّ مصلّ، فيحصل له الوفاء بالنذر بالنسبة إلى كلّ أحد؛ لما ذكر.
وما استند إليه من أنّ المفروض في وفاء الناذر على تكليفه ملاحظة الصحيح عنده إلى آخره، إن أريد به المعنى المحصّل للامتثال لذلك المصلّي باعتقاد الناذر، فهو مسلّم، لكن انتفاؤه ممنوع؛ لوضوح أنّ كلّ مجتهد يتعيّن عليه العمل باجتهاده عند كلّ أحد، بل الناذر المجتهد يعتقد أنّه لو ترك المصلّي الصلاة على مقتضى اجتهاده وأتى على وفق اجتهاد الناذر لم يحصل له الامتثال؛ والمقلّد لا يتعيّن عليه تقليد معيّن عند انتفاء الأمور الخارجة، ومعها يخرج المقام عن محلّ الكلام.
وإن أريد به المعنى المحصّل للامتثال للناذر كما هو ظاهر الكلام، فهو ممنوع؛ وكيف لا؟! مع أنّ قولك للمصلّي: «عليّ كذا»، ليس مدلوله جزمًا إلّا أنّه للاتي(1) بالمعنى الصحيح المحصّل للامتثال مطلقًا، كذا على هذا القول كما مرّ، فيحصل له الامتثال بالنسبة إليه؛ لعدم إيجاب(2) النذر أزيد منه؛ وأمّا كونه محصّلًا للامتثال للناذر فمن أين؟!
ص: 367
وبالجملة: هو تقييد خارج عن مدلول اللفظ يفتقر إلى دليل، ألا ترى أنّك إذا صرّحت بالصحّة وقلت للمصلّي بالصلاة الصحيحة كذا، لا يفهم منه المعنى المحصّل للامتثال للناذر، بل مطلقًا، وبناء على ما ذكر يلزم على القول بالأعمّ حينئذٍ التفحّص عن مراتب الصحّة، مع أنّ انتفاء التفتيش على تقديره مشترك بين الصورتين، والاكتفاء بما يحصل الامتثال متحقّق على التقديرين.
وممّا(1) يزيدك بيانًا هو أنّا مكلّفون بالمعاملة بمن كانت معاملته صحيحة، ولا شبهة أنّ الصحّة في المعاملات أيضًا تختلف باختلاف الآراء، فربّ معاملة تكون صحيحة عند مجتهد وفاسدة عند آخر، ومقتضى ما ذكر لزوم التفتيش عن صحّتها، فإن ظهر عليه صحّتها عنده أو عند مجتهده تجوز، وإلّا فلا، مع أنّ انتفاءه ممّا لا شبهة فيه، والاكتفاء بمطلق حمل أفعال المسلمين على الصحّة ممّا لا شكّ يعتريه.
والقول بأنّا لم نقف إلى الآن على من التزم هذه التفحّصات والتدقيقات، إلى آخره، على تقدير تسليمه ليس مبنيًّا على ما بناه المورد من أنّ ذلك لأجل كونها أساميًا للأعمّ، بل لأنّ النذر على الوجه المذكور لا يوجب ذلك، إذ مقتضاه ليس إلّا ما سلف.
وأيضًا أنّ انتفاء هذه التفحّصات والتدقيقات لانتفاء أصل النذر؛ لأنّا لم نقف إلى الآن على مَنْ نذر بذلك، وعلى تقدير فرض الوقوع مع كونه خلاف ظاهر العبارة نقول بمثل ذلك فيما لو صرّح في مقام النذر بالصحّة كما عرفت.
ص: 368
والثاني بالنسبة إلى المأموم، محصّله كما تقدّم من أنّه لو كانت الألفاظ أساميًا للصحيحة، لزم التفتيش والتفحّص عن مذهب الإمام في جزئيّات المسائل، والتالي باطل، فالمقدّم مثله، فعدم التفتيش قرينة كونها أساميًا للأعمّ.
والجواب عنه بمنع الملازمة أيضًا؛ لما تقدّم مرارًا من أنّ مرادنا بالصحيح ليس إلّا المحصّل للامتثال، وقد دلّت الأدلّة الشرعيّة على جواز الاقتداء وفضيلته بعد ثبوت عدالة الإمام مطلقًا، إلّا إذا علم المخالفة بين اعتقاد الإمام والمأموم بحيث تكون مبطلة على اعتقاد المأموم دون الإمام، كما إذا اعتقد الإمام جواز قراءة العزيمة في الصلاة فيقرؤها لذلك واعتقد المأموم حرمتها، أو اعتقد الإمام عدم وجوب السورة فيها فيتركها لذلك والمأموم وجوبها، وهكذا، فما لم تظهر المخالفة على الوجه المذكور، يجوز الاقتداء لعموم الأدلّة، وهو يستلزم أن تكون تلك الصلاة مجزية، ولا نعني بالصحيح إلّا ذلك، فمن أين استلزم القول بالصحيح التفحّص المذكور؟!
ثمّ نقول: لا شبهة في أنّ المأمور به ومطلوب الشارع ليس إلّا الصحيح ولو على القول بالأعمّ كما لا يخفى، فما ذكر من كون الاختلاف في الصحّة باختلاف الآراء موجبًا للتفحّص المذكور على تقدير تسليمه لا اختصاص له بالقول بالصحيح، بل مشترك بين القولين؛ لتحقّق الموجب على التقديرين، وكون أصل الاسم للأعمّ بعد القطع بإرادة الصحيح، لا يوجب الافتراق المذكور كما لا يخفى، فالتمسّك بذلك تأييدًا للقول بالأعمّ بعد القطع بما ذكرنا غير سديد.
ص: 369
نعم، لو تمسّك به متمسّك في أنّ المطلوب ليس الصحيح وإلّا لوجب التفحّص، أو للقول بالأعمّ مع عدم تسليمه(1)، لسلم عن ذلك، لكنّه ممّا لا شبهة في فساده؛ وهذا يتوجّه على الأوّل أيضًا؛ لوضوح أنّ مقصود الناذر الصلاة الّتي أمر بها الشارع، ولا شبهة في أنّها صحيحة ولو على القول بالأعمّ، فلا يتفاوت الحال في ذلك بين القولين، فتأمّل.
والتأييد الثالث:
أنّه: «لا إشكال عندهم في صحّة اليمين على ترك الصلاة في مكان مكروه أو مباح مثلًا وحصول الحنث بفعلها، ويلزمهم على ذلك المحال؛ لأنّه يلزم حينئذٍ من ثبوت اليمين نفيها، فإنّ ثبوتها يقتضي كون الصلاة منهيًّا عنها، والنهي في العبادة مستلزم للفساد، وكونها فاسدة مستلزم لعدم تعلّق اليمين بها، إذ هي إنّما تتعلّق بالصحيحة على مفروضهم.
إلى أن قال:
ويجري هذا الكلام في المعاملات أيضًا إن قلنا بدلالة النهي على الفساد فيها أيضًا»(2).
أقول: وقريب من ذلك ما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في المسالك في كتاب
ص: 370
الأيمان، ولعلّه مأخوذ منه، حيث قال:
«واعلم: أنّه لو باع على تقدير حلفه على عدمه انعقد وإن حنث؛ لأنّ النهي في المعاملات لا يقتضي الفساد، خصوصًا إذا كان النهي لوصف خارج كما هنا(1).
ولو قلنا بدلالته على الفساد كالعبادات، ففي الجمع بين ذلك(2) وبين حمل مطلقه على البيع الصحيح إشكال؛ لأنّ اليمين يقتضي(3) عدم الصحّة، فلو اشترطت(4) صحّته يلزم(5) الجمع بين النقيضين، أو لزوم غير مراد الحالف.
ولأنّه يلزم من ثبوت اليمين النهي عنه المقتضي لفساده المقتضي لعدم تعلّق النهي به، فيحكم بصحّته، فيلزم من ثبوت اليمين نفيها، فلا يتحقّق بعد تعلّقها
ص: 371
الحنث؛ لامتناع وقوع ضدّه، وهو العقد الصحيح»(1)؛ انتهى كلامه رفع مقامه.
والجواب عنه: أنّ ما ذكر من الحكم بعدم الإشكال في صحّة اليمين على ترك الصلاة فيما ذكر وإن كان مسلّمًا، لكنّ الحكم بذلك في حصول الحنث بفعل الصلاة حينئذٍ غير مسلّم، وكيف؟! مع أنّ كلام المسالك المذكور وهو قوله: «فلا يتحقّق بعد تعلّقها الحنث» إلى آخره، جار(2) فيما نحن فيه أيضًا، فتأمّل.
وقال شيخنا الشهيد في القواعد:
«لو حلف على ترك الصلاة في الدار المغصوبة، أو على ترك الصوم مع الجنابة، أو على ترك بيع الخمر أو الخنزير(3)، أمكن الحمل على الصورة، فيحنث بها(4) وعدمه؛ لأنّه حلف على ممتنع شرعًا»(5).
ومن المعلوم أنّ الامتناع الشرعيّ إنّما هو لعدم إمكان الصلاة مثلًا في المكان المغصوب؛ لكونها اسمًا للصحيح، وهو متحقّق فيما نحن فيه أيضًا بعد الحلف؛ لوضوح أنّ بعده لا يمكن إتيان الصلاة الصحيحة في الأماكن المكروهة مثلًا؛ لكونها منهيًّا عنها، فبعد الحلف على ترك الصلاة ليس المأتيّ به صلاة، فلا حنث.
ص: 372
وقال في المسالك:
«إذا حلف «ليبيعنّ الخمر» لم ينعقد؛ لأنّ العقد الصحيح متعذّر، وغيره غير مراد من إطلاق اللفظ لغةً وعرفًا(1)، ولو حلف: «لا يبيعه»، قيل: لا يحنث ببيعه؛ لأنّه بيع فاسد، فلم يتناوله(2) اليمين»(3).
ولا يخفى جريانه فيما نحن فيه أيضًا، إذ نقول: لا يحنث بالصلاة بعد الحلف؛ لكونها صلاة فاسدة، فلم يتناولها اليمين.
قال العلّامة - أحلّه الله دار الكرامة - في القواعد:
«الإطلاق ينصرف إلى الصحيح من العقود(4)، فلو حلف ليبيعنّ أو لا يبيع، انصرف إلى الصحيح دون الفاسد»(5).
ويظهر الحال منه ممّا تقدّم، فتأمّل.
ثمّ نقول على تقدير التسليم: لا اختصاص له بالقول بالصحيح؛ لوضوح أنّ قصد الحالف عدم إتيان الصلاة المطلوبة فيها.
وبالجملة: الصلاة الّتي كلّفه الشارع بها، ومعلوم أنّها لا تكون(6) إلّا صحيحة
ص: 373
جزمًا كما مرّ مرارًا، والنهي في العبادة(1) يقتضي الفساد، إلى آخر ما ذكر في التأييد؛ ومجرّد كون الصلاة اسمًا للأعمّ لا يكفي لتحقّق الحنث بعد كون متعلّق الحلف الصلاة الصحيحة.
وهذا الكلام ممّا سلّمه المؤيّد الفاضل(دام ظله) حيث قال في بعض كلماته:
«يمكن أن يقال: إنّه لا يحصل الحنث على المختار لو أتمّه فاسدًا أيضًا عالمًا بالفساد؛ لما ذكرناه(2) من إرادة الصحّة(3) في أمثال ذلك وإن بني على المختار»(4)، انتهى.
وعلى فرض التسليم يمكن أن يجاب عنه بما أجاب به شيخنا الشهيد في المسالك(5) في نظير المسألة بأن يقال: إنّ متعلّق اليمين الصلاة الصحيحة لولا اليمين، فيتحقّق الحنث بكلّ صلاة لو لم يكن اليمين لصحّت، فلو أتى بالصلاة في شيء من الأماكن المكروهة كالحمّامات وبين المقابر ومعاطن الإبل وجوار الطرق بعد الحلف على تركها فيها، يتحقّق الحنث لذلك، فتأمّل.
وبالجملة: لا نجد الفرق فيما ذكر بين القول بالصحيح والأعمّ.
ص: 374
والرابع: هو أنّه: «يلزم على القول بكونها أساميًا للصحيحة لزوم القول بألف ماهيّة لصلاة الظهر مثلًا، فصلاة الظهر للمسافر شيء وللحاضر شيء آخر، وللحافظ شيء وللناسي شيء آخر؛ وكذلك للشاك والمتوهّم(1) والصحيح والمريض والمحبوس والمضطرّ والغريق، إلى غير ذلك من أقسام الناسي في جزئيّات مسائل النسيان والشاك في جزئيّات مسائله، وهكذا إلى غير ذلك»(2).
لأنّه بناء على القول بالصحيح هو أنّ لفظ «الصلاة» مثلًا اسم للمستجمعة لجميع الأجزاء والشرائط، ولا ريب أنّ الأجزاء والشرائط مختلف(3) في الصور المذكورة بالزيادة والنقصان، وما نقص فيها بعض الأجزاء أو الشرائط، لا بدّ إمّا أن يقال فيه بعدم صحّتها، أو بكونها ماهيّة علي حدة، لا سبيل إلى الأوّل، فتعيّن الثاني، وهو المطلوب، بخلاف القول بالأعمّ، فإنّهم يقولون بأنّ ماهيّة صلاة الظهر التامّة واحدة، ولا يخرجها عن الحقيقة نسيان سجدة أو تشهّد أو غير ذلك، فيمكن لهم التمسّك في الصحّة بصدق الاسم وحصول الامتثال بسبب الإتيان بالمسمّى.
والجواب عنه يظهر ممّا قرّرناه في أدلّة القول بالصحيح، توضيحه: هو أنّا نمنع لزوم ذلك على المختار؛ لأنّا نقول: إنّ لفظ «الصلاة» مثلًا موضوع للمعنى الّذي يحصل به الامتثال، وهو معنى واحد يتحقّق في ضمن أفراد متعدّدة، كتحقّق المعنى
ص: 375
العامّ في ضمن أفراده، أو أصنافه، أو أنواعه؛ وهو لا يوجب تعدّد الماهيّة أصلًا، فضلًا عن القول بألف ماهيّة؛ ثمّ على تقدير تسليم ذلك نمنع استحالة ذلك وعلى مدّعيها البيان، فتأمّل.
وممّا ذكرنا ظهر الجواب عمّا ربّما يتوهّم أنّه لو كان لفظ «الصلاة» اسمًا للمستجمعة لجميع الأجزاء والشرائط، لزم انتفاء الصحّة عند انتفاء الأجزاء غير الأركان مثلًا، والتالي باطل؛ لأنّ من ترك ما عدا الأركان ناسيًا يحكم بصحّة صلاته، والملازمة ظاهرة، وتقرير الجواب بعد ما قرّرناه غير مفتقر إلى البيان.
نعم، لو استدلّ أحدٌ بأنّه لا يجوز أن يكون لفظ «الصلاة» اسمًا للأركان كما هو مقتضى القول بالأعمّ على ما صرّح به بعضهم، لكان له وجه؛ إذ لو صحّ ذلك لزم انتفاء الصلاة عند انتفائها ولو بعضًا، والتالي باطل؛ لأنّ كثيرًا من المواضع قد تحقّقت الصلاة مع انتفائها، كصلاة المواقفة والمسايفة والمطاردة(1) ونحوها؛ بخلافه على القول بالصحيح؛ لأنّه بناء عليه تكون الصلاة اسمًا لما يحصل به الامتثال، وهو متحقّق في الصلوات المذكورة أيضًا كما لا يخفى، فتأمّل.
ثمّ نقول على تقدير تسليمه: لا اختصاص له بالقول بالصحيح أيضًا؛ لأنّ
ص: 376
الحكم بأنّ تلك الماهيّة التامّة لصلاة الظهر مثلًا واحدة إلى آخره، لا يصحّ إلّا على تقدير أن يكون المراد بتلك الماهيّة الأركان المعهودة وكون لفظ «الصلاة» اسمًا لها كما تقدّم، فحينئذٍ نقول: إنّ الحمد مثلًا إمّا أن يكون خارجًا عن حقيقة الصلاة ويكون من قبيل الشروط، أو لا، والأوّل فاسد للقطع بحصول الافتراق بين الحمد والتشهّد مثلًا وبين ستر العورة مثلًا، ولحكمهم بجزئيّته حيث حكموا بالتفرقة بين الأجزاء المنسيّة بلزوم التدارك في بعضها دون الآخر، فتعيّن الثاني.
وعليه نقول: لا شبهة في حصول الفرق بين الماهيّة المركّبة من الأجزاء الأربعة كالأركان، وبين المركّبة من الأجزاء الخمسة أو الستّة أو السبعة، وهكذا وبين كلّ واحد منها وبين الآخر، فاختلفت الماهيّة على القول بالأعمّ أيضًا.
إن قلت: قد تقدّم أنّ انتفاء أيّ جزء كان لا يوجب انتفاء الماهيّة، وما نحن فيه من هذا القبيل، وهو يستلزم عدم اختلاف الماهيّة على تقدير اجتماعها مع الأركان وانفكاكها عنها.
قلنا: مقتضى ذلك انّ تلك الأجزاء بأسرها ما عدا الأركان الأربعة مثلًا أجزاء للماهيّة تتألّف منها، ومع ذلك انتفاؤها بأسرها ولو متعمّدًا لا يوجب انتفاء الماهيّة؛ وهذا تحكّمٌ ظاهرٌ لا يكاد يرتضيه العاقل، كما لا يخفى على المنصف المتأمّل.
ص: 377
إنّ النزاع في أنّ الألفاظ الشرعيّة أساميٍ(1) للصحيحة أو الأعمّ غير مختصّ بالعبادات، بل متحقّق في المعاملات أيضًا
إيراد كلام للتنبيه على مرام
اعلم: أنّه ربّما يتوهّم من عنوان المسألة على ما اشتهر في الألسنة من أنّ ألفاظ العبادات هل هي أساميٍ(2) للصحيحة أو الأعمّ، اختصاص النزاع في المسألة في العبادات وعدم جريانه في المعاملات، لكنّه ليس بصحيح، بل هو متحقّق في القسمين وجارٍ في المقامين؛ وهذا وإن ظهر ممّا ذكرناه من مقالاتهم السالفة، لكنّا أعدناه تأكيدًا للمطلب وتبعيدًا عن الغفلة في المقصد.
قال في الشرائع: «إطلاق العقد ينصرف إلى العقد الصحيح دون الفاسد، ولا يبرّ بالبيع الفاسد لو حلف ليبيعنّ، وكذا غيره من العقود»(3).
قال في القواعد: «المطلب الرابع في العقود، والإطلاق ينصرف إلى الصحيح منها، فلو حلف ليبيعنّ أو لا يبيع انصرف إلى الصحيح دون الفاسد، إلّا في المحرّم بيعه، كالميتة الخمر والخنزير، فإنّ اليمين على عدم البيع لا تنطلق(4) إلى الصحيح، بل إلى الصورة، إلى آخر ما ذكره»(5).
ص: 378
قال في الإرشاد:
«العقد هو الإيجاب والقبول، فلو حلف ليبيعنّ أو ليهبنّ لم يبرّ إلّا بهما وإنّما ينصرف إلى الصحيح، فلا يبرّ بالفاسد»(1).
قال في المسالك:
«عقد البيع وغيره من العقود حقيقة في الصحيح مجاز في الفاسد؛ لوجود خواصّ الحقيقة والمجاز فيهما، إلى آخر ما تقدّم»(2).
وقال في موضع آخر:
«قد تقدّم أنّ إطلاق العقد محمول على الصحيح دون الفاسد؛ لأنّه حقيقة فيه؛ وإنّما يحمل اللفظ مع الإطلاق على الحقيقة مع عدم قرينة صارفة عنه إلى المجاز، فإذا حلف «ليبيعنّ الخمر» لم ينعقد، [لأنّ العقد الصحيح متعذّر وغيره غير مراد من إطلاق اللفظ لغة ولا عرفًا؛ ولو حلف لا يبيعه قيل: لا يحنث ببيعه]؛ لأنّه بيع فاسد، فلم يتناوله اليمين.
واختار المصنّف (رحمة الله) والأكثر الحنث هنا؛ لدلالة العرف على أنّ المراد هنا صورة البيع؛ ولأنّه لمّا أضاف البيع إليها وهي غير قابلة له، كان اللفظ محمولًا على صورة البيع صونًا لكلامه عن الهذر»(3).
ص: 379
قال شيخنا الشهيد في القواعد:
«الماهيّات الجعليّة -كالصلاة والصوم وسائر العقود- لا يطلق على الفاسد إلّا الحجّ؛ لوجوب المضيّ فيه، فلو حلف على ترك الصلاة أو الصوم اكتفى بمسمّى الصحّة، وهو الدخول فيها(1)، فلو أفسدها(2) بعد ذلك لم يزل الحنث؛ ويحتمل زواله(3)؛ لأنّه(4) لا تسمّى صلاة شرعًا ولا صومًا مع الفساد، و(5) أمّا لو تحرّم في الصلاة، أو دخل في الصوم مع مانع من الدخول لم يحنث قطعًا»(6).
ولا يخفى عليك أنّ هذه العبارات بأسرها دالّةٌ على أنّ ألفاظ المعاملات أيضًا حقائق في الصحيحة، فيعلم منه مضافًا إلى ما ذكر عدم اختصاص القول بالحقيقة الشرعيّة في العبادات عندهم، كما ذهب إليه بعض الأعلام(7).
لكن ما ذكره شيخنا الشهيد من التفريع منظورٌ فيه، إذ مع الحلف على ترك الصلاة في الأماكن المكروهة يكون(8) الصلاة منهيًّا عنها، والنهي في العبادة
ص: 380
يستدعي الفساد، فعلى هذا لا يتصوّر الدخول فيها صحيحة ويكون من قبيل ما ذكره: «وأمّا لو لم تحرّم في الصلاة»(1) إلى آخره.
لا يقال: النهي لم يتعلّق بنفس الصلاة، بل بمخالفة الحلف، وهي خارجة عنها.
لأنّا نقول: المفروض أنّ الحلف على ترك الصلاة، والحلف على النفي عندنا يقتضي تحريم المحلوف عليه، كما انّ الحلف على الإثبات يقتضي(2) وجوبه، فتكون الصلاة منهيًّا عنها، وعلى فرض التسليم تكون الصلاة في تلك الأماكن مستلزمة لمخالفة الحلف، والنهي في العبادة يقتضي فسادها، سواء تعلّق بنفس العبادة، أو جزئها، أو لازمها.
ويمكن الجواب عنه بما(3) ذكرنا أخيرًا(4) في الجواب عن التأييد الثالث عن المسالك، حاصله: أنّ متعلّق الحلف الصلاة الصحيحة لولا اليمين، فيتحقّق الحنث بالصلاة الّتي لولا الحلف لصحّت.
نعم، يتوجّه الإيراد من وجه آخر، وهو أنّك قد عرفت ممّا قدّمنا أنّ الصلاة اسم للمجموع المركّب الّذي كلّ أبعاضها أجزاؤها لا جزئيّاتها، فإتيان بعضها لا يكفي لإتيانها؛ والحنث إنّما يلزم بإتيان الصلاة فيها، وهو لا يتحقّق إلّا بعد الفراغ منها، فمجرّد الدخول فيها لا يوجب المخالفة، فتأمّل.
ص: 381
إبراز(1) كلام لاختتام مقام
وهذا المطلب وإن أسّسناه فيما سلف، لكن أوردناه هنا أيضًا تأكيدًا للمقصد وإشارةً إلى بعض الفوائد، فنقول: تحقيق الحال في المقام يستدعي التفصيل في المرام بأن يقال: إنّ العبادات منقسمة على قسمين، قسم منها وقع التكليف والتخاطب به بألفاظها المجملة، كالصلاة والصوم والزكاة والحجّ ونحوها، كقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾(2) ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾(3) ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِله﴾(4)، ومنه قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾(5)، وعلم المراد منها ببيانات الشارع.
وقسم منها ليس كذلك، بل التكليف والخطاب به بالألفاظ الدالّة على ماهيّاتها، كالوضوء كما في قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾(6)، ومن هذا القبيل التيمّم كما في
ص: 382
قوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ﴾(1).
فإن كانت من القسم الثاني، ينبغي القطع بجواز دفع المشكوك فيه(2) بالأصل، فاللازم الإتيان بكلّ ما يفهم من الكلام شرطًا كان أو جزءًا، فإذا ادّعي جزئيّة شيء غيره ولم يقم عليه ما يطمئنّ النفس به، يكون الأصل البراءة عنه، إذ الظاهر من ذلك الكلام المسوق لبيان ماهيّتها(3) أنّها عبارة عن المفهوم منه؛ لعدم جواز الإغراء بالجهل؛ وهذا ممّا لا ينبغي التأمّل فيه ولو على القول بالصحيح.
وإنّما الكلام في أنّ مدلول الكلام في أمثال المقام هل هو ما دلّ عليه ألفاظه بأوضاعها اللغويّة، أو أعمّ منه بأن يكون هناك مدلول آخر يستفاد من الترتيب الذكريّ، أي يكون الترتيب في الذكر مفيدًا للترتيب في الحكم؟ فعلى الثاني يكون الترتيب المعهود في الوضوء أيضًا مفهومًا من الآية، فلا يمكن في دفعه التمسّك بالأصل، بخلافه على الأوّل.
فيه إشكال، من أنّ التقديم قد صدر من(4) فاعل مختار، فلا بدّ أن يكون
ص: 383
لمرجّح، ومن أنّ الكلام لا يتمّ إلّا بتقديم بعض أجزائه على الآخر كما لا يخفى على أيّ متكلّم كان، وأنّ الخطابات الشرعيّة على نهج الخطابات العرفيّة، ولا دلالة للتقديم في الذكر على التقديم في الحكم في العرف والعادة.
وهذا هو التحقيق، لكن في غير خطابات الله سبحانه لما ذكر؛ وكون التقديم لمرجّح لا يقتضي أن يكون المرجّح ذلك، وأمّا فيها فالظاهر أنّ الترتيب في الذكر يفيد الترتيب في الحكم لا لما ذكر، بل للنصوص الدالّة عليه كقوله (صلی الله علیه و آله) حين سئل عن مبدأ السعي من الصفاء أو المروة بعد نزول: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾(1): «ابدأوا بما بدأ الله تعالى به»(2).
ومثله روي في الوضوء أيضًا(3)، وهذا وإن ورد في موضع خاصّ، إلّا أنّ العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص المحلّ.
ويتوجّه عليه: أنّ غاية ما يستفاد من قوله (صلی الله علیه و آله): «ابدأ بما بدأ الله» لزوم الابتداء بما بدأه الله تعالى، وهذا يحصل بالابتداء في غسل الوجه، سواء قدّم غسل اليد اليمنى على اليسرى أو عكس، بل يحصل بتقديم مسح الأعضاء بأسرها أو بعضها على غسل اليدين كما لا يخفى، وأين ذلك من الترتيب المعهود في الوضوء؟!
ص: 384
إلّا أن يدّعى أنّ المدلول العرفيّ لقوله: «ابدأ(1) بما بدأ الله» الابتداء بما ذكره أوّلًا ثمّ بما بعده وهكذا إلى آخره، إمّا بكون الابتداء فيه محمولًا على الإضافيّ، أي ابتدائيّته بالنسبة إلى ما بعده؛ أو لا، فتأمّل.
إن قلت: إنّ هذه الآية الشريفة من آيات سورة المائدة، وهي آخر سور القرآن نزولًا، والوضوء كان في أوّل الشريعة واجبًا، فلا يكون إنشاء التكليف بالوضوء من هذه الآية وليست بيانًا لماهيّته؛ لأنّهم كانوا في ذلك الزمان يعرفونها؛ ولأنّ البيان لا بدّ أن يكون وافيًا محيطًا لجميع(2) المبيّن، والآية ليست كذلك قطعًا(3).
قلنا: كون السورة من آخر سور القرآن لا يوجب أن يكون(4) كلّ آية من آياته كذلك؛ وعلى فرض التسليم نقول: معرفتهم الوضوء قبل نزول الآية لا يوجب عدم بيان ماهيّتها في الآيات النازلة بعده كما لا يخفى، إذ كما يكون(5) ماهيّة الوضوء معلومة عندهم كذلك وجوبه أيضًا، بل بطريق أولى كما لا يخفى؛ ومقتضى ما ذكر عدم صدور الأمر به بعده، مع أنّه لا شبهة في فساده، والفائدة فيه هي الفائدة في بيان الماهيّة بعد علمهم بها.
ثمّ نقول: لا شبهة أنّ الظاهر من سياق الآية الشريفة أنّها مسوقة لبيان الماهيّة
ص: 385
بحيث لا يمكن إنكاره، والحمل على الظاهر لازم إلّا مع القرينة الصارفة، ومجرّد علمهم بذلك لا يصلح لذلك كما لا يخفى؛ لاحتمال أن يكون البيان في الآية أيضًا تصديقًا لما بيّنه النبيّ (صلی الله علیه و آله) أو تأكيدًا له، أو غير ذلك كإفادتها لمن بعدهم.
لا يقال: إنّ الخطابات الشفاهيّة مختصّة بالموجودين في ذلك الوقت، فلا يتناول من بعدهم.
لأنّا نقول: إنّ الاستفادة منها ليست لشمولها لنا، بل لكون المفهوم منها ذلك، والمفهوم معتبر بالنسبة إلينا أيضًا لاشتراك التكليف، والقول بأنّ البيان لا بدّ أن يكون وافيًا لتمام المبيّن لا يقتضي أن لا يكون ما لم يُستقصَ فيه غير مبيّن؛ لوضوح أنّ كثيرًا من الأدلّة الشرعيّة كذلك، فما ثبت اعتباره نقول به، والثمرة يظهر(1) فيما لم يثبت.
ولذا قال صاحب المدارك (قدس سره) ما حاصله:
إنّ الله تعالى أمر بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين كيف كان الغسل والمسح، فلا إجمال أصلًا، فما ثبت من دليل اعتباره مثل الترتيب والموالات والنيّة نقول به، وما لم يثبت فالأصل عدمه، ولا حاجة إلى بيان فعليّ أو قوليّ، كما هو الحال في العبادات(2).
إن قلت: إنّ الاشتغال اليقينيّ بالوضوء ثابت والبراءة اليقينيّة لا تحصل إلّا بإتيان المشكوك فيه، فلا يجوز دفعه بالأصل.
ص: 386
قلنا: الاشتغال إنّما هو بإيجاد تلك الماهيّة وقد ظهرت بالأدلّة الشرعيّة كما هو المفروض، ومقتضاه حصول الامتثال بإيجادها، والزائد عليه غير مسلّم لعدم الدليل، فالأصل البراءة عنه، ففي هذا القسم لا نتمسّك(1) فيه بالاشتغال الثابت بالنسبة إلى المشكوكة، وأمّا القسم الأوّل، أي إذا وقع التخاطب باللفظ المجمل من غير أن يعقّب بالبيان كأقيموا الصلاة مثلًا، فقيل: ظهور الماهيّة فيه لا شبهة في لزوم الإتيان بالأمور المشكوكة تحصيلًا للبراءة اليقينيّة وعدم حصول الامتثال إلّا بذلك ولو كان الاحتمال من الخبر الضعيف لتأييده بما ذكر.
وأمّا بعد ظهورها على الوجه الّذي أومأنا إليه، فالظاهر أنّ حاله في جواز دفع المشكوك بالأصل وعدم لزوم التمسّك بالاشتغال الثابت حال القسم الأوّل؛ إذ ظنّ المجتهد بعد مراعاة ما يجب عليه مراعاته في حكم القطع.
لكنّ الكلام في أنّه إذا دلّ دليلٌ معتبرٌ على اعتبار شيء في تلك العبادة شرطًا كان أو جزءًا وعارضه مثله، هل يقدّم المثبت نظرًا إلى الاشتغال الثابت، أو النافي نظرًا إلى أصالة البراءة؟ الظاهر: الأوّل، ويظهر وجهه ممّا ذكر، إلّا عند اعتضاد النافي بشيء آخر.
وبالجملة: المناط تشخيص الماهيّة عند المجتهد، فإن حصل ولم يوجب المثبت تزلزلًا له في ذلك يقدّم النافي؛ عملًا بأصالة البراءة، وإلّا يجب تقديم المثبت تمسّكًا بالاشتغال الثابت.
ص: 387
وممّا ذكر ظهر لك الافتراق بين ما يتمسّك فيه بالاشتغال الثابت وما يتمسّك فيه بأصالة البراءة وفساد توهّم التدافع في كلمات الفقهاء حيث يتمسّكون بالاشتغال الثابت وبأصالة البراءة، مع أنّ مقتضى الأوّل لزوم الإتيان والثاني عدمه؛ وذلك لأنّ من الأمور المعتبرة في التنافي وحدة المورد، وهنا ليس كذلك كما عرفت.
وممّا يتمسّك فيه بالاشتغال اليقينيّ هو ما إذا كلّف بشيء غير معيّن في نظر المكلّف، بل متردّد بين أمور محصورة، كما إذا فاتت إحدى الفرائض الخمس والتبست بين الثنائيّة والثلاثيّة والرباعيّة، فإنّه يجب عليه أن يأتي بثلث صلوات، إذ الاشتغال اليقينيّ ثابت، ولا يحصل البراءة إلّا بذلك، وكذلك الحال في الإنائين المشتبهين والثوبين وأمثال ذلك، ولا يجوز أن يتمسّك في أمثال المقام بأصالة البراءة عمّا سوى الواحد؛ لانتقاضها(1) بثبوت التكليف بواحد مردّد بين اثنين، والبراءة لا تحصل إلّا بالجميع.
والأمر الثاني: هو أنّه ربّما يتوهّم أنّ المشهور في الألسنة، بل المذكور في الكتب المتداولة أنّ الصلاة في اللغة للدعاء وفي الشرع للأركان المعهودة، وهو لا يتمّ(2) إلّا على القول بالأعمّ، وينافي كونها اسمًا للصحيحة كما لا يخفى، فكيف يدّعى أنّ القول بالصحيح قول الأكثر أو الكلّ، مع أنّه يمكن ممّا ذكر دعوى عكسه؟
ص: 388
والجواب عنه وإن يظهر ممّا ذكرناه في المباحث السالفة، لكنّا لا نكتفي بذلك حذرًا عن غفلة الغافل، فنقول: إنّ هذا الكلام وإن شاع في الألسنة، لكنّه ليس محمولًا على ظاهره قطعًا.
وكيف؟! مع أنّك قد عرفت تصريحاتهم بكونها أساميًا للصحيحة، فيعلم منه أنّ مرادهم في تلك المواضع ليس إلّا التنبيه على المغايرة بين المعنى اللغويّ والشرعيّ؛ وهذا يحصل بما ذكروه، لا أنّ مرادهم أنّ الشارع جعل تلك الألفاظ اسمًا للأركان كما هو محلّ النزاع.
على أنّا نقول: إنّ نسبة هذا المرام إلى العلماء الأعلام أمر عارٍ عن البرهان مقرون بالظلم والعدوان، وكفاك في الوصول إلى حقيقة الحال حكاية جملة من الأقوال.
قال العلّامة -أعلى الله مقامه- في النهاية:
«إنّ الصلاة في الشرع للركعات المخصوصة»(1).
وفي التهذيب: «نقله(2) الشارع إلى الأفعال المخصوصة»(3).
وقال السيّد السند عميد الدين في شرحه:
«إنّ الصلاة نقلها الشارع إلى الأفعال المخصوصة من الركوع(4) والسجود
ص: 389
والقيام والقعود والأذكار المعيّنة من التكبير والقراءة والتسبيح»(1).
وقال في المعالم:
«كاستعمال الصلاة في الأفعال المخصوصة بعد وضعها في اللغة للدعاء»(2).
وغير ما ذكر من الأقوال.
نعم، هو مذكور في بعض الكتب، وبناؤه إمّا على ما ذكر، أو على الغفلة، أو على تعميم الأركان(3) بحيث يشمل المعنى المصطلح عليه وغيره، أو على القول بالأعمّ مع تأمّل فيه، فاتّضح الحال وارتفع الاشكال بمعونة الله(4) المتعال.
ص: 390
ص: 391
ص: 392
الفهارس الفنّيّة
الآية ....... رقمها ....... السورة ....... ص
﴿يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ﴾ ....... 19 ....... البقرة ....... 80/1، 139/1.
﴿قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا﴾ ....... 30 ....... البقرة ....... 206/2، 207/2.
﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ ....... 31البقرة ....... 193/2، 199/2، 200/2، 201/2، 202/2، 203/2، 205/2، 207/2، 219/2.
﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا...﴾ ....... 32 ....... البقرة ....... 198/2، 202/2.
﴿قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا...﴾ ....... 33 ....... البقرة ....... 201/2، 202/2، 203/2، 208/2.
﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ ....... 43 ....... البقرة ....... 81/1، 142/1، 382/2.
﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله﴾ ....... 158 ....... البقرة ....... 348/2.
﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ ....... 185 ....... البقرة ....... 382/2.
﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِله﴾ ....... 196 ....... البقرة ....... 382/2.
ص: 393
الآية ....... رقمها ....... السورة ....... ص
﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ...﴾ ....... 238 ....... البقرة ....... 432/1، 438/1.
﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ ....... 286 ....... البقرة ....... 414/1.
﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الْإِسْلَامُ﴾ ....... 19 ....... آل عمران ....... 102/2.
﴿تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ...﴾ ....... 26 ....... آل عمران ....... 415/1.
﴿وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله﴾ ....... 54 ....... آل عمران ....... 291/1.
﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا...﴾ ....... 85 ....... آل عمران ....... 102/2، 105/2.
﴿وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ...﴾ ....... 107 ....... آل عمران ....... 159/1، 172/1.
﴿وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ﴾ ....... 22 ....... النساء ....... 431/1، 438/1.
﴿وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ...﴾ ....... 43 ....... النساء ....... 80/1، 36/2، 383/2.
﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ الله﴾ ....... ....... 80النساء ....... 24/2.
﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ ....... 92 ....... النساء ....... 81/1.
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ...﴾ ....... 3 ....... المائدة ....... 430/1، 26/2.
﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا...﴾ ....... 6 ....... المائدة ....... 36/2، 37/2، 382/2.
﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله...﴾ ....... 33 ....... المائدة ....... 106/2.
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا...﴾ ....... 38 ....... المائدة ....... 124/1.
﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً...﴾ ....... 48 ....... المائدة ....... 7/2.
ص: 394
الآية ....... رقمها ....... السورة ....... ص
﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله﴾ ....... 64 ....... المائدة ....... 288/1.
﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ ....... 38 ....... الأنعام ....... 17/2، 18/2، 215/2، 216/2.
﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا...﴾ ....... 59 ....... الأنعام ....... 17/2.
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ﴾ ....... 122 ....... الأنعام ....... 173/1، 414/1.
﴿وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا...﴾ ....... 4 ....... الأعراف ....... 159/1.
﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ ....... 8 ....... الأعراف ....... 156/1.
﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ الله﴾ ....... 99 ....... الأعراف ....... 294/1.
﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾ ....... 5 ....... التوبة ....... 439/1.
﴿فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا﴾ ....... 82 ....... التوبة ....... 415/1.
﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾ ....... 81 ....... هود ....... 102/2.
﴿الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ ....... 1 ....... يوسف ....... 69/2.
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ ....... 2 ....... يوسف ....... 205/1، 60/2، 68/2، 69/2.
﴿مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ ....... 31 ....... يوسف ....... 217/1، 218/1.
﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ ....... 36 ....... يوسف ....... 153/1، 154/1، 188/1.
ص: 395
الآية ....... رقمها ....... السورة ....... ص
﴿يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ...* مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ...﴾ ....... 39-40 ....... يوسف ....... 216/2.
﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ ....... 82 ....... يوسف ....... 159/1، 270/1، 275/1، 276/1، 277/1، 437/1.
﴿سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ...﴾ ....... 10 ....... الرعد ....... 415/1.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا...﴾ ....... 4 ....... إبراهيم ....... 218/2، 223/2.
﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا...﴾ ....... 89 ....... النحل ....... 17/2، 215/2.
﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ ....... 78 ....... الإسراء ....... 36/2.
﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ﴾ ....... 18 ....... الكهف ....... 414/1.
﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ ....... 4 ....... مريم ....... 407/1، 201/2.
﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ ....... 14 ....... طه ....... 68/2.
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ ....... 113 ....... طه ....... 69/2.
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ﴾ ....... 132 ....... طه ....... 68/2.
﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ﴾ ....... 80 ....... الأنبياء ....... 195/2، 197/2.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا﴾ ....... 77 ....... الحجّ ....... 37/2.
﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ ....... 103 ....... المؤمنون ....... 157/1.
ص: 396
الآية ....... رقمها ....... السورة ....... ص
﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ...﴾ ....... 2 ....... النور ....... 124/1.
﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾ ....... 32 ....... العنكبوت ....... 102/2.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ....... 22 ....... الروم ....... 210/2، 214/2.
﴿هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ...﴾ ....... 39 ....... ص ....... 13/2، 28/2.
﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ...* قُرْآنًا عَرَبِيًّا...﴾ ....... 27-28 ....... الزمر ....... 69/2.
﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ ....... 3 ....... فصّلت ....... 69/2.
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ....... 11 ....... الشورى ....... 380/1.
﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ...﴾ ....... 13 ....... الشورى ....... 8/2.
﴿حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْنَاهُ...﴾ ....... 1-3 ....... الزخرف ....... 69/2.
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ...﴾ ....... 18 ....... الجاثية ....... 7/2.
﴿قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا﴾ ....... 14 ....... الحجرات ....... 106/2.
﴿فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا...﴾ ....... 35 ....... الذاريات ....... 102/2.
﴿ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ ...﴾ ....... 36 ....... الذاريات ....... 102/2، 105/2.
﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ ....... 3-4 ....... النجم ....... 14/2.
﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا...﴾ ....... 23 ....... النجم ....... 214/2، 215/2.
ص: 397
الآية ....... رقمها ....... السورة ....... ص
﴿تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ...﴾ ....... 78 ....... الرحمن ....... 58/2.
﴿قُلْ مَا عِنْدَ الله خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ...﴾ ....... 11 ....... الجمعة ....... 405/1.
﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي الله النَّبِيَّ...﴾ ....... 8 ....... التحريم ....... 106/2، 109/2.
﴿ن وَالْقَلَمِ﴾ ....... 1 ....... القلم ....... 15/2.
﴿إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ ....... 4 ....... القلم ....... 11/2، 13/2، 14/2، 16/2، 20/2، 24/2.
﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا﴾ ....... 6 ....... الإنسان ....... 157/1.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ﴾ ....... 48 ....... المرسلات ....... 142/1.
﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا﴾ ....... 14-15 ....... النبأ ....... 186/1.
﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ ....... 22 ....... الفجر ....... 186/1،380/1، 430/1.
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ ....... 1 ....... العلق ....... 15/2.
﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ ....... 5 ....... العلق ....... 214/2.
﴿فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ﴾ ....... 17 ....... العلق ....... 159/1.
﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا الله مُخْلِصِينَ...﴾ ....... 5 ....... البيّنة101/2.
ص: 398
الحديث ....... القائل ....... ص
«ابدأوا بما بدأ الله تعالى به» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 384/2، 385/2.
«إذا قمت إلى الصلاة فاسبغ الوضوء،...» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 325/2.
«الطواف في البيت صلاة» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 423/1.
«القبر روضة من رياض الجنّة، أو حفرة...» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 355/1.
«أوتيت جوامع الكلم واختصر لي...» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 431/1.
«في خمسٍ من الإبل شاة» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 428/1.
«لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 330/2، 333/2، 335/2، 337/2، 338/2، 342/2، 346/2.
«لا عمل إلّا بنيّة» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 329/2، 333/2، 338/2.
«لا نكاح إلّا بوليّ» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 336/2، 337/2.
«من دعي إلى طعام فليجب، وإن كان...» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 88/2.
«وعليك السلام، ارجع فصلّ، فإنّك...» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 325/2.
«لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 329/2.
ص: 399
الحديث ....... القائل ....... ص
«لا صيام لمن لا يبيّت الصيام من الليل» ....... الرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله) ....... 333/2، 334/2، 338/2، 342/2.
«الناس بأمرائهم أشبه منهم بآبائهم» ....... أمير المؤمنين (علیه السلام) ....... 445/1.
«إنّ الله تبارك وتعالى أجلّ من أن...» ....... الصادقين (علیهم السلام) ....... 352/1.
«إذا سها الرجل في الركعتين الأوليين...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 349/2.
«إذا لم تحفظ الركعتين الأوليين فأعد...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 349/2.
«إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئًا تحتاج...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 18/2.
«بني الإسلام على خمسة على الصلاة...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 350/2، 357/2.
«بينا رسول الله (صلی الله علیه و آله) جالس في المسجد إذ دخل رجل، فقام يصلّي، فلم يتمّ ركوعه» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 326/2.
«عشر ركعات، ركعتان من الظهر...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 10/2.
«قم منتصبًا، فإنّ رسول الله (صلی الله علیه و آله) قال: من...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 326/2.
«كان الّذي فرض الله (عزوجلّ) على العباد عشر...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 10/2.
«لا صلاة إلّا إلى القبلة» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 326/2.
«لا صلاة إلّا بطهور» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 326/2، 330/2، 335/2، 337/2، 342/2، 356/2، 358/2.
ص: 400
الحديث ....... القائل ....... ص
«لا صلاة له» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 327/2.
«لمّا عرج برسول الله (صلی الله علیه و آله) نزل بالصلاة...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 15/2.
«وضع رسول الله (صلی الله علیه و آله) ديّة العين وديّة...» ....... الإمام الباقر (علیه السلام) ....... 13/2.
«إذا رفعت رأسك من الركوع فأقم...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 327/2.
«إذا صلّيت وأنت على غير القبلة واستبان» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 348/2.
«إنّ الله تبارك وتعالى أدّب نبيّه (صلی الله علیه و آله) ...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 13/2.
«إنّ الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 18/2.
«إنّ الله (عزوجلّ) أدّب رسوله حتّى قوّمه على ما...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 25/2.
«إنّ الله (عزوجلّ) أدّب نبيّه على محبّته...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 24/2.
«إنّي لأعلم ما في السماوات وما في...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 19/2.
«لا والله ما فوّض الله إلى أحد من خلقه...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 25/2.
«ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا وله أصل...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 18/2.
«من صلّى في غير وقت فلا صلاة له» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 327/2، 348/2.
«من صلّى ولم يصلّ على النبيّ (صلی الله علیه و آله) وترك...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 327/2.
«والله، إنّي لأعلم كتاب الله من أوّله...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 18/2.
«خصّ الله تعالى آدم من تعليم كلّ شيء» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 203/2.
ص: 401
الحديث ....... القائل ....... ص
«من صلّى ولم يصلّ على النبيّ (صلی الله علیه و آله) » ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 347/2.
«يابن خنيس، ألا أدلّك على ما هو أبين...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 203/2.
إنّ الله (عزوجلّ) أدّب نبيّه فأحسن أدبه...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 11/2.
ومن لم يسبّح فلا صلاة له» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 328/2.
«يا بن أشيم! إنّ الله (عزوجلّ) فوّض إلى سليمان...» ....... الإمام الصادق (علیه السلام) ....... 28/2.
«لا بأس بالصلاة فيما صنع في أرض...» ....... الإمام الكاظم (علیه السلام) ....... 396/1، 442/1.
«إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس» ....... الإمام الكاظم (علیه السلام) ....... 396/1، 442/1.
«يا عبد العزيز، جهل القوم وخُدعوا...» ....... الإمام الرضا (علیه السلام) ....... 17/2.
ص: 402
النبي (صلی الله علیه و آله): 428/1، 6/2، 9/2، 11/2، 12/2، 13/2، 14/2، 15/2، 16/2، 17/2، 19/2، 20/2، 21/2، 22/2، 24/2، 25/2، 26/2، 27/2، 28/2، 30/2، 34/2، 35/2، 36/2، 37/2، 38/2، 41/2، 42/2، 43/2، 44/2، 46/2، 57/2، 66/2، 80/2، 93/2، 99/2، 100/2، 103/2، 104/2، 105/2، 108/2، 109/2، 199/2، 227/2، 325/2، 386/2.
أمير المؤمنين (علیه السلام): 445/1، 24/2.
الإمام الحسن (علیه السلام): 15/2، 16/2.
الإمام الحسين (علیه السلام): 15/2، 16/2.
الإمام الباقر (علیه السلام): 10/2، 13/2، 15/2، 18/2، 326/2، 327/2، 349/2، 350/2.
الإمام الصادق (علیه السلام): 11/2، 13/2، 18/2، 19/2، 24/2، 25/2، 28/2، 195/2، 203/2، 306/2، 327/2، 348/2.
الإمام الكاظم (علیه السلام): 396/1.
الإمام الرضا (علیه السلام): 17/2، 26/2.
ابن أثير: 8/2.
ابن إدريس: 26/2، 316/2.
ابن البرّاج: 26/2.
ابن الحاجب: 97/1، 321/1، 48/2، 49/2، 77/2، 163/2، 165/2، 166/2.
ابن السبكيّ: 193/2.
ابن جنّي: 315/1، 441/1.
ابن زهرة: 345/1، 26/2.
ابن عبّاس: 359/1، 15/2، 36/2، 37/2، 199/2.
ص: 403
ابن عرفة: 8/2.
ابن فورك: 190/2.
ابن مالك: 374/1.
أبو إسحاق الأسفرائنيّ: 192/2.
أبو إسحاق النحويّ: 24/2.
أبو الحسين: 333/2، 334/2.
أبو بكر الحضرميّ: 306/2، 327/2.
أبو عبد الله البصريّ: 333/2، 334/2، 335/2، 338/2.
أبو قتادة: 28/2.
أبو هاشم: 191/2.
أبو الحسن الأشعريّ: 190/2.
أحمد بن محمّد الأنطاكي: 291/1.
آدم (علیه السلام): 195/2، 198/2، 199/2، 202/2، 203/2، 204/2، 205/2، 206/2، 207/2، 208/2، 209/2، 218/2، 219/2، 220/2، 221/2، 222/2.
الإربلي: 445/1.
إسحاق بن عمّار: 396/1، 442/1، 13/2.
إسماعيل (علیه السلام): 197/2، 198/2، 199/2، 200/2، 209/2.
الأسنويّ: 437/1، 192/2، 247/2، 266/2.
الأصمعيّ: 359/1.
الآمدي: 138/1، 237/1، 266/1، 125/2، 192/2، 242/2، 342/2.
الإيجي: 237/1.
بحر العلوم (قدس سره): 312/1، 352/1، 9/2، 241/2، 260/2، 262/2.
البرداني: 413/1.
البهائي، الشيخ: 266/1، 372/1، 303/2.
البيضاويّ: 138/1، 437/1، 194/2، 247/2.
ثمود: 198/2.
الجوهريّ: 8/2.
الجيزاويّ: 292/1.
جمال الدين بن عبد الله الجرجانيّ، السيّد: 339/2.
ص: 404
جمال الدين محمّد الحسينيّ الاسترآبادي، السيد: 339/2.
الچلبي: 52/1 .
الحاجبي: 266/1.
خليل القزوينيّ، الشيخ: 292/1.
الخوانساريّ: 262/2.
الدسوقي: 138/1.
الزبيدي: 8/2.
زرارة: 10/2، 13/2، 326/2، 349/2.
الزركشي: 441/1.
السخاوي: 444/1.
سليمان بن فهد الأزدي: 315/1.
سماعة: 349/2.
السيّد الأجل: 373/1، 380/1، 381/1، 383/1، 390/1.
السيّد السند عميد الدين: 338/2، 345/2، 389/2.
السيّد المجاهد: 348/1، 352/1، 362/1، 393/1، 125/2، 192/2.
السيّد المرتضى: 321/1، 345/1، 26/2.
الشريف الرضي: 315/1.
الشهيد الثاني: 346/1.
الشيخ الرئيس: 89/1، 259/2، 263/2.
الشيخ المفيد: 334/2.
الشيخ حسن: 26/2.
شيخنا الشهيد: 380/2.
صاحب التنقيح: 341/2.
صاحب المحاكمات: 267/2.
صاحب المدارك: 386/2.
صاحب المعالم: 441/1، 343/2.
صالح المازندراني (قدس سره)، المولى: 288/1.
الصفي الهندي: 138/1.
الطبرسيّ: 203/2.
الطوسيّ، المحقّق: 259/2، 260/2، 263/2.
عاد: 198/2.
عبّاد بن سليمان: 125/2.
عبد الأعلى مولى آل سام: 18/2.
عبد الجبّار بن أحمد: 336/2.
ص: 405
عبد العزيز بن مسلم: 17/2.
عبد الله بن سليمان العامري: 15/2.
عبد الله بن سنان: 25/2.
العضديّ: 64/1، 138/1، 172/1، 216/1، 175/1، 196/1، 267/1، 279/1، 322/1، 414/1، 77/2، 176/2، 181/2، 303/2.
العلّامة البهبهانيّ (قدس سره): 342/2، 344/2.
العلّامة الحلّيّ: 362/1، 425/1، 429/1، 75/2، 119/2، 192/2، 211/2.
عليّ القاري، الملّا: 444/1.
عليّ بن إبراهيم: 195/2.
الغزاليّ: 279/1، 193/2.
الفارابي: 259/2، 263/2.
الفاضل الباغنوي: 197/1، 50/2، 52/2، 259/2، 260/2، 266/2.
الفاضل التفتازانيّ: 291/1، 292/1، 335/1، 401/1، 408/1، 9/2، 50/2، 52/2، 55/2، 105/2، 149/2، 177/2، 178/2، 186/2.
الفاضل: 138/1.
الفخر الرازيّ: 138/1، 196/1، 437/1، 441/1، 75/2، 193/2، 242/2، 247/2، 259/2.
الفضل بن عبدالملك: 349/2.
فضيل بن يسار: 11/2، 350/2.
الفيّومي: 329/1.
قابيل: 199/2.
قاسم بن مسلم: 17/2.
القاضي أبو بكر: 205/1، 60/2، 71/2، 75/2، 76/2، 77/2، 193/2، 286/2، 291/2، 333/2.
القزوينيّ (رحمة الله)، المحقق: 138/1، 9/2.
القمّيّ، المحقق= المؤيّد الفاضل: 391/1، 81/2، 366/2، 374/2.
قنديل بن لاوَذَ بن إِرَمَ: 198/2.
قيس الماصر: 11/2.
الكرباسيّ: 352/1، 393/1.
كعب الأحبار: 199/2.
كليب الأسديّ: 306/2.
ص: 406
لوط (علیه السلام): 102/2، 103/2.
المتنبي: 315/1.
المجلسيّ: 443/1.
المحقّق الأعرجيّ: 241/2.
المحقّق الشريف: 97/1، 408/1، 157/2، 168/2، 259/2.
محمّد بن الحسن الميثمي: 25/2.
محمّد بن سنان: 13/2.
محمّد بن مسلم: 327/2.
محمود بن سبكتكين: 190/2.
المعلّى بن الخنيس: 203/2.
موسى بن أشيم: 27/2.
موسى (علیه السلام): 21/2.
ميرزا جان الباغنو، ملّا: 247/2.
نجم الأئمّة: 100/1.
النراقيّ، المحقّق: 348/1، 352/1، 437/1، 81/2، 125/2، 203/2، 247/2، 259/2، 266/2، 279/2.
نوح (علیه السلام): 199/2، 209/2.
النووي: 8/2.
هابيل: 199/2.
الهروي: 8/2.
هشام الغوطيّ: 125/2.
الوحيد البهبهانيّ: 235/1، 352/1، 387/1، 391/1، 393/1.
يعرب بن قحطان: 199/2.
يوسف (علیه السلام): 217/1.
ص: 407
ص: 408
إثبات الجزء الّذي لا يتجزّأ: 125/2.
الآداب الدينيّة: 203/2، 204/2.
الإرشاد: 379/2.
إعجاز القرآن: 76/2.
أعلام الزركلي: 413/1.
الإنصاف: 76/2.
إنكار أن يخلق الناس أفعالهم: 125/2.
الإيضاح: 97/1، 344/2.
التحرير: 376/2.
تذكرة العالم: 191/2.
التذكرة: 325/2.
تفسير القرطبي: 199/2.
التمهيد: 76/2.
التهذيب: 138/1، 396/1، 437/1، 442/1، 298/2، 326/2، 348/2، 389/2.
جامع المقاصد: 344/2.
حاشية الإشارات[الباغنوي]: 266/2.
حاشية التهذيب: 235/1، 288/2.
حاشية المعالم[المصنّف]: 235/1، 274/2، 288/2.
حاشية المعالم[القزوينيّ]: 138/1، 9/2.
حاشية المعالم[المازندرانيّ]: 288/1.
حاشية المعالم[البهبهانيّ]: 341/2، 344/2.
حاشية المعالم[سلطان العلماء]: 23/2.
الحدود في الأصول: 190/2.
حلّ الآيات المشكلات: 190/2.
الحلية اللامعة: 171/1، 235/1.
الخصائص: 315/1.
الذريعة: 336/2، 339/2.
الذكرى: 23/2.
الروضة: 409/1.
زبدة البهائيّ: 138/1.
سرّ الصناعة: 315/1.
الشامل في الفقه: 191/2.
ص: 409
الشرائع: 295/2، 335/2، 340/2، 378/2.
شرح التهذيب [جمال الدين]: 339/2.
شرح التهذيب [عميد الدين]: 338/2، 345/2.
شرح الشفاء: 262/2.
شرح اللمع: 247/2.
شرح المنهاج: 138/1.
شرح تهذيب الوصول: 339/2.
الصحاح: 408/1.
العدّة في الأصول: 191/2، 335/2.
العلل: 103/2.
العمد: 336/2.
العيون: 17/2.
الفقيه: 10/2، 326/2.
القاموس: 288/1، 408/1، 8/2، 87/2، 116/2.
القواعد: 295/2، 339/2، 372/2، 373/2، 378/2، 380/2.
الكافي: 10/2، 11/2، 15/2، 18/2، 27/2، 326/2.
كشف اللثام: 9/2، 24/2، 341/2.
كنز اللغة: 408/1.
المجازات: 381/1.
مجمع البحرين: 9/2.
المحاكمات: 260/2.
المحتسب في شواذ القراءات: 315/1.
مختصر الحاجبي: 138/1.
المدارك: 316/2.
المزهر: 199/2.
المسالك: 295/2، 340/2، 359/2، 370/2، 373/2، 374/2، 379/2.
مشكل الحديث وغريبه: 190/2.
المطوّل: 335/1.
المعارج: 335/2.
المعالم: 390/2.
المعتبر: 316/2، 325/2.
المفاتيح: 89/1، 414/1، 425/1.
المنتهى: 316/2، 325/2.
نضد القواعد الفقهيّة: 372/2.
نهاية الإحكام: 325/2.
ص: 410
النهاية: 299/1، 307/1، 359/1، 429/1، 438/1، 438/1، 77/2، 119/2، 193/2، 215/2، 220/2، 238/2،242/2، 298/2، 333/2، 389/2.
الوسائل: 396/1.
ص: 411
ص: 412
القرآن الكريم
1. الإتّقان في علوم القرآن، لجلال الدين أبي بكر السيوطيّ (910 ق)، تحقيق سعيد المندوب، دار الفكر، لبنان، 1416 ق.
2. أحسن الوديعة في تراجم مشاهير مجتهدي الشيعة، لمحمّد مهدي الموسويّ الأصفهانيّ الكاظميّ (1391 ق)، المطبعة الحيدريّة، النجف الأشرف، 1388ق.
3. الإحكام في أصول الأحكام، لأبي محمّد عليّ بن حزم الأندلسيّ (456ق)، الناشر زكريّا عليّ يوسف، مطبعة العاصمة، القاهرة.
4. الإحكام في أصول الأحكام، لعلىّ بن محمّد الآمديّ (631 ق)، علّق عليه الشيخ عبد الرزاق عفيفي، المكتب الإسلاميّ، بيروت، ط2، 1402ق.
5. اختيار مصباح السالكين، للشيخ ميثم بن عليّ بن ميثم البحراني (689 ق)، تحقيق الدكتور شيخ محمّد هادي الأميني، مجمع البحوث الإسلاميّة، مشهد، 1408 ق.
6. الآداب الدينيّة للخزانة المعينيّة، لأمين الإسلام الشيخ أبي عليّ الفضل بن الحسن الطبرسيّ (548 ق)، تحقيق ماجد بن أحمد العطيّة، انتشارات الشريف الرضيّ، 1423 ق.
7. إرشاد الأذهان إلى أحكام الإيمان، للعلّامة الحلّيّ الحسن بن يوسف بن المطهّر (648 - 726 ق)، تحقيق الشيخ فارس الحسّون، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، قم، 1410 ق.
8. إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ من علم الأصول، لمحمّد بن عليّ بن محمّد الشوكاني
ص: 413
(1255 ق)، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1ط، 1356- 1937م.
9. الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة، لملّا عليّ القاري (1014 ق)، تحقيق محمّد بن لطفي الصباغ، المكتب الإسلاميّ، بيروت، 1406 ق.
10. إشارات الأصول، للشيخ محمّد إبراهيم بن محمّد حسن الكرباسيّ (1261ق)، چاپ سربي، تهران، 1245 ق.
11. الإشارات والتنبيهات، للشيخ الرئيس ابن سينا (428 ق)، نشر البلاغة، قم، ط1، 1375 ش.
12. إشراق هياكل النور، غياث الدين الدشتكي الشيرازيّ (949 ق)، تحقيق على أوجبي، ميراث مكتوب، تهران، 1382 ش.
13. الأعلام، لخير الدين الزركلي (ت 1410)، دار العلم للملايين، بيروت، 1980م.
14. أعيان الشيعة، للسيّد محسن الأمين (ت 1371)، تحقيق حسن الأمين، دار المعارف، بيروت، 1403 ق.
15. الألفيّة، لابن مالك الأندلسي (672 ق)، دفتر نشر نويد إسلام، قم، 1417ق.
16. إلهيّات المحاكمات (مع تعليقات الباغنوي)، لقطب الدين الرازيّ (766ق)، تصحيح مجيد هادي زاده، ميراث مكتوب، تهران، 1381 ش.
17. الأمالي: لأبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (م 460)، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميّة، دار الثقافة، قم، 1414 ق.
18. أنوار التنزيل وأسرار التأويل (تفسير البيضاويّ)، لناصر الدّين أبي الخير عبدالله بن عمر البيضاويّ (685 ق)، مؤسّسة شعبان للنشر والتوزيع، بيروت، 1330ق.
ص: 414
19. أنيس المجتهدين، لمحمّد مهدي بن أبي ذر النراقيّ (1209 ق)، تحقيق مركز العلوم والثقافة الإسلاميّة، مؤسّسة بوستان كتاب، قم، 1388 ش.
20. إيضاح الفوائد في شرح إشكالات القواعد، لأبي طالب محمّد بن الحسن بن يوسف المطهّر الحلّيّ (682 - 771)، تحقيق الكرماني والاشتهاردي والبروجردي، المطبعة العلمية، قم، 1387 ق.
21. الإيضاح في شرح المفصّل للزمخشري، لأبي عمرو عثمان بن عمر ابن الحاجب المالكي (646 ق)، تحقيق محمّد عثمان، دار الكتب العلميّة، بيروت، 2011 م.
22. الإيضاح في علوم البلاغة، للخطيب القزوينيّ (739 ق)، دار الكتاب الإسلاميّ، ط1، قم، 1411 ق.
23. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمّة الأطهار، للعلّامة محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسيّ(1037 - 1110 ق)، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1403ق.
24. البحر المحيط في أصول الفقه، لبدر الدين محمّد بن بهادر الزركشي (794ق)، تحقيق الدكتور محمّد محمّد تأمر، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1421 ق.
25. بدائع الأفكار، للشيخ حبيب الله بن محمّد عليّ الرشتيّ (1312 ق)، مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)، الطبعة الحجريّة، قم، بدون تاريخ.
26. بصائر الدرجات، لمحمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار(290 ق)، تحقيق ميرزا حسن كوچه باغي، منشورات الأعلمي، تهران، 1404ق.
27. بغية الراغبين في سلسلة آل شرف الدين، للإمام السيّد عبد الحسين شرف الدين الموسويّ (ت 1377 ق)، المطبوعة ضمن: «موسوعة الإمام السيّد عبدالحسين شرف الدين»، تحقيق مركز العلوم والثقافة الإسلاميّة، دار المؤرّخ العربيّ،
ص: 415
بيروت، 1431ق.
28. البهجة المرضيّة في شرح الألفيّة، لجلال الدين أبي بكر السيوطيّ(ت910)، تحقيق ونشر مؤسّسة دار الهجرة، قم، 1419 ق.
29. بيان المفاخر، للسيّد مصلح الدّين المهدوي، مكتبة مسجد السيّد، أصفهان، 1368ش.
30. تاج العروس من جواهر القاموس، لمحبّ الدين أبي فيض السيّد محمّد مرتضى الحسيني الزبيدي (ت 1205)، تحقيق على شيري، دارالفكر، بيروت، 1414 ق.
31. تاريخ أصفهان ورى وهمه جهان، ميرزا حسن خان جابرى، 1321.
32. تاريخ أصفهان، ميرزا حسن خان جابرى، مشعل، أصفهان، 1378.
33. تحرير الأحكام الشرعيّة على مذهب الإماميّة: للعلّامة الحلّيّ جمال الدّين حسن بن يوسف بن المطهّر (ت726)، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري، قم، 1420 ق.
34. تحرير القواعد المنطقيّة في شرح الرسالة الشمسيّة، لقطب الدين الرازيّ (ت766 ق)، تصحيح محسن بيدار فر، انتشارات بيدار، ط2، قم، 1384 ش.
35. التحصيل، بهمنيار بن المرزبان (ت 458 ق)، تصحيح شهيد مرتضى مطهّرى، تهران، 1375 ش.
36. تحف العقول عن آل الرسول (صلی الله علیه و آله) لابن شعبة الحرّاني (ق 4)، تصحيح وتعليق عليّ أكبر الغفّاريّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قم، 1404 ق.
37. تذكرة الفقهاء: للعلّامة الحلّيّ جمال الدّين حسن بن يوسف بن المطهّر (726)، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (علیه السلام) لإحياء التراث، قم، 1414 ق.
38. تذكرة القبور، للشيخ عبدالكريم الجزي، مكتبة آية الله المرعشيّ، قم، 1371ش.
ص: 416
39. تذكره مآثر الباقريّة، ميرزا محمّد على زوّاره اى، تحقيق دكتر حسين مسجدى، سازمان تفريحى فرهنگى شهردارى، أصفهان، 1385 ش.
40. تعليقة على معالم الأصول، للسيّد عليّ الموسويّ القزوينيّ (1298ق)، تحقيق السيّد عليّ العلويّ القزوينيّ، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قم، 1422ق.
41. تفسير القمّي، علىّ بن ابراهيم القمّي، مؤسّسة دار الكتب، قم، 1404ق.
42. التفسير الكبير، لفخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازيّ (544 - 606)، ط3، بدون تاريخ.
43. التقريب والإرشاد الصغير في أصول الفقه، لأبي بكر محمّد بن الطيب المعروف بابن الباقلاني (403 ق)، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1418 ق.
44. تكملة أمل الآمل، للسيّد حسن الصدر الكاظميّ، تحقيق حسين على محفوظ وعبدالكريم وعدنان الدبّاغ، دار المؤرخ العربيّ، بيروت، 1429 ق.
45. تمهيد القواعد، للشهيد الثاني زين الدين بن عليّ (966 ق)، تحقيق مكتب الإعلام الإسلاميّ - فرع خراسان، دفتر تبليغات إسلامى حوزة علميّه قم، ط1، قم، 1416 ق.
46. التنقيح الرائع لمختصر الشرائع: لجمال الدّين مقداد بن عبدالله السيوري الحلّيّ (م 826)، تحقيق السيّد عبد اللطيف الحسينيّ الكوه كمري، نشر مكتبة آية الله المرعشيّ، ط1، قم، 1404 ق.
47. تهذيب الأحكام: لأبي جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسيّ (385 - 460 ق)، تحقيق السيّد حسن الموسوي الخرسان، دار الكتب الإسلاميّة، تهران، 1365.
ص: 417
48. تهذيب الوصول إلى علم الأصول، للعلّامة الشيخ حسن بن يوسف الحلّيّ (648 - 726 ق)، تحقيق الشيخ محمّد باقر الناصري، ذوي القربى، قم، ط1، 2005 م.
49. الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، لجلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطيّ (911 ق)، دار الفكر، بيروت، 1401 ق.
50. جامع المقاصد في شرح القواعد: للمحقّق الثاني علىّ بن الحسين بن عبدالعالي الكركيّ (940)، نشر وتحقيق مؤسّسة آل البيت (علیه السلام) قم، 1408.
51. الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبيّ)، لأبي عبدالله محمّد بن أحمد الأنصاريّ القرطبيّ (ت 671)، مؤسّسة التاريخ العربيّ، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، 1405ق.
52. جامعة الأصول: لملّا محمّد مهدي بن أبي ذر النراقيّ (1209 ق)، تحقيق رضا الاستادي، كنگره بزرگداشت محقّقان نراقى، قم، 1422 ق.
53. الجوهر النضيد، للعلّامة الشيخ حسن بن يوسف المطهّر الحلّيّ (726ق)، تصحيح محسن بيدارفر، انتشارات بيدار، قم، 1371 ش.
54. الحاشية على تهذيب المنطق، للمولى عبدالله بن شهاب الدين الحسينيّ اليزديّ (981 ق)، مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قم، 1412 ق.
55. الحاشية على مختصر المعاني، للشيخ محمّد بن محمّد عرفة الدسوقي، مكتبة الشفيعي، أصفهان، بدون تاريخ.
56. الحاشية على معالم الأصول، للمولى صالح المازندرانيّ (1081 ق)، مكتبة داورى، قم، ط1، بدون تاريخ.
57. حاشية ملّا محمّد صادق على شرح الكاتي على متن ايساغوجي، للأبهري: دار
ص: 418
الكتب العلمية، بيروت 45، 1971.
58. حكمة العين وشرحه، لنجم الدين عليّ الكاتبي - ميرك البخاريّ (675 ق - 740 ق)، تصحيح جعفر زاهدى، دانشگاه مشهد، مشهد، 1353 ش.
59. الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، لصدر المتألّهين (1050ق)، دار إحياء التراث، بيروت، 1981 م.
60. الحلّيّة اللامعة للبهجة المرضيّة، للعلّامة المحقّق الحاجّ السيّد محمّد باقر بن محمّد نقي الموسويّ الجيلانيّ الشفتيّ (1180 - 1260 ق)، تحقيق مكتبة مسجد السيّد بأصفهان، شب افروز، ط1، تهران، 1393 ش.
61. الدرّ المختار شرح تنوير الأبصار، لمحمّد أمين الحصفكي الشهير بابن عابدين (1088ق)، تحقيق مكتب البحوث والدراسات، دار الفكر، بيروت، 1415 ق.
62. الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، لجلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطيّ (911 ق)، دار المعرفة، بيروت.
63. دعائم الإسلام وذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام عن أهل بيت رسول الله -عليه وعليهم أفضل السلام-: للقاضي نعمان بن محمّد بن منصور بن أحمد بن حيون التميمي المغربي (م 363)، تحقيق آصف بن عليّ أصغر فيضي، دار المعارف، مصر، 1383 ق.
64. ديوان دعبل الخزاعيّ، دعبل بن علىّ الخزاعي (246 ق)، شرحه وضبطه وقدّم له: ضياء حسين الأعلمي، مؤسّسة الأعلمي، بيروت، 1417 ق.
65. الذريعة إلى أصول الشريعة، للسيّد عليّ بن الحسين الموسويّ علم الهدى (436 ق)، تصحيح دكتر أبوالقاسم گرجى، دانشگاه تهران، تهران، 1376 ش.
ص: 419
66. الذريعة، للشيخ آقا بزرگ الطهراني (ت 1389)، دار الأضواء، بيروت، 1403ق.
67. ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة: للشهيد الأوّل شمس الدّين محمّد بن مكّي العامليّ (ت 786)، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (علیه السلام) قم، 1419 ق.
68. الرسائل الرجاليّة: للسيّد محمّد باقر الشفتيّ المشهور بحجّة الإسلام (1260)، تحقيق السيّد مهدي الرجائي، نشر مكتبة مسجد السيّد بأصفهان، 1417ق.
69. رسائل الشهيد الثاني: الشيخ زين الدين بن عليّ العامليّ (ت 965)، تحقيق رضا المختاري، بوستان كتاب قم، 1422 ق.
70. روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات، للسيّد محمّد باقر الموسوي الچهارسوقي(ت 1313)، مؤسّسة إسماعيليان، قم، 1390 ق.
71. الروضة البهيّة في الإجازة الشفيعيّة، للسيّد محمّد شفيع بن عليّ أكبر الجاپلقي البروجردي (ت 1280 ق)، الطبع الحجري، تهران، بدون تاريخ.
72. ريحانة الأدب، لميرزا محمّد على المدرّس (ت1373)، خيام، تهران، ط2.
73. زبدة الأصول، للشيخ محمّد بن حسين البهائي العامليّ (1031 ق)، تحقيق فارس حسّون كريم، مرصاد، قم، 1423 ق.
74. زبدة التفاسير، لملّا فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني (988 ق)، تحقيق ونشر مؤسّسة المعارف الإسلاميّة، قم، 1423 ق.
75. سنن ابن ماجة: لأبي عبدالله محمّد بن يزيد بن ماجة القزوينيّ (207 - 275)، تحقيق محمّد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت.
ص: 420
76. سنن الترمذي: لأبي عيسى محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي (279)، تحقيق عبدالوهاب عبداللطيف، دار الفكر، بيروت، 1403 ق.
77. السنن الكبرى (سنن البيهقي): لأبي بكر أحمد بن الحسين بن عليّ البيهقي (458)، نشر دار الفكر، بيروت.
78. سير أعلام النبلاء، لشمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748)، تحقيق حسين الأسد، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1413 ق.
79. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام: للمحقّق الحلّيّ الشيخ أبي القاسم جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهذلي (602 - 672)، تحقيق وتعليق السيّد صادق الشيرازي، نشر انتشارات الاستقلال، طهران، 1409 ق.
80. شرح أصول الكافي، للمولى محمّد صالح المازندرانيّ (1081 ق)، تحقيق الميرزا أبوالحسن الشعرانيّ، ضبط وتصحيح السيّد عليّ عاشور، دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، 1421 ق.
81. شرح الإلهيّات من الشفاء، للمحقّق النراقيّ (متوفّى 1244 ق)، كنگره بزرگداشت محقّقان نراقى، قم، 1380 ش.
82. شرح اللمع، لابن بَرْهَان العكبري، حقّقه د. فائز فارس، 1405 ق.
83. شرح المطوّل، لسعد الدين التفتازاني (ت 792)، وبهامشه حاشية السيّد الشريف، منشورات مكتبة الداوري، قم، 1424 ق.
84. شرح الهداية الأثيريّة، لصدر المتألّهين (1050 ق)، تصحيح محمّد مصطفى فولادكار، مؤسّسة التاريخ العربيّ، بيروت، 1422 ق.
ص: 421
85. شرح الوافية، للسيّد بحرالعلوم (ت1212)مخطوطة مجلس الشورى برقم 1348.
86. شرح جمل الزجاجي، لابن عصفور، تحقيق على محسن مال الله.
87. شرح عيون الحكمة، لفخر الدين الرازيّ (606 ق)، تحقيق محمّد حجازى أحمد على سقا، مؤسّسة الصادق (علیه السلام)، تهران، 1373ش.
88. شرح كافية ابن الحاجب، لنجم الأئمّة الشيخ رضي الدين محمّد بن الحسن الاسترآبادي (ت 686 ق)، تحقيق يوسف حسن عمر، مؤسّسة الصادق، تهران، 1395 ق.
89. شرح كتاب القبسات، لأحمد بن زين العابدين العلويّ (1060 ق)، تحقيق حامد ناجى أصفهاني، مؤسّسة مطالعات إسلامي، تهران، 1376ش.
90. شرح مختصر المنتهى الأصوليّ، للعلّامة القاضي عضد الدين الإيجي (ت 756 ق)، تحقيق محمّد حسن محمّد حسن إسماعيل، دار الكتب العلميّة، ط1، 1424 ق- 2004 م.
91. شرح مطالع الأنوار في المنطق، لقطب الدين الرازيّ (766 ق)، انتشارات كتبى نجفى، قم، بدون تاريخ.
92. الشعر والشعراء، لابن قتيبة الدينوري (276 ق)، تحقيق وشرح أحمد محمّد شاكر، دار الحديث، قاهرة، 1427 ق.
93. الشواهد الربوبيّة في المناهج السلوكيّة، لصدر المتألّهين (1050 ق)، تصحيح سيّد جلال الدين الآشتياني، المركز الجامعي للنشر، مشهد، 1360ش.
94. الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربيّة): لإسماعيل بن حمّاد الجوهري (م 393)،
ص: 422
تحقيق أحمد بن عبدالغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، 1407 ق.
95. صحيح البخاريّ: لأبي عبدالله بن إسماعيل البخاريّ(194 - 256)، دار الفكر، بيروت، 1401 ق.
96. صحيح مسلم: لأبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (261 ق) تحقيق محمّد فؤاد عبدالباقي، دار الفكر، بيروت، 1398.
97. طرائف المقال في معرفة طبقات الرجال: للسيّد عليّ أصغر بن محمّد شفيع الجابلقي البروجردي (1313)، تحقيق السيّد مهدي الرجائي، مكتبة آية الله المرعشيّ، قم، 1410 ق.
98. العدّة في أصول الفقه (ط ج)، لأبي جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسيّ (385 - 460)، تحقيق محمّد رضا الأنصاريّ، قم، 1417 ق.
99. العدّة في أصول الفقه (ط ق)، لأبي جعفر شيخ الطائفة محمّد بن الحسن المعروف بالشيخ الطوسيّ (385 - 460)، وبذيله الحاشية الخليليّة للشيخ خليل بن الغازي القزوينيّ (1089 ق)، تحقيق محمّد مهدي نجف، مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)، قم.
100. علل الشرائع، للشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي (م 381)، نشر المكتبة الحيدريّة، النجف الأشرف، 1386.
101. عوالي اللآلئ الحديثيّة، لابن أبي جمهور الأحسائي (880)، تحقيق الحاج آقا مجتبى العراقي، سيّد الشهداء، قم، 1403 ق.
102. عيون أخبار الرضا (علیه السلام)، لأبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي المعروف بالشيخ الصدوق (م 381)، تحقيق الشيخ حسين الأعلمي، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1404 ق.
ص: 423
103. غاية الوصول وإيضاح السبل في شرح مختصر منتهى السؤل والأمل لابن الحاجب، للعلّامة الشيخ حسن بن يوسف بن المطهّر الحلّيّ (648 - 726 ق)، تحقيق الشيخ آ.مرداني پور، مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام)، قم، 1430 ق.
104. فتح الباري شرح صحيح البخاريّ، لشهاب الدّين ابن حجر العسقلاني (852)، دار المعرفة، بيروت.
105. الفروق اللغويّة، لأبي هلال العسكريّ (ن 395)، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قم، 1412 ق.
106. الفصول الغرويّة في الأصول الفقهيّة، للشيخ محمّد حسين بن عبدالرحيم الحائرىّ (ت 1250 ق)، دار إحياء العلوم الإسلاميّة، قم، 1404 ق.
107. الفصول المختارة، للشيخ المفيد (413 ق)، تحقيق جمع من المحقّقين بأصفهان، دار المفيد، بيروت، 1414 ق.
108. فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آية الله مرعشى نجفى، سيّد احمد حسينى، كتابخانه آية الله مرعشى، قم، 1395 ق.
109. فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آية الله گلپايگانى، سيّد أحمد حسينى، خيام، قم، 1357 ش.
110. فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه جامع گوهرشاد، محمود فاضل، كتابخانه جامع گوهرشاد، مشهد، 1363 ش.
111. فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه مجلس شوراى إسلامى، نشر كتابخانه مجلس شوراى اسلامى، تهران، 1305 تا 1377.
112. فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه مسجد أعظم، رضا استادى، كتابخانه
ص: 424
مسجد اعظم، قم، 1365 ش.
113. فهرست نسخه هاى خطّى مركز احياء ميراث إسلامى، سيّد أحمد حسينى، قم، 1419 ق.
114. الفوائد الحائريّة، للعلّامة محمّد باقر البهبهانيّ (1206 ق)، مجمع الفكر الإسلاميّ، قم، 1415 ق.
115. القاموس المحيط: لأبي طاهر مجد الدّين محمّد بن يعقوب الفيروزآبادي (817)، تحقيق ونشر دار العلم، بيروت، 1306.
116. قصص العلماء، ميرزا محمّد بن سليمان تنكابنى (ت 1302)، انتشارات علميّة إسلاميّة، تهران، بدون تاريخ.
117. قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام: للعلّامة الحلّيّ الحسن بن يوسف بن المطهّر (648 - 726)، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلاميّ، قم، 1413 ق.
118. القواعد والفوائد، للشهيد الأوّل محمّد بن مكّيّ العامليّ (786 ق)، تحقيق الدكتور السيّد عبدالهادي الحكيم، مكتبة المفيد، ط1، قم، بدون تاريخ.
119. القوانين المحكمة في الأصول، للميرزا أبي القاسم بن محمّد حسن القمّي الجيلانيّ (1231 ق)، شرحه وعلّق عليه رضا حسين صبح، إحياء الكتب الإسلاميّة، قم، 1430 ق.
120. الكافي: لأبي جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني (م 329) تحقيق عليّ أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، 1388.
121. كتاب التعريفات، للسيّد الشريف عليّ بن محمّد الجرجانيّ (816 ق)، ناصر خسرو، تهران، 1370 ش.
ص: 425
122. كتاب العين، لأبي عبدالرّحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (100 - 175)، تحقيق الدكتور مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي، مؤسّسة دارالهجرة، قم، 1409ق.
123. كتاب من لا يحضره الفقيه: للشيخ الصدوق أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن بابويه القمّي (م 381)، تحقيق عليّ أكبر الغفاري، نشر جامعة المدرّسين، قم، 1404ق.
124. الكرام البررة، للشيخ آقا بزرگ الطهراني (ت 1389)، دارالمرتضى مشهد، 1404ق.
125. كشّاف اصطلاحات الفنون والعلوم، محمّد عليّ التهاوني (1158 ق)، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 1996 م.
126. الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري (467 - 538)، دار الكتب العربيّ، بيروت، 1366 ق.
127. كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء، للشيخ الكبير الشيخ جعفر كاشف الغطاء (م 1228 ق)، تحقيق مكتب الإعلام الإسلاميّ، نشر دفتر تبليغات إسلامي، قم، 1422 ق.
128. كشف الغمّة في معرفة الأئمّة: لأبي الحسن عليّ بن عيسى بن أبي الفتح الإربلي (م 693 ق)، دار الأضواء، بيروت، 1405 ق.
129. كشف اللّثام عن قواعد الأحكام: للشيخ بهاء الدّين محمّد بن الحسن الأصفهانيّ المعروف ب- الفاضل الهنديّ (1062 - 1137)، تحقيق مؤسّسة النشر الإسلاميّ
ص: 426
التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة، 1416ق.
130. كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، لعلاء الدين عليّ المتّقي بن حسام الدين الهنديّ (ت 975)، تحقيق الشيخ بكري حياني، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1409ق.
131. الكنى والألقاب، للشيخ عبّاس القمّيّ(ت1359)، مكتبة الصدر، تهران، 1409ق.
132. لسان العرب: لجمال الدّين محمّد بن مكرم بن منظور المصريّ (630 - 711)، نشر أدب الحوزة، قم، 1405 ق.
133. ماضي النجف وحاضرها، للشيخ جعفر الشيخ باقر آل محبوبة (ت1377)، تحقيق محمّد سعى آل محبوبه، دار الأضواء، بيروت، 1430 ق.
134. مبادي الوصول إلى علم الأصول، للعلّامة الحلّيّ جمال الدّين حسن بن يوسف بن المطهّر (726 ق)، المطبعة العلميّة، ط1، قم، 1404ق.
135. متشابه القرآن ومختلفه، للشيخ محمّد بن عليّ بن شهر آشوب المازندراني (588ق)، شركت سهامى طبع كتاب، 1328.
136. مجمع البحرين ومطلع النيّرين: للشيخ فخر الدّين محمّد الطريحيّ (م 1085) تحقيق السيّد أحمد الحسيني، مكتبة نشر الثقافة الإسلاميّة، 1408ق.
137. مجمع البيان في تفسير القرآن: لأبي عليّ أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسيّ (حوالي 470 - 548)، تحقيق لجنة من العلماء والمحقّقين الأخصائيّين، نشر مؤسّسة الأعلميّ، بيروت، 1415 ق.
ص: 427
138. مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للحافظ نور الدّين عليّ بن أبي بكر الهيثميّ (م807)، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1408 ق.
139. المحاكمات بين شرحي الإشارات (المطبوع في هامش شرح الإشارات والتنبيهات، للمحقّق الطوسّي)، لقطب الدين الرازيّ (766 ق)، نشر البلاغة، قم 1375ش.
140. المحصول، لفخر الدين محمّد بن عمر بن الحسين الرازيّ (544 - 606)، تحقيق دكتور طه جابر فيّاض العلواني، مؤسّسة الرسالة، بيروت، 1412 ق.
141. المحصول، للعلّامة السيّد محسن بن حسن الأعرجيّ (1130 - 1227 ق)، تحقيق هادي الشيخ طه، دار المرتضى، النجف الأشرف، 1437ق.
142. مختصر المعاني، لسعد الدين التفتازاني (ت 792)، دار الفكر، قم، 1411 ق.
143. المخصص، لأبي الحسن عليّ بن إسماعيل النحوي الأندلسي، المعروف بابن سيدة، المتوفّى 458 ق، تحقيق لجنة إحياء التراث العربيّ، بيروت، لبنان.
144. مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام: للسيّد محمّد بن عليّ الموسوي العامليّ (956 - 1009) تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (علیه السلام) قم، 1410 ق.
145. مرآة الكتب، ثقة الإسلام التبريزي(ت1330)، مكتبة آية الله المرعشيّ، قم، 1414 ق.
146. مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام: للشهيد الثاني زين الدّين بن علىّ بن أحمد العامليّ (911 - 965) تحقيق ونشر مؤسسة المعارف الإسلاميّة، قم، 1413 ق.
147. مستدرك الصحيحين، للحاكم أبي عبدالله النيسابوري (405 ق)، تحقيق يوسف
ص: 428
عبدالرحمن المرعشلي، دار المعرفة، بيروت.
148. مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، للحاج الميرزا حسين المحدّث النوريّ الطبرسيّ (1254 - 1320)، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)، قم، 1408 ق.
149. المستصفى في علم الأصول، لأبي حامد محمّد بن محمّد الغزاليّ (505 ق)، تصحيح محمّد عبد السلام عبد الشافي، دار الكتب العلميّة، بيروت، 1417ق.
150. مستند الشيعة في أحكام الشريعة: لملّا أحمد بن محمّد مهدي النراقيّ (1245) تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (علیه السلام) لإحياء التراث، قم، 1415ق.
151. مسند أحمد (وبهامشه: منتخب كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال)، لأحمد بن محمّد بن حنبل أبي عبدالله الشيبانيّ (164 - 241)، دار صادر، بيروت.
152. مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد، لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (460 ق)، مؤسّسة فقه الشيعة، بيروت، 1411 ق.
153. المصباح المنير في غريب الشرح الكبير، لأحمد بن محمّد بن عليّ المقري الفيّومي (ت 770)، منشورات دار الهجرة، قم، 1405 ق.
154. مطالع الأنوار، للحاجّ السيّد محمّد باقر الشفتيّ (1180- 1260 ق)، طبع الأفست، مكتبة مسجد السيّد، نشاط، أصفهان 1366- 1409ق.
155. معارج الأصول، للشيخ نجم الدين جعفر بن الحسن الحلّيّ (602- 676)، تحقيق محمّد حسين الرضويّ، مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)، قم، 1403ق.
156. معالم الدين وملاذ المجتهدين (قسم الفقه): للشيخ حسن بن زين الدّين العامليّ نجل الشهيد الثاني (1011)، تحقيق السيّد منذر الحكيم، قم، 1418 ق.
ص: 429
157. المعتبر في شرح المختصر: للمحقّق الحلّيّ نجم الدّين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد الهذلي (602- 676)، لجنة التحقيق بإشراف الشيخ ناصر مكارم، مؤسسة سيّد الشهداء (علیه السلام) قم، 1364.
158. معجم المؤلّفين، عمر رضا كحالة، دار إحياء التراث، بيروت.
159. مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام عبدالله جمال الدين بن يوسف الأنصاريّ المصريّ (ت 761)، تحقيق محمّد محيي الدين عبدالحميد، نشر مكتبة آية الله المرعشيّ النجفيّ، قم، 1404 ق.
160. مفاتيح الأصول، للعلّامة السيّد محمّد بن عليّ الطباطبائيّ المعروف بالمجاهد (1242 ق)، مؤسّسة آل البيت (علیهم السلام)، ط1، قم، 1296 ق.
161. مكارم الآثار، محمّد عليّ المعلّم حبيب آبادي (ت 1396)، انجمن كتابخانه هاى عمومى أصفهان، 1377 - 1382 ق.
162. ملاذ الأخيار في فهم تهذيب الأخبار، للعلّامة الشيخ محمّد باقر المجلسيّ (1110ق)، تحقيق السيّد مهدي الرجائي، مكتبة آية الله المرعشيّ، قم، 1406ق.
163. الملل والنحل: لأبي الفتح محمّد بن عبدالكريم الشهرستاني (479- 548ق)، انتشارات الشريف الرضي، قم، بدون تاريخ.
164. مناهج العقول، للإمام محمّد بن الحسن البدخشي (922 ق)، المطبوع على نهاية السؤل، دار الكتاب العربيّ، بيروت، 1405 ق.
165. منتهى المطلب في تحقيق المذهب: للعلّامة الحلّيّ جمال الدّين حسن بن يوسف بن المطهّر (726 ق)، تحقيق ونشر قسم الفقه في مجمع البحوث الإسلاميّة، مشهد، 1412 ق.
ص: 430
166. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، لسعيد بن هبة الله قطب الدين الراوندي (573 ق)، تحقيق السيّد عبداللطيف الكوهكمريّ، مكتبة آية الله المرعشيّ، قم، 1406ق.
167. منية اللبيب في شرح التهذيب، للسيّد ضياء الدين عبدالله بن محمّد بن الأعرج الحسينيّ الحلّيّ (بعد 681، كان حيًّا 740 ق)، تحقيق اللجنة العلميّة في مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام) مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام) قم، 1431 ق.
168. المواقف، للعلّامة القاضي عضد الدين الإيجي (756 ق)، تحقيق عبدالرحمن عميرة، دار الجيل، بيروت، 1417 ق.
169. ميراث حوزة أصفهان، دفتر سوّم وچهارم، مركز تحقيقات رايانه اى حوزة علميّه أصفهان، 1386 ش.
170. نضد القواعد الفقهيّة، لمقداد بن عبدالله السيورىّ الحلّيّ (826 ق)، تحقيق السيّد عبداللطيف الكوهكمريّ، مكتبة آية الله المرعشيّ، قم، 1403ق.
171. نقباء البشر في القرن الرابع عشر، للشيخ آقا بزرگ الطهراني (ت 1389)، دار المرتضى، مشهد، 1404 ق.
172. نهاية الإحكام في معرفة الأحكام: للعلّامة الحلّيّ الحسن بن يوسف بن المطهّر (648- 726)، تحقيق السيّد مهدي الرجائي، مؤسسة إسماعيليان، قم، 1410ق.
173. نهاية الأرب في فنون الأدب، لشهاب الدين أحمد بن عبدالوهّاب النويري (733 ق)، وزارة الثقافة والإرشاد القومي المؤسّسة المصريّة العامّة، القاهرة.
174. نهاية السؤل في شرح منهاج الأصول للبيضاوي، للأسنوي جمال الدين
ص: 431
عبدالرحيم بن الحسن (772 ق)، دار الكتاب العربيّ، بيروت، 1405 ق.
175. نهاية المرام في علم الكلام، للعلّامة الحلّيّ الحسن بن يوسف بن المطهّر (648- 726 ق)، تحقيق فاضل العرفان، مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام) قم، 1419ق.
176. نهاية الوصول إلى علم الأصول، للعلّامة الحلّيّ الحسن بن يوسف بن المطهّر (648- 726 ق)، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادريّ، مؤسّسة الإمام الصادق (علیه السلام) قم، 1425 ق.
177. النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن أثير الجزري (544- 606)، تحقيق طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمّد الطناحي، مؤسّسة إسماعيليان، قم، 1364ش.
178. هداية المسترشدين، للشيخ محمّد تقي بن عبدالرحيم الرازيّ النجفيّ (1248ق)، تحقيق ونشر مؤسّسة النشر الإسلاميّ، ط2، قم، 1429ق.
179. همع الهوامع شرح جمع الجوامع في علم العربيّة، للسيوطيّ عبدالرحمن بن أبي بكر (ت 910 ق)، تحقيق عبدالعال سالم مكرم 1980 م - 1400 ق.
180. الوافية في أصول الفقه، للمولى عبدالله بن محمّد البشروىّ الخراسانيّ (1071ق)، تحقيق السيّد محمّد حسين الرضويّ الكشميريّ، مجمع الفكر الإسلامىّ، مؤسّسة إسماعيليان، قم، 1412ق.
181. وسائل الشيعة (تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة): للشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العامليّ (1104 ق)، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت (علیه السلام) قم، 1414 ق.
ص: 432
الباب الرابع
في تقسيم الحقيقة والمجاز إلى الأقسام المعروفة وما يتعلّق بها من الأمور المهمّة5
الفصل الأوّل7
في الحقيقة الشرعيّة7
المبحث الأوّل: في تعيين الشارع7
في ثبوت التفويض في الأحكام إلى النبيّ (صلی الله علیه و آله) 10
في الاشكالات الواردة على تفويض الأحكام إليه (صلی الله علیه و آله) 14
الجواب عن الإشكالات الواردة على تفويض الأحكام إليه (صلی الله علیه و آله) 15
إشكال آخر أصعب ممّا ذكر17
حاصل الإشكال19
الجواب عن الإشكال20
محصّل الكلام في هذا المقام22
في عدم ثبوت التفويض في الأحكام إلى الأئمّة (علیه السلام) 23
الإشكال الوارد على تفويض الأحكام إلى الأئمّة (علیه السلام) 24
بعض النصوص الدالّة على ثبوت التفويض إلى الأئمّة (علیه السلام) 24
الجواب عن الإشكال الوارد على تفويض الأحكام إلى الأئمّة (علیه السلام) 25
إشكال آخر على تفويض الأحكام إلى الأئمّة (علیه السلام) 28
الجواب عن الإشكال29
ص: 433
المبحث الثاني: في ماهيّة الحقيقة الشرعيّة31
الاحتمالات في وضع الحقيقة الشرعيّة ثلاثة34
الاحتمال الأوّل38
الاحتمال الثاني39
الاحتمال الثالث40
الإيراد على الاحتمالات الثلاثة مع الجواب عنه41
الاحتمال الرابع41
الاحتمال الخامس42
طرق إثبات الوضع التعيّنيّ43
الاحتمال السادس44
الاحتمال السابع44
الاحتمال الثامن45
الاحتمال التاسع45
احتمال آخر46
حاصل الكلام في تعريف الحقيقة الشرعيّة46
في بيان الحقيقة الدينيّة48
الاحتمال الأوّل49
الاحتمال الثاني50
الكلام على تقدير أخصّيّة الدينيّة من الشرعيّة52
ص: 434
الكلام على ما ذكروا في تفسير الدينيّة56
متمسّك النافين للحقيقة الشرعيّة60
الدليل الأوّل60
الجواب عن الدليل الأوّل60
الاحتمالات في الحكم بكون الحقائق الشرعيّة مجازات لغويّة62
الاحتمال الأوّل63
الاحتمال الثاني63
الاحتمال الثالث64
الاحتمال الرابع64
الدليل الثاني للّنافين للحقيقة الشرعيّة70
الجواب عن الدليل الثاني71
الدليل الثالث للّنافين للحقيقة الشرعيّة74
الجواب عن الدليل الثالث74
البحث الثالث: في ثبوت الحقيقة الشرعيّة75
تنبيهٌ نبيه76
تفصيل جمعٍ من متأخّري الأصحاب في المسألة78
وجوه النظر في القول بالتفصيل79
الوجه الأوّل79
الوجه الثاني80
ص: 435
الوجه الثالث81
رأي المصنّف في المسألة82
متمسّك المثبتين للحقيقة الشرعيّة83
الدليل الأوّل83
وجوه النظر في استدلال المثبتين83
الوجه الأوّل83
الوجه الثاني83
الجواب عن الوجهين84
الوجه الثالث مع الجواب عنه84
الوجه الرابع مع الجواب عنه86
الوجه الخامس90
الدليل الثاني لإثبات الحقيقة الشرعيّة93
الدليل الثالث لإثبات الحقيقة الشرعيّة93
والبحث الرابع: في الثمرة المترتّبة على ثبوت الحقيقة الشرعيّة وعدمه94
أقسام الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة95
القسم الأوّل95
القسم الثاني97
القسم الثالث97
القسم الرابع98
ص: 436
دفع إيراد لاستحكام مقام98
الدليل الأوّل للمعتزلة لإثبات الحقيقة الدينيّة101
الجواب عن الدليل الأوّل للمعتزلة104
الدليل الثاني للمعتزلة لإثبات الحقيقة الدينيّة106
الجواب عن الدليل الثاني للمعتزلة107
الفصل الثاني111
في الحقيقة اللغويّة111
البحث الأوّل: في تعريف الحقيقة اللغويّة111
الإيراد على تعريف الحقيقة اللغويّة111
تعريف آخر للحقيقة اللغويّة112
الإيراد على التعريف مع الجواب عنه114
والبحث الثاني: في ثبوت الحقيقة اللغويّة119
في الفرق بين المنقول والمجاز مع اشتراكهما في الاستعمال في المعنى المناسب 120
دليلٌ آخر لإثبات الحقيقة اللغويّة122
المبحث الثالث: في واضع الحقيقة اللغويّة124
المقام الأوّل: في أنّ دلالة الألفاظ وضعيّة124
في احتجاج القائلين بأنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة125
القول المذكور مبنيّ على أمور126
الأمر الأوّل126
ص: 437
الأمر الثاني128
الأمر الثالث128
الأمر الرابع130
في الجواب عن احتجاج القائلين بأنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة137
الجواب عنه بالمعارضة137
الوجه الأوّل138
الوجه الثاني138
الوجه الثالث140
الوجه الرابع141
الوجه الخامس143
الوجه السادس147
الوجه السابع150
الوجه الثامن151
الجواب عن احتجاج القائلين بأنّ دلالة الألفاظ ذاتيّة بالمناقضة151
الإرادة غير صالحة للترجيح152
الخطور أيضًا غير صالح للترجيح153
جواب آخر153
الإشكال في الوجهين المذكورين لإثبات الترجيح155
والمقام الثاني: في تفسير الوضع وما يترتّب عليه من الفوائد157
ص: 438
الفائدة الأولى: في تفسير الدلالة وما يتوجّه إليه من المناقشة157
الفائدة الثانية: في تقسيم الدلالة إلى الأقسام الثلاثة162
الكلام هنا في أمور163
الأمر الأوّل: في أنّ المطابقة والتضمّن والالتزام من الدلالات اللفظيّة، أو بعضها لفظيّ وبعضها عقلي163
في وجه كون المطابقة والتضمّن من الدلالة اللفظيّة دون الالتزام166
الإيرادات الواردة في هذا المقام167
الإيراد الأوّل167
الإيراد الثاني169
الإيراد الثالث169
الجواب عن الإيراد الثاني170
الجواب عن الإيراد الثالث170
الإيراد الأوّل وارد172
الأمر الثاني: في أنّ حصر الدلالات في الأقسام الثلاثة غير صحيح173
الأمر الثالث: في أنّ دلالة الألفاظ المجازيّة على المعاني المجازيّة مطابقة لا التزام.......176
الإشكال في القول الثاني177
الإشكال في القول الأوّل177
الوجه الأوّل177
الوجه الثاني178
ص: 439
الوجه الثالث179
إيراد وتخليص181
الإشكال الأوّل181
الإشكال الثاني182
الجواب عن الإشكال الأوّل182
الوجه الأوّل: في أنّ الدلالة على الخارج اللازم ليس التزامًا مطلقًا182
الوجه الثاني: إرادة المعنى العامّ من الوضع في الالتزام يستلزم امتناع تحقّق الالتزام بالنسبة إلى الحقائق، مع الجواب عنه183
الجواب عن الإشكال الثاني186
إيراد آخر187
إيراد كلام لتنبيه مرام187
الجواب عن الإيراد188
والمقام الثالث: في التكلّم إلى أصل المطلب والبحث عن تحقيق المقصد189
الأقوال في واضع اللغات190
القول الأوّل190
القول الثاني190
القول الثالث191
القول الرابع193
مختار المصنّف ومستنده193
الدليل الأوّل193
ص: 440
الاعتراض على القول بالتوقيف194
الاعتراض الأوّل194
الجواب عن الاعتراض الأوّل197
ما اشتهر من حدوث لغة العرب في زمان إسماعيل (علیه السلام) غير صحيح198
الاعتراض الثاني200
الجواب عن الاعتراض الثاني200
الإيراد في المقام من وجه آخر204
الجواب عن أصل الإيراد206
إيرادٌ آخر208
وجه اختلاف اللغات في ذرّيّة آدم مع علمه بجميع اللغات208
الجواب عن الإيراد209
الدليل الثاني210
الإيراد على الدليل الثاني210
الجواب عن الإيراد211
احتمال آخر للآية الشريفة213
الاستدلالات الّتي ذكرها في النهاية عن أصحاب التوقيف214
استدلالٌ آخر للقول بالتوقيف217
الجواب عنه217
دليل القائلين باصطلاحيّة اللغات218
ص: 441
الدليل الأوّل218
الجواب عن الدليل الأوّل218
الدليل الثاني220
الجواب عن الدليل الثاني221
مستند القائلين بالتفصيل223
مستند القائلين بالتوقّف224
في أنّ استناد الوضع إلى الله لا ينافي القول بعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة 225
ذكر كلام لإفضاح مقال228
رأي المؤلّف في المسألة229
الفصل الثالث231
في الحقيقة العرفيّة231
المبحث الأوّل: في تحديدها وتعريفها231
مختار المصنّف في المسألة233
والمبحث الثاني: في تقسيمها إلى العامّة والخاصّة235
إيراد مقال لدفع إشكال236
المبحث الثالث: في ثبوت الحقيقة العرفيّة وما يناسب تلك المقالة238
في الداعي لتغيير اللغة وثبوت الحقيقة العرفيّة239
استدلال القائل باستحالة الحقيقة العرفيّة241
في أنّه هل يصحّ حصر الحقائق في الأقسام الثلاثة أم لا؟242
ص: 442
ردّ على من زعم أنّ الأعلام ليست بحقيقة ولا مجازًا242
الأعلام مندرجة تحت العرفيّة الخاصّة245
استقصاء عقليّ245
الفصل الرابع247
في الأمور المتعلّقة بالأقسام المذكورة للحقائق247
المبحث الأوّل: في تعيين الموضوع له247
في أنّ الألفاظ موضوعة بإزاء المعاني الذهنيّة أو الخارجيّة247
مستند القول الأوّل: مستند القول بكون الألفاظ موضوعة للمعاني الخارجيّة مع الجواب عنه248
الجواب عن مستند القول الأوّل بالمعارضة249
الوجه الأوّل249
الوجه الثاني249
الجواب عن الوجه الثاني250
الجواب عن المعارضة بنحوٍ آخر250
الوجه الثالث251
الجواب عن الوجه الثالث251
الجواب عن مستند القول الأوّل بالمناقضة252
الجواب عن المناقضة252
مستند القول الثاني: حجّة القول بأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الذهنيّة دون الخارجيّة.252
ص: 443
الجواب عن مستند القول الثاني بالمنع255
الجواب عن مستند القول الثاني بالمعارضة256
الوجه الأوّل256
الوجه الثاني257
الوجه الثالث258
في أنّ النزاع في وضع الألفاظ مبنيٌّ على النزاع في مسألة المعلوم بالذات على ما ذكره بعضهم259
القول الثالث ومستنده:266
الجواب عن مستند القول الثالث267
المختار من بين الأقوال: القول الرابع270
تنقيح المقام270
الأمر الأوّل: فيما يتوجّه على المختار من الإيراد ودفعه270
الإيراد الأوّل270
الإيراد الثاني271
الدفع عن الإيراد الأوّل272
الوجه الأوّل272
الوجه الثاني272
الدفع عن الإيراد الثاني273
فيما يمكن أن يقال في دفع الإيراد275
فيما يتوجّه عليه275
ص: 444
الحقّ في الجواب عن الإيراد الأوّل276
الحقّ في الجواب عن الإيراد الثاني279
تنبيه279
والأمر الثاني: هو أنّ وضع الألفاظ للمعاني ما كانت معانٍ باعتقاد المستعمل والمكلّف، أو في نفس الأمر والواقع281
مختار المؤلّف282
المبحث الثاني: في أنّ المناط في حمل الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة على ماذا؟284
في أنّ الأحكام الشرعيّة بأسرها توقيفيّة284
وجوه الإيراد في المقام286
الإيراد الأوّل286
الإيراد الثاني287
الإيراد الثالث287
الجواب عن الإيراد الأوّل288
الجواب عن الإيراد الثاني288
الجواب عن الإيراد الثالث289
فيما يتوجّه على الوجهين289
الجواب عمّا يتوجّه على الوجهين290
التخلّص عن ذلك بوجوه293
الوجه الأوّل293
ص: 445
الوجه الثاني294
الوجه الثالث294
إيراد آخر في المقام297
الجواب عن الإيراد298
تذييل فيه تكميل299
المطلب الأوّل: لكلّ من لفظ العبادات والمعاملات إطلاقان299
في تفسير الصحّة والفساد301
كلامٌ في عدّ الصحّة والفساد من الأحكام التوقيفيّة305
تنبيه305
والمطلب الثاني305
في أنّ ألفاظ العبادات أسامٍ للصحيحة أو الأعمّ307
في دفع الشروط المشكوكة بالأصل على القول بالأعمّ دون الصحيح309
في دفع الأجزاء المشكوكة بالأصل على القول بالأعمّ وأنّ انتفاء أيّ جزء لا يوجب انتفاء الكلّ في العرف311
ذكر مقال لدفع سؤال313
في دفع الأمور المشكوكة بالأصل على القول بالصحيح أيضًا314
في الثمرة بين القول بالصحيح والأعمّ317
إيراد مقال لإبراز مختار318
في أدلّة القول بالصحيح318
الدليل الأوّل318
ص: 446
الدليل الثاني321
الدليل الثالث325
في النصوص الدالّة على صحّة السلب عن العاري عن بعض الشرائط والأجزاء325
إيرادات وتفصّيات329
الإيراد الأوّل329
الإيراد الثاني329
الإيراد الثالث330
الإيراد الرابع330
الجواب عن الإيراد الأوّل331
الجواب عن الإيراد الثاني332
الجواب عن الإيراد الثالث332
الجواب عن الإيراد الرابع332
نقل الكلمات الواصلة إلينا من علمائنا الدالّة على أنّ الألفاظ عندهم أسامٍ للصحيحة333
المناقشة في بعض النصوص بوجه آخر346
في أدلّة القول بالأعمّ348
الدليل الأوّل348
النوع الأوّل348
النوع الثاني348
ص: 447
النوع الثالث350
وجه الاستدلال بالنسبة إلى النوع الأوّل350
وجه الاستدلال بالنسبة إلى النوع الثاني351
وجه الاستدلال بالنسبة إلى النوع الثالث352
الجواب عن الاستدلال بالنسبة إلى النوع الأوّل352
الجواب عن الاستدلال بالنسبة إلى النوع الثاني353
الجواب عن الاستدلال بالنسبة إلى النوع الثالث357
الدليل الثاني358
الجواب عن الدليل الثاني358
الدليل الثالث359
الجواب عن الدليل الثالث360
في المؤيّدات الّتي ذكرت للقول بالأعمّ مع الجواب عنها363
إيراد كلمات للتفصّي عن مؤيّدات363
التأييد الأوّل363
الجواب عن التأييد الأوّل363
التأييد الثاني مع الجواب عنه365
تأييد ثالث مع الجواب عنه370
تأييد رابع مع الجواب عنه375
إنّ النزاع في أنّ الألفاظ الشرعيّة أساميٍ للصحيحة أو الأعمّ غير مختصّ بالعبادات، بل متحقّق في المعاملات أيضًا378
ص: 448
كلام على ما ذكره شيخنا الشهيد أعلى الله مقامه380
ومن المهمّ في هذا المقام التنبيه على أمرين:382
الأمر الأوّل: في دفع المشكوك بالأصل مطلقًا ولو كان جزءًا382
الترتيب في الذكر لا يفيد الترتيب في الحكم إلّا في كتاب الله تعالى383
الأمر الثاني388
الفهارس الفنّيّة393
فهرس الآيات القرآنيّة393
فهرس أحاديث المعصومين (علیهم السلام) 399
فهرس أسماء المعصومين (علیهم السلام) والأعلام403
فهرس الكتب والمؤلّفات409
فهرس مصادر التحقيق413
فهرس المحتويات433
ص: 449